عناوين السياسة الخارجية الأميركية لكل من المرشح الجمهوري للرئاسة، جورج دبليو بوش، والمرشح الديموقراطي المفترض، جون كيري، تكاد تكون متطابقة. الفارق الرئيسي، لربما، هو في: أولاً، عقيدة الاستباقية التي يعتنقها بوش وينتقدها كيري. ثانياً، في مركزية التحالفات الاقليمية والعمل الدولي الجماعي التي يتبناها كيري ويتهاون بوش بها. وثالثاً، الصدق والنزاهة مع الشعب الأميركي الذي يشكك كثير من الأميركيين بأنهما ضمن مواصفات بوش، ويؤكد كثير من الأميركيين بأنهما ضمن صفات كيري. ولكن، لأن كيري انقلب تكراراً على مواقفه منذ دخوله حلبة المعركة على الرئاسة، فإن الشهور الثماني المقبلة قد تمحو تلك الفوارق. فكيري وقع فريسة المزايدة وبات يقول الشيء ونقيضه باسم أولوية الأمن القومي. اسرائيل في مرتبة متساوية مع أولوية الأمن القومي وهي المستفيد الأول من المزايدة. ولأن العراق، ومنطقة الشرق الأوسط الأوسع، والحرب على الارهاب، وفرض الديموقراطية بين المواضيع التي ستلوكها الحملات الانتخابية، فإن الضغوط ستزداد على دول المنطقة وستمتد الحرب على الارهاب، بالذات في الساحة العراقية. فالعراق باقٍ محطة مهمة في سلسلة المفاجآت الآتية أثناء المعركة الرئاسية الأميركية، كما في السياسة الخارجية الأميركية لأمد طويل. لا مفاجآت في الملف العربي الاسرائيلي الا بمقدار ما يرسمه رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون من مفاجآت. الشهور الثماني المقبلة فترة استثمار وحصاد معاً بالنسبة الى شارون الذي يدرك أن اسرائيل مسألة داخلية لأميركا سيما في الفترة الانتخابية، وان الحزبين الجمهوري والديموقراطي يتنافسان على إرضاء القيادات والأصوات اليهودية. لذلك، انها فرصة ذهبية للاملاء على الولاياتالمتحدة الأميركية كل وأي ما تريده اسرائيل. مواقف جان كيري من الجدار الفاصل، والعملية السلمية، وتوأمة حرب اميركا وحرب اسرائيل على الارهاب، والسلطة الفلسطينية، مواقف ملفة ليس فقط من حيث فحواها وانما أيضاً من حيث تطورها منذ دخوله المعركة الانتخابية. عندما خاطب كيري"المؤسسة الأميركية العربية"منتصف شهر تشرين الأول اكتوبر الماضي، أعلن ان الجدار الفاصل الذي تبنيه الحكومة الاسرائيلية داخل الأراضي الفلسطينية جداراً يعيق السلام، وقال:"لسنا في حاجة الى حاجز آخر أمام السلام". الاسبوع الماضي، أعلن كيري أثناء النقاش بين المرشحين الديموقراطيين في نيويورك ان هذا"سور ضروري لأمن اسرائيل الى حين أن يكون لهم الاسرائيليون شريكاً قادراً على التفاوض". مطلع كانون الأول ديسمبر خاطب كيري"مجلس العلاقات الخارجية"في نيويورك، دعا كيري الى استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين من حيث ما توصلا اليه في طابا قبل انتخاب شارون. قال ان في ذهنه تعيين مبعوث دائم الى المنطقة وذكر ثلاثة أسماء: الرئيس السابق جيمي كارتر، الرئيس السابق بيل كلينتون، ووزير الخارجية السابق جيمس بيكر. هذه الأسماء أثارت حملة على كيري من قطاعات يهودية أميركية مهمة كما من اسرائيل على أساس ان كارتر وبيكر"معاديان"لاسرائيل، وان كلينتون سيضغط عليها لو سُلم الملف. يوم الأحد الماضي، وأثناء اجتماع مغلق بين جان كيري وقيادات المنظمات اليهودية في نيويورك، تحدث كيري عن رجلين مقبولين لدى اسرائيل، مستشار الأمن القومي السابق صموئيل بيرغر والمبعوث السابق للشرق الأوسط دنيس روس، كمرشحين بدلاً من الثلاثة المرفوضين. الأهم، ان كيري أثناء ذلك الاجتماع، تعهد بالالتزام باستمرار سياسة بوش القائمة على منع مجلس الأمن من تبني أي قرار يمكن اعتباره منحازاً ضد اسرائيل وذلك باستخدام"الفيتو"ضده. قال انه، لو أصبح رئيساً، سيضغط على الدول العربية كي تدفع نحو قيادة بديلة للفلسطينيين عن قيادة ياسر عرفات. التزم بالتوأمة بين أميركا واسرائيل في الحرب على الارهاب. وزايد على بوش في مدى استعداده