كثيراً ما يقع الكاتب السياسي الأسبوعي في بعض الحيرة لاختيار الموضوع الذي يستحق التركيز عليه بكثافة تحليلية، نظراً الى هذا المزيج من التعددية والمواضيع وكلها مهم ومُلح ويستحق التوقف عنده لأكثر من اعتبار وفائدة وعبرة. لكننا نكتشف في نهاية الأمر أن القضايا الإقليمية والدولية متشابكة ومترابطة ببعضها بعضاً. فمثلاً هل نكتب عن آرييل شارون وكيف أنه في حال من الذروة لتهديد حياته بالاغتيال بسبب ثورة المستوطنين عليه؟ أو نلقي الضوء على المجازر التي ارتكبت في غزة وسقوط ما يزيد على مئة وأربعين شهيداً وتدمير أكثر من ألف وخمسمئة منزل وما من صرخة احتجاج، إلا العبارة التي وردت في خطاب وزير الخارجية الفرنسية بارنييه الذي ألقاه في جامعة تل أبيب وقال فيه أن التاريخ علمنا أننا لا نختار أعداءنا... وأنه يجب عدم التغاضي أو السكوت عن تدمير هذا العدد الهائل من المنازل وتشريد المزيد من الفلسطينيين؟ شكراً لوزير الخارجية الفرنسية على صحوته المتأخرة، خصوصاً أن ديبلوماسية بلاده هي على تناغم تام مع الموقف الأميركي بدءاً بالقرار 1559 الخاص بسورية في لبنان وعلاقات سورية ولبنان معاً، إلى الموقف المتشدد من إيران حول امتلاكها إنتاج الأسلحة النووية، وكأن فرنسا طوت صفحة الاختلاف الذي وصف ذات يوم بالحدة والشدة حول الموقف من الحرب الأميركية البريطانية على العراق، والآن يبدو كأن التسليم الفرنسي تام حيال المواقف الأميركية في شؤون المنطقة المعلقة خصوصاً الغارق منها في الوحول العراقية، والركام والأشلاء والدمار الفلسطيني الذي لا سابق له حتى في عز الانتفاضة والانتقام الإسرائيلي. وحتى لا نبقى ندور في الحلقة التي يمكن أن تصيب القارئ العربي بالغثيان والدوران فقد آثرنا التركيز على الانتخابات الأميركية باعتبار أننا إذا كنا نريد أن نعرف ماذا سيحدث في العراق؟ وما هو مصير شارون؟ وماذا سيحدث في فلسطين المحتلة؟ وإلى أي مدى هي جدية واشنطن في الذهاب في تطبيق البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن بالإجماع والذي يعبر عن"قلقه"من تقرير الأمين العام كوفي عنان بهذا الشأن الخاص بلبنان وسورية... فعلينا أن نعرف ماذا جرى وسيجري خلال الأيام القليلة المقبلة في الولاياتالمتحدة واليوم الفاصل الثاني من شهر تشرين الثاني نوفمبر حين يجدد لجورج دبليو بوش أو تحدث معجزة سياسية تقلب المواقف رأساً على عقب وتأتي بجون كيري رئيساً جديداً للولايات المتحدة. ثمانية أيام تفصلنا عن إجراء الانتخابات الأميركية، رغم أن هذه الانتخابات تمّت فعلاً في عدد من الولايات خلال الأيام القليلة الماضية ضمن نظام انتخابي متطور يسمح بهذا الإجراء منعاً لضغوط معينة قد لا تتحملها التكنولوجيا الأميركية على تطورها المثير. لأن التجربة المريرة التي حدثت في الانتخابات السابقة قبل أربع سنوات لا تزال ماثلة في الأذهان خصوصاً ما شهدته ولاية فلوريدا التي ذهبت مثالاً في التاريخ وهي الآن واحدة من الولايات الرئيسية التي يجري التنافس عليها