"... ففي "يوميات نائب في الأرياف لا تصبح مصر مجرد فكرة ميتافيزيقية خالدة، وإنما هي واقع مملوء بالبؤس والعار وقابل للزوال من خريطة الحضارة." بهذه العبارات، وبغيرها تحدث الناقد الراحل غالي شكري عن واحدة من أهم الروايات العربية التي صدرت خلال النصف الاول من القرن العشرين، رواية "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم الذي كان قد سبق له قبل اصدار هذه الرواية، ان اصدر رواية أولى لعبت دوراً أساسياً في نشوء فن الرواية في مصر وفي العالم العربي كله، وهي رواية "عودة الروح". واذا كان الحكيم قد قدم في هذه الرواية الأولى عملاً روائياً خالصاً لا لبس في روائيته وبناء شخصياته واصلاً الى حد التأرجح فيه - بحسب الكثير من النقاد - بين مذاهب فنية عدة مثل الكلاسيكية والرومانسية الواقعية، فإنه في "يوميات نائب في الأرياف" بدا أكثر التباساً، اذ جعل الرواية تروى لنا على شكل مذكرات، وعلى لسان نائب عام يعين في الأرياف ليجد نفسه هناك في مواجهة الحياة البائسة التي يعيشها الفلاحون من ناحية، ومن ناحية اخرى في مواجهة اولى الجرائم التي يتعين عليه النظر فيها. وهكذا، انطلاقاً مما يرويه لنا النائب العام في يومياته نجد انفسنا، بحسب الباحث روجر آلن في مواجهة "عادات وتقاليد مجتمع صغير في احد الأقاليم المصرية". ويلفت آلن انتباهنا في هذا السياق الى ان "حيوية الصورة التي يرسمها لنا الحكيم، توحي بأنه انما يروي جوانب من تجربته حين عمل كمدعٍ عام بعد عودته من دراسته في أوروبا". وعلى هذا النحو يمكننا، بالطبع تفهم السطور الأولى في الرواية حين يفتتحها الراوي قائلاً: "لماذا ادون حياتي في يوميات؟ ألأنها حياة هنيئة؟ كلا! إن صاحب الحياة الهنيئة لا يدونها، انما يحياها. انني أعيش مع الجريمة في أصفاد واحدة. انها رفيقي وزوجي اطالع وجهها في كل يوم، ولا أستطيع ان أحادثها على انفراد. هنا في هذه اليوميات امتلك الكلام عنها، وعن نفسي، وعن الكائنات جميعاً. ايتها الصفحات التي لم تنشر! ما أنت إلا نافذة مفتوحة اطلق منها حريتي في ساعات الضيق". غير ان شكل المذكرات الذي يتخذه هذا العمل، والغوص في أصول غاية الكتابة من كونها "مجالاً لممارسة الحرية" كما تفيدنا هذه الكلمات... واغراق الكاتب في البعد الموضوعي لعمله، وما في العمل ككل من واقعية تكاد، تحت مجهر الكاتب، تبدو سوسيولوجية، كل هذا لا ينفي اننا حقاً هنا امام عمل روائي حقيقي. اذ ان الجوهر هنا هو حكاية الجريمة المزدوجة التي تطالع نائبنا العام، فيسرد لنا احداثها ويصف "أبطالها". تبدأ الرواية، اذاً، بما يقصه علينا راويها الذي ما كاد يضع رأسه على المخدة ذات مساء وَسِنٍ حتى حركه صوت الخفير يضرب الباب ضرباً شديداً، ليدخل "عليَّ خادمي يفرك عينيه بيد، ويقدم اليَّ بالاخرى اشارة تلفونية، فادنيت الورقة من الضوء وقرأت: الليلة، الساعة 8 مساء، بينما كان المدعو قمر الدولة علوان ماشياً على الجسر بالقرب من داير الناحية، اطلق عليه عيار ناري من زراعة قصب والفاعل مجهول، وبسؤال المصاب لم يعط منطقاً وحالته سيئة، الزم الإخطار العمدة". لقد كان من شأن مثل هذه الجريمة ان تمر مرور الكرام، اذ نعرف ان جرائم كثيرة من هذا النوع ترتكب كل ليلة في كل مكان... ومن النادر ان يتوصل المحققون الى نتيجة، فتقيد الجريمة ضد مجهول. وهنا ايضاً ستقيد هذه الجريمة ضد مجهول، وكذلك ستكون حال الجريمة الاخرى التي تفرعت عنها، ذلك ان المهم هنا ليس الحدث