تقديم الدعم الكامل لاسرائيل، متراجعاً عملياً عما سبق وقاله، وأثار زوبعة، عن سياسة"منصفة وعادلة"بين اسرائيل والعرب. جون كيري قدم للقيادات اليهودية مؤهلات عرقية أيضاً. اصطحب معه أخاه كاميرون ليقول انه سيكون أول رئيس أميركي له أقرباء يهود وله خلفية يهودية. فكاميرون اعتنق اليهودية، وأجداد كيري كانوا يهوداً اعتنقوا الكاثوليكية وهم يهربون من أوروبا. أخت جدته وشقيق لها، حسبما صدر عن فيينا، لاقا حتفهما في معسكر للنازية. أحد المراقبين للعملية الانتخابية الأميركية علق بنكتة. شهر تشرين الأول اكتوبر يعتبر شهر المفاجآت في الانتخابات الأميركية. ماذا ستكون المفاجأة"مفاجأتان: العثور عن أسامة بن لادن، واكتشاف بوش ان له جذور يهودية تؤهله للقول: أنا أيضاً". لماذا كل هذا التسابق والمزايدة على ارضاء القيادات والأصوات اليهودية على رغم ان حجمها ليس ضخماً؟ الاجابة في كلمة واحدة: المال. هذا حسب رجل سبق ودخل حلبة الانتخابات في أميركا ويعرف تماماً خفايا ما يُعرف"بالمؤسسة"، التي لا تقتصر على النفوذ اليهودي، إلا أن اليهود الأميركيين أحسنوا النفوذ فيها. اليهود الأميركيون يحسنون انفاق الأموال الكبيرة لديهم في استثمار سياسي مدروس. الذين يعارضون السياسة الأميركية المنحازة كلياً لصالح اسرائيل، حتى على حساب المصلحة الأميركية، إما لا يملكون هذا القدر الهائل من المال، أو أنهم لا يحسنون انفاق الأموال. ثم هناك الشركات الضخمة، والمصالح الخاصة واتكالية العملية الانتخابية الأميركية على التبرعات التي تصبح شبه استثمار مباشر في انتظار عائدات عندما يدخل المنتخب البيت الأبيض. وهنا أيضاً يعلو صوت المال على أي صوت آخر. جون كيري لا يملك سوى حوالى ثلاثة ملايين دولار لحملته الانتخابية مقارنة مع حوالى 511 مليون دولار تحت تصرف بوش مع التعهد بمضاعفة المبلغ اذا برزت الحاجة. ولأن المال أساس لكيري اذا كانت أمامه حقاً فرصة استراق البيت الأبيض من بوش، فإنه بدأ أقلمة سياساته ليس فقط في الموضوع الاسرائيلي الفلسطيني وانما أيضاً في موضوع العراق حيث تتلاقى المصلحة الاسرائيلية مع مصالح الشركات الكبرى مع توجهات اليمين المتطرف مع القواعد العسكرية الأميركية كجزء رئيسي في استراتيجية بعيدة المدى. جون كيري انتقد تكراراً سياسة بوش نحو العراق، على رغم تصويته مع قرار الحرب. الآن يقول:"مهما كان تفكيرنا نحو قرارات ادارة بوش، واخطائها، سيما في العراق، علينا الآن واجب مهيب لاستكمال المهمة في ذلك البلد وفي افغانستان. العراق اليوم جاذب ومركز رئيسي للارهاب. قواتنا في العراق تدفع ثمناً يومياً. وسلامة أمننا في بلدنا قد تتعرض يوماً ما للخطر مع تحول العراق الى ساحة تدريب لأجيال ارهابية مقبلة. كيري اليوم يتعهد بأن"علينا البقاء في العراق الى حين اتمام المهمة". توقف عن الدعوة الى استبدال حاكم العراق، بول بريمر، وسلطة الائتلاف"بممثل خاص للأمم المتحدة يراعي أيضاً دور الولاياتالمتحدة الأمني". وهو في منتهي الغموض في شأن الاحتفاظ بالعراق كقاعدة عسكرية أساسية في الاعتبارات الاستراتيجية الأميركية. يتحدث كيري عن"ضرورة اعطاء الأممالمتحدة دوراً قيادياً في مساعدة العراق على تطوير المؤسسات السياسية الجديدة". وهذا تماماً ما أصبحت ادارة بوش توافق عليه بعدما كانت استبعدت الأممالمتحدة عن مثل هذا الدور فلا فارق الآن بين الموقفين. كيري يريد استراتيجية شاملة ضد الارهاب لمحاربته أينما كان وتعطيه حرية التصرف"لن أتردد في اصدار الأوامر باتخاذ اجراءات عسكرية مباشرة عندما تتطلب الحاجة لالقاء القبض وتدمير المجموعات الارهابية وقياداتها". بالطبع، يستغل المسألة ليطعن ببوش وادارته فيقول:"ما لم يفهمه جورج بوش والصقور في الكراسي هو ان مؤسستنا العسكرية أكثر من مجرد تحريك الإبر على خريطة أو شراء اجهزة أسلحة جديدة وغالية". انه يزايد على استراتيجية بوش في حرب