بشدة وبحدة بين بوش وكيري. أما استطلاعات الرأي العام فلا تزال تتراقص وستبقى كذلك حتى الساعات الأخيرة التي تسبق عمليات الاقتراع. فمن استطلاع يمنح بوش أكثرية ثماني نقاط إلى استطلاع آخر يُفيد بأن الفجوة ضاقت بين بوش وكيري وأن النتائج متقاربة جداً. ويملك المرشح رالف نادر، المؤكد أن لا فرصة له للفوز، رصيداً لإسقاط أحد المرشحين والغالب أن المستهدف سيكون جون كيري. على أن السؤال الكبير: ما هي أهمية هذه الانتخابات ونتائجها على المنطقة العربية العربية البحتة والشرق أوسطية وفق تعابير البعض؟ في المواقف: تعودنا أن تركز الحملات الانتخابية الأميركية على القضايا الداخلية من الضرائب وشؤون الضمان الصحي أو الضمان الاجتماعي أو الإجهاض وغير ذلك من التي تهم الحياة اليومية للمواطن الأميركي. لكنها المرة الأولى التي يسيطر فيها العامل الخارجي على هذه الانتخابات، ممثلاً بالتدخل الأميركي في العراق وما يتعرض له من انتكاسات أمنية ونفسية وسياسية. وقد لاحظنا طغيان الوضع في العراق على المناظرات الثلاث التي جرت بين جورج دبليو بوش وجون كيري. والواضح أن جدول أعمال الرئيس بوش الانتخابي هو حربه على الإرهاب والتمسك بالتبشير بدعوته على أنه هو الرئيس الوحيد القادر على الدفاع عن الأميركيين وأميركا. ومن منطلقه الخاص فإن حربه على الإرهاب نجحت باعتبار أنه لم يقع أي حادث إرهابي كبير بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، وباتت الفلسفة البوشية معروفة بأنه يُفضل أن يُقاتل الإرهاب في معاقله، لا أن ينتظر الإرهاب كي يأتي إلى أميركا. وكل هذا التصرف يمكن اختصاره بإيمان الرئيس الحالي بسياسة"الحروب الاستباقية"بقطع النظر عن الحيثيات والدوافع والموجبات لهذه الحرب، كما هي الحال مع العراق. اذ سقطت كل الأسباب والذرائع التي أعلنها الرئيس بوش وإدارته لتبرير الحرب على العراق حيث لم يتضح وجود أسلحة دمار شامل مطلقاً، وأن صدام حسين تخلص من هذه الأسلحة بعد حرب الخليج الثانية العام 1991 . وتكاد تقارير الأجهزة التابعة للإدارة الأميركية الحالية تضع اللوم ! على صدام حسين لأنه"خيب آمال"الرئيس بوش بعدم العثور على أسلحة دمار شامل. كذلك سقط الاعتبار الآخر بوجود ارتباط وعلاقات عمل بين نظام صدام حسين والقاعدة، بل أن من المفارقات الملفتة هي أن هذا الأمر تحقق بعد الحرب الأميركية على العراق وبروز كل هذه العناصر الإرهابية التي وفدت وتدفقت من دول الجوار من دون أن يملك السيد بول بريمر السيئ الذكر بُعد النظر أو التكتيك البديهي بضبط الحدود التي تجمع العراق مع 5 دول عربية بالإضافة إلى إيران، في حين سارع أو تسرّع في حل الجيش العراقي في جرّة قلم جرّت عليه وعلى القوات الأميركية الوبال التي لا تزال فصوله مستمرة، مع تصعيد متزايد مرتقب في الأيام والأسابيع المقبلة. ومن هذا المنطلق تبدو المعادلة التي لا تحتاج إلى الكثير من النقاش أن شبح بن لادن و"تلميذه النجيب"أبو مصعب الزرقاوي سيظلل هذه الانتخابات وأن إعلان الزرقاوي