بعدما استتبت معركة الترشيح في الحزب الديمقراطي لمصلحة جون كيري، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس، أصبح من المؤكد أن المواجهة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في تشرين الثاني نوفمبر المقبل ستكون بينه وبين الرئيس الحالي جورج بوش مع إمكان أن يكرر رالف نادر، داعية حقوق المستهلك، دوره في انتخابات عام 2000 حين تمكن من استقطاب حفنة من الأصوات إنما بالقدر الكافي للتأثير الفعال في مسار الانتخابات في شكل استفاد منه بوش. فالاهتمام، في الولاياتالمتحدة، يتحول إذن من المقارنة العامة بين المتسابقين للوصول إلى البيت الأبيض، إلى القراءة المتأنية لمواقفهم المتعلقة بالمواضيع الرئيسية. ومن وجهة نظر عربية، أهم هذه المواضيع هي القضية الفلسطينية، والعراق، و"الحرب على الإرهاب"، ونشر الديمقراطية في "الشرق الأوسط الكبير". وثمة استياء ويأس صامتان غالباً وناطقان أحياناً في الصحافة العربية عن "الحقيقة التي انكشفت" في شأن كيري، حول الأصول اليهودية لعائلة والده. فالموقف العربي العام من كيري هو بالتالي الارتياب، في أحسن الأحوال، إزاء سياسته العربية والفلسطينية المرتقبة. وعادة ما يجري تأطير هذا الارتياب بالتأكيد على قراءته الواقعية للطبيعة البشرية التي قل أن تجاوزت العصبيات والولاءات الفئوية. ويذكر في هذا الصدد أن تحليلاً مشابهاً دفع معظم الصحافة والفكر في العالم العربي خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية الماضية إلى تمني سقوط المرشح الديمقراطي آنذاك آل غور، لاختياره جوزف ليبرمان كنائب رئيس عتيد. وسبب هذا التمني الحار الذي ارتقى إلى حد المناصرة الصريحة غير المؤثرة طبعاً لجورج بوش كان انتماء ليبرمان الديني اليهودي، من دون اعتبار لمواقفه المعتدلة نسبياً في شأن المستوطنات والدولة الفلسطينية وحقوق اللاجئين في مقابل تحالفات بوش المشبوهة مع أوساط تنطلق من العقائدية المتشددة كما الغيبية في مناصرتها لإسرائيل. فكانت النتيجة أن أطلق بوش يد الحكومة الإسرائيلية في آعتى حملات القمع وإنكار الحقوق. ولا يكفي إذن منح المرشح صك براءة من الخلفية اليهودية لضمان توازنه في الشأن الفلسطيني، ولا يعني اكتشاف أصول يهودية له أن مواقفه من الصراع العربي - الإسرائيلي أصبحت محسومة. والواقع أن البعد اليهودي لكيري لا يقف عند حد الأصل اليهودي لجدّه في النمسا في مطلع القرن الماضي، إذ قام هذا الجد بتبديل اسمه وانتمائه الديني. ويبدو أن هذه الوقائع كانت مبهمة لكيري وأسرته إلى أمد قريب. وبعدما انكشفت، تبين أيضاً أن عدداً من أقرباء كيري وأنسبائه قضوا في الإبادة الجماعية التي أنزلها النازيون باليهود الأوروبيين خلال الحرب العالمية الثانية. إلا أن البعد اليهودي الفعّال والإيجابي في حياة جون كيري يعود إلى شقيقه كامرون كيري، الذي اعتنق الديانة اليهودية قبل زهاء عقدين، ونشط ولا يزال في الوسط اليهودي الأميركي، مهنياً واجتماعياً. فكامرون كيري، ذو العلاقات الواسعة مع العديد من الشركات والمؤسسات الإسرائيلية، هو أيضاً أحد أقرب المقربين إلى جون كيري، بل إنه يتولى مسؤولية رئيسية في حملته الانتخابية وفي توفير الاستشارات السياسية له. والمتداول عن كامرون، كما عن شقيقه جون، في الصحافة كما في الأوساط المحيطة بهما، هو التأكيد على اعتداله ونزاهته. والإشارة إلى هذا البعد اليهودي وحتى الإسرائيلي في محيط جون كيري ضروري لإبراز أهمية موقفه إزاء الموضوع الفلسطيني. فالمعتاد خلال الحملات الانتخابية الأميركية، حيث لا قيمة على الإطلاق للصوت العربي الأميركي أو المسلم الأميركي، وحيث الكتل الناخبة اليهودية الأميركية تشكل مفاصل مهمة في عدد من الولايات الحاسمة نيويورك، وكاليفورنيا، خصوصاً فلوريدا، المعتاد أن يتبارى المرشحون في المزايدة على مناصرة الصالح الإسرائيلي، وقد يعمد كيري نفسه إلى قدر من ذاك، ولا سيما في المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأميركية إيباك في أيار مايو المقبل. إلا أن اللافت حتى الآن هو أن كيري اعتمد موقفاً متميزاً حول الموضوع الفلسطيني يتسم بالتوازن في تقويم الأزمة القائمة وفي اقتراح الحلول لها. وتتضح هذه المواقف، على سبيل المثال، في الجواب الخطي الذي قدمه كيري عن أسئلة طرحتها عليه صحيفة "المدافع اليهودي" في ولايته، وهي صحيفة متشددة في تأييدها لإسرائيل. كان السؤال الأول: "هل توافق أم لا على خريطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط؟ وإذا كنت توافق، فما هو السبيل الأفضل للولايات المتحدة للسير قدماً؟". أما جواب كيري فكان: "تحقيق سلام دائم ومستقر في الشرق الأوسط هو أمر حيوي بالنسبة للأمن الوطني الأميركي ولأمن إسرائيل وسائر الدول في المنطقة، وكذلك لآمال الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية قادرة على الحياة. وهو أيضاً جزء أساس من الحرب على الإرهاب. فخريطة الطريق هي منهج مقبول، إلا أنه يتضح باستمرار أن الطرفين غير قادرين على اتخاذ الخطوات التدريجية فيما النتيجة النهائية مبهمة إلى هذا الحد. على الولاياتالمتحدة بالتالي أن تنشط فعلياً في العملية السلمية، وأن توجه كلا الطرفين إلى التركيز على الهدف النهائي القاضي بإقامة دولتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان بسلام وأمان جنباً إلى جنب، وأن تعمل على مساعدتهما لاتخاذ الخطوات الكفيلة بتعزيز ثقة كل منهما بالآخر". ورداً على السؤال: "هل تعتبر اتفاق جنيف تطوراً إيجابياً أم سلبياً؟" كتب كيري: "بذل القياديون من ذوي النوايا الحسنة من الجانبين، المواطنون العاديون منهم كما المسؤولون الحكوميون، جهوداً مشهودة في الأشهر الماضية لدفع عملية السلام قدماً، وقدم البعض منهم رؤية وتصوراً للحل النهائي. فهم يفهمون، كما فهم الرئيس كلينتون، أن من الأسهل الخروج من المأزق ووضع حد للعنف الذي يغذيه المتطرفون، إذا كانت صورة الحل النهائي واضحة، وإن لم تكن الخطوات نحو هذا الحلّ مفصّلة. وأنا أتفق مع الرئيس الأسبق جيمي كارتر ومع وزير الخارجية كولن باول حول ضرورة الترحيب باتفاق جنيف، ذلك أن هذا الاتفاق يظهر أن ثمة تأييداً على مستوى القاعدة لدى الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني للعمل في اتجاه السلام. وعلى كل الأطراف الاستفادة من كل الفرص المتاحة في هذا الصدد. وفي نهاية المطاف، لا شك في أن اتفاق السلام سيكون نتيجة تفاوض بين الجهات الرسمية. وعلى الولاياتالمتحدة أن تبقى ناشطة في هذا الموضوع وأن تنظر في كل فرصة لدفع العملية السلمية قدماً". وأهمية هذه المواقف التي عبّر عنها كيري، لجهة توازنها المدروس في الإشارة إلى الحقوق الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء، ولجهة الإصرار على تولي الولاياتالمتحدة دوراً فعالاً في العملية السلمية، تأتي على خلفية استقرار خطاب سياسي في الولاياتالمتحدة يرفض الموازنة بين حق إسرائيل كالضحية، وحق "الفلسطينيين" وليس "فلسطين" التي يكاد أن يكون ذكرها من المحرمات كالمعتدين. ويذكر هنا على سبيل المثال أن بول وولفوويتز، مساعد وزير الدفاع وأحد المسؤولين الأميركيين الذين يطيب للعديد في الصحافة العربية الإسراف في التهجم عليه لاعتبارات متعددة إنما في طليعتها سراً أو جهاراً يهوديته، كان قد تعرض للتنديد حين أشار في خطاب إلى حقوق فلسطينية في مقابل الحقوق الإسرائيلية. فالواقع القائم في الولاياتالمتحدة هو أن الخطاب السائد لا يضع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على قدم المساواة، بل يتعاطف مع الطرف الإسرائيلي ويجعل من الفلسطينيين معتدين. ولا شك إذن أن موقف كيري إزاء القضية الفلسطينية نابع من قناعات مبدئية وليس من اعتبارات سياسية. وفي حين أن هذا الموقف يبقى عرضة للتعديل السياسي في المرحلة الانتخابية المقبلة، فإنه يكشف عن إطلاع واعتدال لدى كيري في هذا الشأن، بقدر لم يكن متوفراً قط للمرشح جورج بوش في انتخابات العام 2000، حين رأت فيه الأوساط الصحافية العربية منقذاً من "الخطر" اليهودي المتجسد بليبرمان الداعي يومها إلى حل أخلاقي للمأساة الفلسطينية. * كاتب لبناني مقيم في الولاياتالمتحدة.