على الرغم من أنني قدمتُ إلى كلية الآداب في جامعة دمشق عام 1963، مدججاً بالبكالوريا الصناعية وبالبكالوريا العلمية، وعازماً على أن أتابع دراسة الهندسة، فقد عصف بي في السنة الأولى كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي". وفيما تبدد العزم على مفارقة كلية الآداب، سنة بعد سنة، توالى عصف سرديات طه حسين بي، وسيظل يتوالى سنوات بعدما غادرت الجامعة، وباتت لي ثلاث روايات حينما نادى المنادي: مات العميد. قبل ذلك وعبره، وبمقتضى الدرس الجامعي كانت سرديات شتى أخذتني إليها، سواء ما التبس منها نسبه أو كان صراحاً إلى الرواية أو السيرة أو التراجم أو المذكرات. ولعل البداية كانت مع إبراهيم المازني في ثنائية "إبراهيم الكاتب، إبراهيم الثاني"، أو مع "تربية سلامة موسى"، ثم توالت من العقاد "أنا، حياة قلم، سارة"، ومن لويس عوض "مذكرات طالب بعثة"، ومن توفيق الحكيم "زهرة العمر، يوميات نائب في الأرياف، عصفور من الشرق، عودة الروح، سجن العمر"، ومن أحمد أمين "حياتي"، ومن ميخائيل نعيمة "سبعون، مذكرات الأرقش"، ومن يحيى حقي "خليها على الله"، ومن إبراهيم عبد الحليم "أيام الطفولة"، ومن... يا للهول! من كل ذلك كان لسرديات نعيمة والمازني والحكيم فعلها الكبير في روحي. لكن فعل سرديات طه حسين كان أكبر. وربما كان ذلك ما جعلني أعود إلى بعضها، وأنا أحاول كتابة الرواية قبل أن أجرؤ على النشر ولسنوات من بعد. فبعد تدلّه القراءة بالسردية التاريخية لطه حسين، وبخاصة في ثلاثية "على هامش السيرة"، تفردت السردية السيرية والروائية بالتدله. وها هي "دعاء الكروان" تغدو أكبر حرارة بعدما صارت فيلماً سينمائياً، وها هي "المعذبون في الأرض" لا تفتأ تنادي كتاب فرانتز فانون "معذبو الأرض" لأمر أجهله حتى اليوم، إلا أن يكون أنني كنت أدرّس هذا الكتاب للطلبة. وها هي ثلاثية "الأيام" تجعلني أكبر جرأة على هتك زيف الشيخ في روايتي الأولى، كما تدلني إلى التقية في إغفال المسميات، مثلما ستتلامح لي بعد سنين، وأنا أكتب "هزائم مبكرة"، على الأقل بعودة بطل "الأيام" إلى القرية بعد غياب، وبالعصبة التي ضمته مع الزيات والزناتي. لن أنسى من ثلاثية "الأيام" ذلك الشيخ الأمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة، ويفتي في الناس، ولا أولئك الشيوخ الذين يكتبون "الكتيبة - الحجاب" يوم شمّ النسيم، لن أنسى ابنتي المأمور عزيزة وأمينة، ولا زوجة المفتش الزراعي، ولا الفرنسية التي عشقها طه حسين ، ورفضته زوجاً، ثم تزوجته. ولن أنسى سخط طه حسين على أبيه وأمه وسيدنا في الكتّاب، ولا سخريته من عمه وجده، كما لن أنسى من "حياتي أحمد أمين" الواقعة التي فصمت صداقته مع طه حسين عام 1939، مثلما لم أنسَ علاقة ميخائيل نعيمة باليهودية هيلدا وبمؤجرته يبلا وبراقصة الباليه نيونيا، كما كتب في "سبعون". قد يكون أحمد أمين تأثر ب "الأيام" كما كتب إحسان عباس وماهر حسن فهمي. وقد يكون الإخبار هو الاستراتيجية السردية لأحمد أمين، كما قد يكون التأمل هو الاستراتيجية السردية لنعيمة، لكن ذلك كله هو بعض ما كان لسردية طه حسين، مثلما كان ضمير الغائب، ومثلما كان الحوار - مما مال بالسردية إلى الروائية، فإذا بي أحسب أن نجيب محفوظ يكتب في ثلاثيته، وأنا أقرأ ما كتب طه حسين في الجزء الثاني من "الأيام" عن البيت والطريق والحارة والحاج فيروز وحانوته وعن الصوت "قرقرة الشيشة - الببغاء..."، أو أقرأ في الجزء الثالث فصل سقوط طه حسين في امتحان العالمية وفصل الحي اللاتيني - أين هي رواية سهيل إدريس - وهذه السطور: "كان حين ركب السفينة لأول مرة وخرج من زيه ذاك الأزهري، ودخل في زيه الأوروبي الجديد، قد نسي شيئاً واحداً لم يحسب له حساباً، لأنه لم يكن يخطر له ببال، نسي بصره ذاك المكفوف، وأجفانه تلك التي كانت تتفتح ولكن على الظلمة المظلمة". لقد مضت القصة والرواية على عهد طه حسين بعيداً، كما مضت أبعد في العقود الثلاثة الماضية بعد وفاته. لكن ما مال من سردياته إلى الرواية، وما مال منها إلى التأريخ والتراجم، سيبقى مفصلاً في تطور السرديات العربية الحديثة، كما كان تراثه العلمي: مفصلاً في تطور الكتابة الفكرية العربية.