عن مبايعته الحركية"والنضالية"إلى بن لادن إذا كان حقيقياً ستكون كلها عوامل فاعلة في الانتخابات لصالح الرئيس جورج دبليو بوش بكل تأكيد، عكس البعض الذي يرى أن تصعيد أعمال العنف في العراق سيقلل من أهمية فرص جورج دبليو للتجديد لولاية ثانية للبقاء في البيت الأبيض. أما بالنسبة الى المنافس الديموقراطي جون كيري فرغم الصعوبات التي يعاني منها بوش في سياسته في العراق وفي أماكن أخرى من العالم فهو لم يتمكن من إحراز تفوق واضح يضمن له الفوز على بوش، بل بقي في أحسن الأحوال متأخراً عنه بعض النقاط أو متساوياً معه بالمنخار على لغة أهل سباق الخيول. ولكن لنكن واقعيين ونسأل أنفسنا نحن في المنطقة العربية: ما هو الفارق بين إعادة فوز بوش أو فشله؟ أو ربما فوز المرشح الديموقراطي جون كيري؟ بصريح العبارة أننا نواجه المعادلة التالية: نحن بين سيئ عرفناه هو جورج بوش، مقابل أكثر سوءاً سنتعرف إليه وعليه إذا ما صوتت غالبية الشعب الأميركي لأسباب تعود لها لإنجاح جون كيري. ومن دون الدفاع عن سياسات بوش وارتكاباته الخاطئة في الشرق الأوسط، فإن من اطلع بدقة وإمعان على البرنامج الانتخابي لجون كيري لوجده أكثر قُبحاً وسَفالة سياسية ضد العرب بوجه الإجمال. وإذا بلغ الرئيس بوش حدّ تأييد أصوات اليهود وغض الطرف عن ممارسات آرييل شارون شريكه في المعاناة من الإرهاب! فقد بلغ من انطباع كيري أن تعلم اللغة العبرية وخاطب اليهود بلغتهم لإحساسهم بدفء التعاطف والتملق والدفاع عن مصالح إسرائيل. كما أنه حرص على إرسال شقيقه إلى إسرائيل. وهو الذي ترك الكثلكة واعتنق اليهودية في محاولة لكسب أصوات المزيد من اليهود إلى محلته. إذن أين هو الكسب بالنسبة للعرب وقضاياهم؟ ونحن لا نأتي بجديد عندما نتحدث عن العلاقات والروابط العضوية القائمة بين أميركا وإسرائيل، وهذه هي الشكوى الدائمة من"اللوبي العربي"الذي بدأ يتكون ولو بتواضع شديد لتعليق كل الفشل العربي في التأثير في الرأي العام الأميركي على شماعة النفوذ الصهيوني وستنقضي أجيال وأجيال ربما وستبقى نفس الأعذار الهاربة من المسؤولية هي السائدة والمطروحة في ساحة المنازلة العربية اليهودية على الساحة الأميركية. وهكذا يتم تفويت الفرصة بعد الأخرى برفع الأكتاف تنصلاً من المسؤولية. ومن الأسئلة المطروحة: هل أن انتخابات الثاني من تشرين الثاني نوفمبر المقبل هي مسائلة ومحاسبة حول الماضي؟ أم أنها ستركز على المستقبل! لقد قال جورج دبليو بوش خلال واحدة من حملاته الانتخابية"... سأتحمل المسؤولية عنها حرب العراق إنني بشر"وهذا أسلوب أميركي لمصارحة الأميركيين العاديين الذين ربما يقبلون الهفوات ويضربون الصفح عن الإساءات والسيئات التي أفرزها حكم بوش. أما إذا لم تتولد القناعة الكافية بذلك فربما استدارت الغالبية ولو بفارق غير كبير نحو جون كيري الفارع القامة والذي يشكو منه خصومه من عدم تمتعه"بالكاريزما"المطلوبة لمنصب رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية. وفي السباق على انتزاع