الارهاب بقوله انه سيأمر القوات الأميركية القديرة القيام بعمليات عسكرية أينما تتطلب الحاجة باسم ملاحقة وتدمير الارهاب، يقول:"انني لا أحمّل جورج بوش خطيئة الافراط في الحرب على الارهاب. اعتقد بأنه فعل أقل مما يجب". نظرياً، كيري ضد عقيدة الاستباقية التي تعطي حق شن عمليات عسكرية أينما كان استباقاً لخطر آت على أميركا بغض النظر عما اذا كان الحلفاء وافقوا أو عارضوا. فهو يريد"احياء التحالفات"، ولكن، يقول كيري:"ان الحلفاء يمدون أيادي اضافية لنا في هذا الصراع، انما لا رئيس سيسمح أبداً لهم ان يقيدوا أيادينا ومنعنا من فعل ما يجب فعله". يتابع كيري في خطابه الذي ألقاه في 72 شباط فبراير في كاليفورنيا"كرئيس، لن انتظر الضوء الاخر من الخارج عندما تتعرض سلامتنا للخطر. لكنني لن أُبعد هؤلاء الذين في وسعهم ويجب عليهم أن يقاسمونا العبء"..."يجب عليهم"، مهمة. فهو أكثر كاثوليكية من البابا، أو أكثر يهودية من الحاخام، عندما يتعلق الأمر بتوقعات بوش في اطار"اما معنا، أو ضدنا". جون كيري يريد فرض العقوبات على الدول التي يجد تعاونها غير كاف. وهو يتعهد بشن حملة ضد اولئك الذين يعتقد بأنهم يمولون الارهاب عنوانها"فضح الاسماء والتعييب". فإذا لم يجد ذلك"سنصّد باب الجهاز المالي الاميركي في وجههم". جون كيري يربط مباشرة بين تمويل الارهاب وبين المملكة العربية السعودية تجاوباً مع الحملة الاسرائيلية على السعودية. يقول:"علينا قطع تدفق التمويل للارهابيين. في حالة السعودية، ان ادارة بوش تبنت اسلوب المهادنة إزاء تمويل وغسل الأموال الارهابية. إذا أصبحت رئيساً، سنفرض عقوبات مالياً قاسية ضد الدول أو البنوك المتورطة في غسل الأموال أو التي تفشل باتخاذ الاجراءات ضده". حتى في موضوع الديموقراطية، يكاد كيري يتبنى ما ينادي به بوش مع"ملح"المزايدة. يتحدث عن"سد الفجوة بين الاسلام وبقية العالمش في مبادرة"الديبلوماسية". يريد"جهداً دولياً للتنافس مع المدرسة الراديكالية". وهو يختزل الاحجاج الفلسطيني على الاحتلال والاخضاع والاهانة بقوله:"لقد شاهدنا ما يحدث عندما يصبح الطعام اليومي للشباب الفلسطيني الدعاية ضد اسرائيل". كيري يريد زيادة سرعة العمل الأميركي من أجل الديموقراطية من خلال"دعم قوى الديموقراطية ضد الأنظمة المستبدة ومن خلال مكافأة الحكومات التي تتخذ خطوات حقيقية نحو التغيير". كل هذه مواقف اليوم التي اختلفت كثيراً عن مواقف الأمس والتي أمامها ثمانية شهور لتختلف مجدداً ليصبح كيري ممولاً قادراً على خوض المعركة النهائية. جزء كبير من الناخب الأميركي، الديموقراطي أساساً وبعض من المستقلين والجمهوريين، يريد أكثر ما يريد التخلص من جورج دبليو بوش وصقوره وزمرة المتطرفين حوله. هذا الجزء مؤمن ان ادارة بوش كذبت على الشعب الاميركي في شأن أسباب حرب العراق وأنها تفتقد النزاهة في معاملتها الأوسع للأميركيين وأنها تلبي ما تريده الشركات الكبرى سيما تلك في الصناعات العسكرية وفي القطاع النفطي. قد لا يكون جون كيري مؤهلاً من حيث السياسة والمواقف، لكنه، في رأي هؤلاء، يتمتع بأهلية وقدرة الحاق الهزيمة ببوش وطرده من البيت الأبيض. فهو، من وجهة نظرهم، لن يكذب على أميركا، ولن يورطها في حروب مستقبلية أو استباقية، وسيحافظ على التحالفات المهمة مثل حلف شمال الأطلسي، ولن يأخذ على تقه مهام اسقاط أنظمة طبقاً لعقائدية الذين حوله. جون كيري معرّض لأن يخسر هذه الثقة به اذا استمر في نمط التراجع عما قال والتقلب في المواقف والمزايدة لدرجة تحوله صقراً من صقوره جورج دبليو بوش. جورج بوش ونائبه ديك تشيني وفريقهم الانتخابي يستعدون لتعرية جون كيري تماماً في نقطة ضعفه: من هو حقاً، وماذا يقول حقيقة؟ قد يشعران بالاطمئنان إزاء ضعف المرشح الديموقراطي، لكنهما لا يريدان المفاجآت. وأكثر ما يقلقهما من مفاجآت آت من الساحة العراقية، حيث الانتصار ما زال مرشحاً للهزيمة.