حينما تحولت الحداثة الى قضية عامة في المملكة العربية السعودية منتصف الثمانينات كنت في باريس التي وصلت اليها نهاية العام 1979 لمتابعة دراساتي العليا. لم يكن الجدل حول القضية يغريني كثيراً وأنا أعايش حداثة مختلفة بدأت آلفها وأتفاعل معها يومياً بعد سقوط حاجز اللغة. هذه الحداثة كانت، ولا تزال، أكثر اغوائية بالنسبة إلي لأنها منجزات متحققة نظرياً وعملياً في الكتب والمجلات وقاعات محاضرات وصالات سينما ومسرح. حتى جلسة في المقهى أو في إحدى الحدائق العامة كانت معايشة لحداثة ما، إذ يمكنك أن تسمع موسيقى أو تشاهد رقصة أو تتابع قبلة طويلة لعاشقين يتكئان على جسديهما أو على جذع شجرة أو على تمثال لهوغو أو فولتير أو لافونتين أو ديكارت! كنت أكتب بانتظام عن هذه الحداثة العالية أو المبتذلة في الصحف والمجلات السعودية، ولذا صنفت ضمن "الحداثيين" من دون أن أكون طرفاً مباشراً في أي جدل. أكثر ما كان يزعجني في "حداثتنا المحلية" تضخمها اللفظي ومحدودية آثارها الجدية في فضاءات الكتاب والحياة. نعم، كانت حداثة كهذه تبدو لي طموحاً أو حلماً أو حتى مجرد إشاعة عابرة يتداولها الوعي المحاصر ويتنفس من خلالها. حينما قرأت "الخطيئة والتكفير" أعجبت حقاً بقدرة الغذامي على اختزال مجمل النظريات النقدية الحديثة ومحاولة تجريبها لقراءة متن شعري محدد بدا كذريعة لاختبار هذه المقولة النظرية أو تلك، لكنني لم أجد فيه إضافة نوعية لمقروءاتي في هذا المجال. في العام 1988 شاركت في ندوة عن توظيف التراث في الرواية العربية ضمن الدورة الثانية لمهرجان "الجنادرية". في المناسبة تعرفت الى الغذامي في شكل مباشر للمرة الأولى. كان تعليقه على بحثي - لغة المعيش اليومي في رواية "الوسمية" لعبدالعزيز مشري - مفعماً بنبرات التفهم والتعاطف مع مقاربة "حداثية" جديدة حاولت استثمار حوارية باختين التي ربما بدت له فاعلة وجذابة آنذاك. وما زاد في تقديري لموقفه الحميمي الاحتفائي هذا أن تعقيبات أساتذة وزملاء آخرين كانت كلاماً سائباً وصادماً. أحدهم همس في أذني بعد تهنئة المجاملة قائلاً: "استودعك الى دينك"، والآخر أصر على ان اهتمامي برواية ضعيفة ك"الوسمية" انما يعود الى كون الكاتب من ديرتي وجماعتي، وثالث أعلن من فوق المنصة انه لا يوجد شيء اسمه الحوارية في النظرية النقدية الحديثة! لاحقاً أدركت ان هذه المواقف كلها جزء من الجدل المتوتر حول الحداثة، وكم كانت دهشتي كبيرة ان يسجل صحافي شاب لقاء مطولاً معي ثم يبلغني انه لن يتمكن من نشره لأن "صلحاً ما" يرتب الآن في الفندق بين الحداثيين وخصومهم لتهدئة الفتنة! بعد سنتين من هذه المشاركة عدت الى الجامعة لكي أكتشف ان معركة الحداثة لا تزال قائمة ومن المحتمل أن أصبح أحد ضحاياها هكذا بكل بساطة وعبثية. كيف؟ حينما قدمت طلب التعيين في القسم الذي تخرجت فيه وابتعثت لأعود اليه نصحت، بتقديمه مع زميلين تخرجا للتو في القسم لئلا يجد خصوم الحداثة فرصة للاستفراد بشاب فرانكوفوني لا بد من أن أطروحته ملوثة بحداثة باريسية. ما كانت التقارير العلمية لمصلحتي، لكن هذا لن يجدي كثيراً اذا ما كتب تقرير آخر ورفع الى جهات أخرى، وقضية سعيد السريحي خير شاهد على وجاهة النصيحة، بخاصة إذ سمعتها حتى من مسؤولين متنفذين في القسم والكلية. لن استطرد. أردت البدء هكذا لأبين ان حكاية الحداثة تحولت عندي الى قضية جدية منذئذ وكل كتاباتي ومحاضراتي التالية تعلن أو تضمر تعاطفاً غير مشروط مع ممثلي خطاباتها الأدبية والنقدية والمعرفية والاجتماعية. في سياق هذا التحول ذاته أصبح للغذامي الشخص والنص مكانة خاصة في العقل والقلب، لا لأنه النموذج الأعلى للنقد الحداثي وإنما لأنه صاحب موقف مبدئي تتجلى صدقيته وجديته عند أصغر قضية وأخطرها كما تبين لي طوال أكثر من عقد من الزمالة والصداقة. من هذا الموقع تحديداً