ثمة طبخة تعد على نارٍ هادئة لتحريك عملية السلام تقودها مصر، بتنسيق مع الأردن وسورية، وبالتعاون مع الولاياتالمتحدة، ومع دور بريطاني نشط. كنت لاحظت في الأسابيع الأخيرة كثرة زيارات كبار المسؤولين الفلسطينيين للعاصمة البريطانية، وفي حين كان الفلسطينيون أيام الانتداب ينشدون "مندوب بلغ دولتك/ لندن مرابط خيلنا"، فإن المندوب هذه الأيام أميركي، ولا خيل أو فرسان. وقدم كل مسؤول فلسطيني رأيته عذره لزيارة لندن، الا انني اعتدت عدم تصديق أي كلام رسمي، بل انني احياناً أصدق عكسه. معلوماتي التي جمعتها من أحاديث خاصة مع ثلاثة مسؤولين فلسطينيين زاروا لندن هي عن طبخة سلام قوامها انسحاب اسرائيلي كامل من قطاع غزة، والعودة الى الوضع في 28/9/2000 في الضفة الغربية، في استحقاق عمره ستة اشهر، أي قرب نهاية آب اغسطس او اوائل أيلول سبتمبر، ثم تبدأ مفاوضات جديدة لتنفيذ خريطة الطريق. الرئيس حسني مبارك هو العنصر الأساسي في التحرك الجديد هذا، واللواء عمر سليمان، رئيس الاستخبارات، يمثله شخصياً مع الاسرائيليين والفلسطينيين والمسؤولين من الولاياتالمتحدة في المنطقة. وكان اللواء عمر سليمان سمع كلاماً ايجابياً من آرييل شارون عندما قابله في وقت سابق من هذا الشهر، فرئيس وزراء اسرائيل وعد بانسحاب كامل من قطاع غزة، وإخلاء المستوطنات من دون تدميرها، وترك الحدود تحت مسؤولية مصر، مع وعد بألا ينقل المستوطنون الى الضفة. غير ان شارون كاذب بقدر ما هو قاتل، واغتيال الشيخ أحمد ياسين له أسباب عدة بينها محاولة شارون تدمير المحاولة الجديدة او اجهاضها قبل ان تبدأ. سمعت نقلاً عن اللواء عمر سليمان ان هناك عناصر ايجابية اجتمعت لدعم التحرك المصري، فتحريك عملية السلام يساعد جورج بوش انتخابياً، ويرفع بعض الضغوط السياسية عن آرييل شارون، كما انه يرضي الاطراف الاخرى الراعية لعملية السلام، اي الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة. وهو أيضاً يصب في مصلحة الفلسطينيين الذين يجدون انفسهم داخل دوامة عنف لا مخرج منها. وهناك شروط للمضي في العملية بين أهمها ان يتصرف الرئيس ياسر عرفات كعنصر مساعدة لا اعاقة، وان يوحد الفلسطينيون الاجهزة الأمنية في ثلاثة بدل 11 أو 12 جهازاً الآن، فلا يكون هناك سوى الأمن الوطني والشرطة والاستخبارات. ويتولى المصريون تدريب رجال الاجهزة الأمنية وتأهيلهم، في حين تتحمل قوات من حرس الحدود المصري المسؤولية عن الحدود المصرية - الفلسطينية، مع اصرار الرئيس مبارك على ألا تدخل اي قوات مصرية قطاع غزة نفسه، فهو لا يريد ان تصبح القوات المصرية شرطياً يعمل لمصلحة اسرائيل. البريطانيون هم قناة الاتصال مع الولاياتالمتحدة، وقد وعدوا بدورهم أن يساعدوا قوات الأمن الفلسطينية بالتدريب وبعض التجهيزات لاعادة بنائها من التدمير الذي ألحقه شارون بها. المشروع كله تحت مظلة "خريطة الطريق"، وفي حين يريد شارون الانسحاب لأسبابه، فإنه لا يريد الخريطة، وقد كان اغتيال الشيخ أحمد ياسين والتهديد باغتيال قياديي "حماس" كلهم محاولة لقطع الطريق على المبادرة المصرية. وهو يأمل بعد الانسحاب ان يقتتل الفلسطينيون في غزة، وأن ينشئوا كياناً منفصلاً عن الضفة الغربية التي سيظل معظمها تحت الاحتلال، ليمنع الوصول الى دولة فلسطينية مستقلة. وقد دخل شارون مبكراً مواجهة مع "حماس"، فهو يصر على ان اسرائيل ستنسحب من منطلق قوة لا ضعف، في حين ترد حماس بأن المقاومة المسلحة أرغمت اسرائيل على التفكير بالانسحاب وبدء الاستعداد لتنفيذه. القادة الفلسطينيون الذين تحدثت اليهم في لندن يعرفون جيداً اهداف شارون، وحماس تفاوض على ادارة القطاع بعد الانسحاب، وهي لا تنافس الرئيس عرفات على الرئاسة، كما انها لا تحاول الانفراد بحكم غزة، ولا تسعى الى ذلك بل تريد ان يعكس تمثيلها في الحكم المقبل حجم التأييد الفلسطيني لها. وفي حين ان شارون لم يقنط من نشوب حرب اهلية فلسطينية في قطاع غزة، فإنني أجد مثل هذه الحرب احتمالاً ضعيفاً للغاية. وكانت "فتح" و"حماس" دخلتا مفاوضات سبقت حكومة أبو مازن نفسها للمشاركة في الحكم، فهما معاً تمثلان حوالى 90 في المئة من الفلسطينيين. وفي حين ان تلك المفاوضات لم تؤد الى اتفاق، فقد سبقتها الاحداث من نوع حكومة أبو مازن، ثم الهدنة، ثم حكومة أبو العلاء، فإنها لم تنته بخلاف وإنما أرست قاعدة للتفاوض على اساس حجم كل من الفصيلين. القادة الفلسطينيون الذين حادثتهم مطمئنون الى الدور المصري، والرئيس مبارك شخصياً، الا انهم ليسوا واثقين من النتيجة، ففي جعبة شارون وسائل كثيرة لإجهاض العملية، وقد قتل الشيخ أحمد ياسين، وهو مسن مقعد، في عملية جبانة، فهو يؤدي الصلوات الخمس في مواعيدها في المسجد المجاور لسكنه، وبالتالي فدخوله المسجد وخروجه محدد تماماً، غير ان قتله جاء مع خوضه مفاوضات على مستقبل قطاع غزة بعد الانسحاب. الضمانة الوحيدة في الطبخة الجديدة التي يرجو دعاة السلام ألا تكون "طبخة بحص" هي حسني مبارك، ورَجُله في المهمات الصعبة عمر سليمان.