الأصوات اليهودية كان توقيع جورج دبليو على القانون الخاص بمحاسبة الدول التي تعادي السامية، وأنضم إلى هذه السياسة فرنسا عبر وزير خارجيتها بارنييه في إسرائيل هذا الأسبوع. وقد جاء في توقيت انتخابي ملائم. ومن مفارقات السباق الرئاسي في أميركا أن الرئيس الروسي بوتن قلق من أن التأجيج الأمني في العراق سيؤدي إلى قطع الطريق على تجديد ولاية زميله بوش. سبحان مغير الأحوال! إذن وفي محاولة لاختصار فلسفتي المرشحين للرئاسة في أميركا نقول: إذا أُعيد انتخاب جورج دبليو بوش فهذا يعني أن غالبية الأميركيين تؤيد سياسة خوض الحروب الاستباقية لدى استشعار أي خطر آتٍ على أميركا. أما إذا أسقط الأميركيون هذا الاعتبار واتجهوا إلى ترجيح كفة المرشح الديموقراطي جون كيري فهذا يعني أن غالبية الشعب الأميركي تريد رئيساً هادئاً محاوراً غير متسرع لا يتجه بالولاياتالمتحدة إلى"سياسات كارثية"كما قالت"نيويورك تايمز"والتي بايعت"كيري العظيم"ضد بوش المغامر. لكن هذا لا يعني أن كيري الرئيس المثالي. وفي كل الحالات سيكون في أميركا عبر الانتخابات الديموقراطية فائز وخاسر... لكن لدينا في المنطقة العربية من العراق إلى فلسطين... وحتى إلى بيروت ودمشق سيكون هناك خاسرون. ربما خاسرون بصفة أقل أو أكثر، لكن لن يكون هناك رابح بنى قواعد حوار ثابتة قائمة على تبادل المصالح المشتركة مع أميركا لا على المواقف العاطفية والشاعرية والتي لا تجدي نفعاً. وسيبقى الحوار العربي الأميركي في حالة أزمة إذا لم تتغير ذهنية أسلوب معالجة العلاقات المشتركة التي يجب أن تهم الولاياتالمتحدة كما تهم العرب. لا أن يُكتفى كما يفعل البعض بالتصفيق والفرح لبلوغ سعر برميل النفط 55 دولاراً، وكأن هذا هو"الإنجاز"العربي الوحيد! وسنبقى على هامش الأحداث والتطورات الدولية إذا قررنا الاستمرار في تهميش أدوارنا وطاقاتنا وبقينا مسترسلين في نومة أهل الكهف المتواصلة من زمان. هذا دون أن ننسى أن هناك من الأميركيين الذين لا يريدون التصويت لا لبوش ولا لكيري. فقد كتب المعلق الأميركي توماس فريدمان حول هذا الأمر قائلاً:"و كنت أستطيع أن أصوت لمرشح رئاسي غير جورج بوش وجون كيري فإنني سأختار بيل كوسبي الممثل الأميركي الهزلي والمثير للضحك والسخرية". ... على الأقل هناك حرية اختيار... وهذه نعمة بحد ذاتها. أما السياسة القريبة المدى أو المتوسطة وحتى البعيدة لدينا فلا يزال القديم على قدمه: الاعتماد على لعبة القضاء والقدر، وعلى ظهور عامير إسرائيلي آخر متطرف من المستوطنين ربما أقدم على اغتيال آرييل شارون، كما حدث لإسحاق رابين. ومع أننا نريد أن نتمسك بشعارات حضارية في هذا العصر الهمجي والشرس لنقول بأننا لا نؤمن بالاغتيال ولا بالتصفيات الجسدية، وإذا كان رئيس وزراء إسرائيل يستحق مثل هذه النهاية على كل ارتكابا ته وحماقاته حبذا لو تمكن منه فلسطيني وليس إسرائيلي. وتبقى السياسات والأمنيات العربية محنطة في قطار الانتظار الطويل. ورمضان كريم والأمة أفضل حالاً. * كاتب لبناني.