سأحاور كتابه كما حاورت مجمل كتبه السابقة وسآخذ راحتي في النقد الصارم لآرائه وأفكاره وأطروحاته كما تعودت أو كما تعارفنا عليه من قبل. "حكاية الحداثة" التي دّنها هنا هي جزء من حكايات لا تزال تنتظر من يستكملها. عندئذ، وعندئذ فقط، سندرك كم هي كثيرة الأصوات التي تتوازى وتتقاطع وتتقابل وتتعارض ليعبر كل منها عن رأيه وموقفه في صدد قضايا متنوعة ملتبسة لا يمكن اختزالها في شخص أو كتاب إلا بالكثير من التعسف. ما يحمد للغذامي انه بادر الى انجاز ما يخصه، وبالتالي فمن تمام حقه ان يعتبر نفسه "البطل التراجيدي" لحكايته التي يرويها من موقع الفاعل المشارك. لقد خاض المعركة وهو مسلح بشهادة عليا وبمركز وظيفي رسمي وجهد معرفي قوي، لذا رشح لبطولة تراجيدية "سعيدة" في نهاية المطاف فيما سارت بطولات آخرين الى الشقاء، وبعضهم لا يزال يعاني اليوم فداحة الثمن الذي دفعه وهو يشارك في الحكاية الدرامية ذاتها. وعلى رغم ان الحكاية هنا مزيج من المقاربات والمقالات والذكريات والسجالات، إلا أنها تستمد عناصر تماسكها وانسجامها من وحدة الموضوع ووحدة الأسلوب التعبيري ووحدة المنطلقات والأهداف. في الفصول الأولى تنزع الكتابة الى تأطير قضية الحداثة في مجال الفكر كما في سياقات المكان والزمن والمجتمع والتاريخ. هكذا تحدد "الحداثة" كمفهوم يسمي مختلف أشكال "التجديد الواعي" لأنماط التفكير وأساليب الحياة والعمل والتعبير. وخطابها الذي يمثلها ويروج لها هو جزء من سيرورة ظهور الانساق الثقافية الحديثة في مجتمع محافظ تعاقبت فيه وعليه موجات التحديث لتبلغ ذروتها في عقد الثمانينات. من هذا المنظور يمكن اعتبار "الخطيئة والتكفير" منجزاً معرفياً دشن رسمياً أو أكاديمياً "خطاب الحداثة" وما بعدها في مستوى النقد والنظرية النقدية في السياق المحلي وربما خارجه بمعنى ما. لم يختر الراوي الكاتب مبدأ التحقيب الصارم للتحولات الثقافية بقدر ما توقف عند الظواهر الأكثر تعبيراً عنها في المستوى الرمزي. فحداثة جيل الرواد خلال فترة ما بين الحربين كانت تسمى تجديداً وإصلاحاً، ومن الخمسينات الى السبعينات كانت الظاهرة ذاتها موزعة بين التسميات الشعرية والايديولوجية، أما بعد الطفرة وفي سياقها فجاءت التسمية لتطابق الظاهرة وإن في مستوى الخطاب الأدبي ونقده. بدءاً من الفصل الحادي عشر تبدأ الحكاية بالتمحور حول الذات ومنجزها الذي أعلن التسمية ودشن القطيعة وبشر بالحداثة وبما بعدها في الوقت نفسه. هنا تحديداً تتراجع عمليات التفهم والتحليل والتفسير المحايثة للخطاب المعرفي وتتقدم عمليات التذكر والبوح والمكاشفات والمساجلات. فالكتابة أصبحت رواية لحكاية الشخص والنص كما ينبه اليه الغذامي ص 179. وحينما نفرغ من قراءة هذا الجزء الذي يمثل "الشهادة" الحقيقية في الحكاية/ الكتاب، لا بد من أن نتوقف عند أشكال المعاناة التي ترتبت عن تلقي النص لدى بعض الأوساط الثقافية. ونركز على هذا البعد التراجيدي لأن الاحتفاء بكتاب مهم كهذا هو المتوقع المنتظر في شروط عادية تحفز الباحثين والمبدعين على المزيد من البحث والانجاز. انه لمن اللافت حقاً أن يتفجر كل هذا العداء والعنف ضد كتاب لا يمس شيئاً من المقدسات، ولا يثير فضيحة اجتماعية حساسة كقضية المرأة مثلاً ولا ينطوي على فكر يعارض الخطاب السياسي السائد مباشرة أو مداورة! وبصيغة التساؤل نقول: لماذا أثار الكتاب الأوساط التقليدية والمحافظة، فيما هو لا يصادم خطاباتها بقدر ما يصادم أو يتجاوز الخطابات النقدية السائدة باعتباره كتاباً في النقد والنظرية النقدية كما ألح ويلح عليه كاتبه باستمرار؟ يذهب المؤلف الى أن هناك قاعدة منطقية مفادها "ان رد الفعل على أي عمل هو ما يكشف عن مقدار تحديه للنسق ومقدار تأثيره في إحداث منعطف رمزي في تطور الحداثة عندنا وفي تحولاتها" ص 179. لنسلم جدلاً أو قناعة بهذه القاعدة، لكنها تظل قاعدة المؤلف وهو يروي حكايته، وهذا تحديداً ما يدفعنا الى البناء عليها والاضافة اليها كيما يتسع مجال البحث والنظر. من جهتي أزعم ان هناك ثلاثة أسباب تفسر هذا التلقي بقدر ما تعين على إضاءة "اشكالية الحداثة" من زوايا ومنظورات متنوعة. فمن جهة أولى لا شك في أن بروز أي شخصية تمثل النموذج الحديث للمثقف كان ولا يزال يمثل استفزازاً لمشاعر القلق والخوف لدى النخب التقليدية التي تعودت على تقديم ذاتها باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لخطابات الحق والحقيقة. هذا ما يذكرنا به الغذامي ذاته وهو يستعيد مقاطع من حكايات العواد وحمزة شحاتة وحمد الجاسر وعبدالكريم الجهيمان وغازي القصيبي وسواهم ممن عانى، ولا يزال، مثلما عانى وربما أكثر. من جهة ثانية كان خطاب الحداثة بدأ يحتل مواقعه في فضاءات التداول الخاصة والعامة بالتزامن مع "خطاب الصحوة" الذي يعتبر هو أيضاً نتاجاً لتفاعلات الطفرة النفطية مع ظروف اقليمية ودولية معروفة جيداً لنا اليوم، وكان من الطبيعي والمنطقي أن يتصادم الخطابان بهذه الحدة. فالحداثة ذات اغوائية عالية للنخب الأدبية والثقافية الجديدة، والصحوة كانت، ولا تزال، حريصة كل الحرص على استقطاب الجماهير الشابة عموماً، ولا شك في ان نزعتها الراديكالية و"الحداثية" بمعنى ما، عادة ما تستهوي هذه الفئة التي لا تعادل طموحاتها سوى إحباطاتها، سواء في المملكة العربية السعودية أو في عموم المنطقة العربية. من جهة ثالثة أزعم ان نزعة تضخيم الذات التي أشرت اليها سلفاً لعبت دوراً قوياً في استفزاز أوساط ثقافية غير تقليدية لم يكن مقبولاً لديها أن يقلل من شأنها أو يبخس خطابها في كثير من منصات النشر ومقامات التداول التي هيمن عليها الحداثيون المتحمسون لفترة من الزمن. فكثير ممن هاجموا الحداثة، والحداثة من هذه الفئة، وجدوا أنفسهم في خصومة غير متوقعة مع تيار جديد لا يعترف لهم بدور لأن آباءه الرمزيين من حواضر وثقافات أخرى. ومن صمت منهم فعل ذلك إما ترفعاً عن جدل صاخب أو تعاطفاً مع أشخاص كانت رد الفعل عليهم من الأوساط الدينية يشكل تهديداً جدياً لأرزاقهم أو لأرواحهم. وكم في صمت كهذا من نبل. نعم لقد وجد كثير من الأدباء الشباب في الغذامي وكتابته رمزاً جديداً وجذاباً وان صعبت عليهم مقولاته ومصطلحاته ومفاهيمه. فالكتاب تجسيد عملي لمقولة "تفجير اللغة" معرفياً، وهي مقولة تشبه الحلم لكل أديب موهوب يحاول أن يجسدها في قصيدته أو قصته أو روايته أو مسرحيته، أو حتى في مقالة صحافية تروم قول ما لم يسمع من قبل. وما عزز القيمة الرمزية للكاتب وكتابته أن انجازاته تلاحقت لتشكل مشروعاً نظرياً متجدداً يعد بالكثير من المفاجآت باستمرار لما يثيره من أسئلة ويستثيره من سجالات. كلمة أخيرة عن هذا الكتاب، الحكاية أو الشهادة، سيجدها البعض من نوافل القول المعرفي وأراها على غير ذلك. ان ما كتبه الغذامي عن سعد البازعي كان مزعجاً لي بقدر انزعاجي مما كتبه البازعي عن الغذامي في "استقبال الآخر". ومصدر انزعاجي أن كليهما يظلم نفسه وخصمه إذ يستعمل لغة المعرفة للاعلاء من شأن الذات ومعارفها والحط من شأن الآخر ذاتاً ومعرفة. انه لمن الغريب حقاً أن تبدو الخصومة بينهما اليوم وكأنها تلد للتو فيما كان يفترض نسيانها بفعل الزمن الطويل. لا بد من ان أعود الى باريس لأقول مع ريجيس دوبريه ان "الوعي المحاصر" عادة ما يرتد ضد ذاته، أو ضد خصوم وهميين، كلما زاد الحصار من حوله. وفي سياق حركة الارتداد هذه قد ينشغل "المثقف الحداثي" أو "المثقف العضوي" بقضايا جزئية أو عادية أو متوهمة لا يطرحها الواقع بقدر ما يطرحها خطاب الذات وقد تحول الى بديل عن كل عالم وكل آخر. آمل أن أكون مخطئاً، لكنني غير واثق من الأمل في مجتمعات لم يؤسس لفكر الاختلاف والحوار في ثقافتها قط. * كاتب سعودي.