يواجه حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يحتل في سورية دستورياً منزلة "القائد في الدولة والمجتمع"، على غرار المنزلة التي كانت تحتلها الأحزاب الشيوعية والعمالية في دساتير دول المنظومة الأوروبية الشرقية السابقة، في مؤتمره القطري العاشر المتوقع عقده على قاعدةٍ انتخابيةٍ في حزيران يونيو العام المقبل تحدياً مصيرياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وربما يتوقف مستقبله ونظامه السياسي برمته في ظل ما يحيط به من "خطورة" على مدى نضج وعيه الأخلاقي - السياسي المسبق بذلك، وطريقة الإجابة الديناميكية عنه، والذي ستنعكس كلفته موضوعياً في حال تحلل النظام أو تعرضه إلى ضربةٍ عدوانيةٍ ماحقة أو اغتيال الرئيس، أو قرار واشنطن نهائياً بإسقاط النظام على الجميع كما هي كلفة التحولات الكبرى في التاريخ وفي التواريخ. ويكمن هذا التحدي في تحدي إعادة التأسيس التي تتطلب مراجعةً جذريةً جسورةً تتخطى منهج "التطوير والتحديث" الذي استنفد وظائفه في طور انتقال السلطة، وتحوّل من ضابطٍ لسرعة عملية التغير الثقافي بمعناها الأنتروبولوجي أي بالمعنى الاجتماعي - السياسي الشامل إلى معيقٍ وكابحٍ لها، يدير النظام أكثر مما يقوده. اذ استهلك منهج "التطوير والتحديث" وظائفه في وضع سورية على عتبةٍ انتقاليةٍ من النظام الشعبوي المتقادم الذي أدى مهماته وبات عبئاً على تطوره إلى ما بعده، في شكلٍ تحللت فيه بالمنظور السوسيولوجي العديد من العصبيات والآليات شبه "الشمولية" في النظام القديم، لمصلحة تبرعم عناصر مختلفة قابلة للتطور إلى ما بعد النسق الشعبوي لإدارة نظام الحكم. وفي التحليل الرمزي السوسيولوجي لم يكن تعبير رئيس الحكومة السورية محمد ناجي عطري في شكلٍ شفويٍ ساخطٍ عن أن حال الإدارة الحكومية السورية هو حال "الفوضى المنظمة" سوى تعبيرٍ عن تناقضات العملية الانتقالية تلك. لم يكن الحزب غائباً عن محاولة تمكين جهازه من وعي اختلاف هذه المرحلة عن أي مرحلةٍ واجهها في تاريخه، لكن يمكن هنا رصد توجهين متناقضين على مستوى المدخلات وبالتالي على مستوى المخرجات. فمع انتقال السلطة إلى الرئيس بشار الأسد تفاعلت القيادة القومية للحزب التي تمثل حزبياً مرجع تحديد استراتيجيات الحزب مع رؤية الرئيس الإصلاحية البرنامجية العامة التي قدّمها في خطاب القسم، وقدمت ما وصفته ب"دليل عمل ومنهج تثقيفي في الجهاز الحزبي" يقوم على تصورٍ مستنيرٍ للإسلام وقضايا الهوية والعولمة وطرح طريقةٍ مختلفةٍ لتحقيق الوحدة العربية، وللدور التدخلي للدولة في الاقتصاد. وتبعاً لحساسية المسألة السياسية وراهنيتها التي تتصل بدمقرطة الحزب نفسه ودمقرطة العلاقة بين سلطته وبين المجتمع على أساس القانون وليس العنف، طرحت القيادة القومية في دليل العمل "ضرورة البدء بمراجعة شاملة" تعزز "التوجه التجديدي فكرياً وتنظيمياً"، وتربط ما بين دمقرطة الحزب نفسه ودمقرطة علاقته بالمجتمع، وتؤكد حرية صندوق الاقتراع في شكلٍ ينتخب فيه الناس وليس القيادات الحزبية ممثليهم في كافة الهيئات، وتلح على "احترام الرأي الآخر" وصيانة "حرية الرأي والتعبير والتفكير" مؤكدةً ان الحزب لن يستطيع الاستمرار إذا ما خاف منها. ووضع "الدليل" ذلك كله، وهذا المهم هنا، في سياقٍ يجب أن يعمل فيه الحزب على الوصول إلى "مرحلة إطلاق الحريات الفردية والعامة". ونسفت هذه الرؤية مع ما يمكن وصفه ببعض التحرز ب"انقلاب شباط فبراير - آب أغسطس 2001". في الفترة الفاصلة بينهما كانت إرادة التحول وتفعيله في عقل رئيسٍ ذي توجهات ليبيرالية تنفيها آليات نظامه المؤسسية الصماء كما توصف في المعجم السوسيولوجي مستمرة في أن المسألة مسألة وقت ويجب استمرار الحراك، لكن في أزمة آب أغسطس - أيلول سبتمبر استنفرت مراكز القوى على خلفية تصريح للمعارض السوري رياض الترك بعد تمرير محاضرة له لا يمكن إلقاؤها بتعليقاته لا في القاهرة ولا في تونس ولا حتى في