المزدوج في حد ذاته، بل الخلفية التي يرسمها الراوي. فهذا الراوي، وهو وكيل النيابة ينتقل فور تلقيه الاشارة، الى مكان الحادث ويأمر بنقل المصاب الى المستشفى. غير ان الراوي، وسط المناخ الاجتماعي في الريف، لن يعرف الكثير عما يحدث. وفي الوقت الذي يكون فيه المصاب في المستشفى متأرجحاً بين الحياة والموت، يفهم وكيل النيابة، ان قمر الدولة فقد زوجته قبل عامين، وان هذه تركت له اختها الصغيرة ريم تعيش معه. اذاً فريم هي الشخص الوحيد الذي يمكنه ان يفيد التحقيق لذلك يقبض على ريم ويتطوع المأمور بأن تقيم في بيته ريثما يحقق معها الوكيل في اليوم التالي. وفي تلك الأثناء تبرز في الرواية شخصية الشيخ عصفور، الذي يحيط ريم برعايته ويرافق ما يحدث من دون ان يعرف احد كيف ولماذا. وفي اليوم التالي حين يتوجه الوكيل لاستجواب ريم يفاجأ بأنها اختفت تماماً. لقد هربت من بيت المأمور ويصدر الوكيل أوامره بالبحث عنها في القرى المجاورة. واذ يكون هو متوجهاً الى المستشفى أملاً في ان تكون حال قمر الدولة قد تحسنت حيث يمكن استجوابه، يلمح ريم جالسة مع الشيخ عصفور قرب المستشفى مع عشرات الزوار، فيذهب الى المأمور طالباً اليه ارسال قوة للقبض على ريم. لكن القوة اذ تتوجه للقيام بذلك، تجد الشيخ عصفور وحده. وفي الوقت الذي تعلن فيه المستشفى وفاة قمر الدولة ما ضيّع على الوكيل فرصة استجوابه، وفي الوقت الذي تتجه فيه الامور الى تقييد قتل قمر الدولة ضد مجهول، تحدث مفاجأة أخيرة: لقد تم العثور على جثة ريم طافية فوق مياه احدى الترع غير بعيدة عن القرية. وهكذا اذ تتداخل الجريمتان، ويتطلع الوكيل الى تشريح الجثتين، ولا سيما جثة ريم لمعرفة سبب موتها، يصطدم بالمواقع الاجتماعية والدينية، وينتهي الامر بتقييد جريمة قتل ريم بدورها ضد مجهول... فيما يقول لنا الراوي: "ووضعت امامي ملفات قرأت على احدها: "قضية قمر الدولة علوان"، فتذكرت ان الفاعل في هذه القضية لم يعرف، طبعاً لم يعرف ولن يعرف. وكيف يراد منا ان نعرف متهماً في قضية غامضة كهذه القضية، وكل من المأمور والبوليس، وأنا "ملبوخ" في قراءة شكاوى وجنح ومخالفات وحضور جلسات، وفي تزييف الانتخابات .... إن الأموال لتنفق هنا بسخاء في التافه من الامور، وإما اذا طُلبت لاقامة العدل او تحسين حال الشعب فإنها تصبح عزيزة شحيحة ... ذلك ان العدل والشعب... الخ، كلمات لم يزل معناها غامضاً في العقول في هذا البلد. كلمات كل مهمتها ان تكتب على الورق وتلقى في الخطب كغيرها من الالفاظ والصفات المعنوية التي لا يحس لها وجود حقيقي، فلماذا ينتظر مني انا أن آخذ على سبيل الجد روح قمر الدولة علوان؟". عندما كتب توفيق الحكيم 1898-1987، هذا العمل الذي يعد من أبرز أعماله، كان في الأربعين من عمره، هو الذي اذ ولد لأب فلاح وأم ذات أصول تركية، كان اولع بالأدب والمسرح وبقية الفنون منذ فتوته، لكنه درس الحقوق بناء على اصرار أبيه، وعاش ردحاً من حياته في فرنسا، في مرحلة من حياته بدأ يمارس فيها الكتابة في شكل جدي. ولقد كانت "عودة الروح" واحدة من اول أعماله الكبيرة المنشورة، تلتها اعمال بالعشرات في مجال القصة والرواية والمسرحية والفكر والنقد والسيرة الذاتية، مثل "عصفور من الشرق" و"أهل الكهف" و"حمار الحكيم" و"عصا الحِكم" و"شهرزاد" و"يا طالع الشجرة" و"الرباط المقدس" و"عودة الوعي" و"التعادلية" وغيرها من اعمال جعلت من الحكيم واحداً من أبرز الكتّاب العرب في طول القون العشرين وعرضه.