الرباط أو اليمن ومن المستحيل إلقاؤها في عمّان. وقدم هذا التصريح ذريعة الانقلاب في محاولةٍ إصلاحية واهنة في الأصل، على طريقة - مع الفوارق الكبرى - تذرع جنرالات الجزائر بتصريح علي بلحاج بحكاية اللباس والسلوك الإسلامي بعد انفضاض الانتخابات. وليس هنا مدار تحديد المسؤوليات، فالتاريخ بوصفه سيروة الصراع بين الإرادات والمصالح والأفكار، لا يسير أبداً كذلك، ويحتمل فرصاً كما يحتمل المخاطر. وفي تقديرنا ان الرئيس أخذ بعد الأزمة الثانية يدير النظام أكثر مما يحكمه، ليس لمسألة الضعف بالضرورة بل لمسألة طبيعة النظام نفسه، وطريقة الرئيس بالعمل عبر إعطاء مؤسساته دورها. وكمنت المشكلة هنا في أن هذه المؤسسات بيروقراطية وفاسدة ويجب أن يطاولها التغيير. وبالتالي كانت إدارة النظام تعني تفاقم عجزه الفعلي - أي النظام - عن إيجاد حلولٍ فعلية تنتقل من إدارة الأزمة إلى إيجاد حلٍ لها. في هذا المناخ، ولكن في مستجد ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، طرحت آراء وسط النخبة البيروقراطية السياسية المسيطرة ومن يحيط بها، ما بين الدمقرطة التامة وبين التحفظ والخوف من أي انفتاح غير مسيطر عليه، وطرحت القيادة القطرية في أواخر تشرين الأول نوفمبر 2003 على الجهاز الحزبي أسئلة استبيانية حول موضوعات الوحدة العربية والحرية والاشتراكية والتنظيم القومي للحزب وتركيبته الاجتماعية. ثم شكلت لجاناً حزبيةً لمناقشتها. وانفردت حتى الآن اللجنة الفكرية المتعلقة بمناقشة موضوع الحرية والديموقراطية ووضع رؤية لسياسة الحزب وفكره في هذا المجال كي تكون دليلاً نظرياً - سياسياً له يتم وضع تقرير المؤتمر على أساسه، عن سائر اللجان الأخرى بغض النظر عن تقويم مستوى أعضائها وأهليتهم، في فتح حلقة نقاشية حول ورقة أولية خلفيةٍ لها، تمت فيها دعوة العديد من الفاعلين الثقافيين والسياسيين المعارضين والجبهويين والمستقلين، ويبدو أنه ستتبعها حلقات نقاشية أخرى. ويستمد ذلك أهميته سورياً من كونه يتم حول مسألة التحول الديموقراطي. وفي ورقة القيادة القطرية حول هذا الموضوع نلمح بوضوح الصياغة المحافظة التي تخاف من الديموقراطية، وتحاول أن تستجلب في طريقة السؤال جواباً مضاداً للمخرج الديموقراطي، عبر تخيير من يتم استبيانه بالسؤال الآتي: ما رأيك بمفهوم الديموقراطية، هل هي شعبية تحافظ على أمن المجتمع ووحدته وتلتزم قضايا الشعب والمصالح العليا للوطن، أم ديموقراطية عامة تطلق الحريات الواسعة، وتفسح في المجال لكل الآراء والأفكار والأحزاب بغض النظر عن أهدافها ومنطلقاتها وارتباطاتها، وما اذا كانت في مصالح المجتمع. إن الجواب المفترض في هذا السؤال مختلف ويمكن أن يكون مركباً أو صيغةً مختلفةً، لكن توخيه يتم هنا في صورةٍ مغلقةٍ تقوم على نعم أو لا. وتتقصد الصياغة المضللة استهداف تحصيل الجواب برفض ديموقراطية تفسح المجال لكل الأحزاب والآراء "سواء كانت في مصالح المجتمع أم لا". وليس هذا طريق تطوير وتحديث ولا طريق قفزة تغييرية إلى الأمام بل طريق مخاتلة تتراجع في شكلٍ مريعٍ عن الرؤية المستنيرة لدليل عمل القيادة القومية حول هذه المسألة، ويعكس، وهذا هو الأخطر، عقلية الخوف من استحقاق الدمقرطة كيلا نقول استحقاق الديموقراطية البديلة. بمعنى أنه يعكس العقلية البيروقراطية القيادية السائدة لمن هم أقرب إلى ديناصورات الحكم منهم إلى إصلاحييه بغض النظر عن انتمائهم الجيلي، الذي أفرز بعضاً من ظاهرة "الذئاب الشابة"، لكن شجاعة اللجنة الفكرية المتعلقة بهذا المحور، وحقيقة أن ليس بين أعضائها من هو سلطوي بيروقراطي يخاف على مصالح عائلته ويرهن مستقبل النظام بتلك المصالح الشديدة الضيق والفضائحية حتى إن كانت من مستوى مطاعم الدجاج التي تتسق مع "مافيا" وليس مع قيادة حكم، جعل اللجنة المستنيرة تتنكب طريقة صياغتهم لذلك السؤال المتعلق بالديموقراطية، وتطرح ورقةً أوليةً دعيت شخصيات محسوبة على الفضاء المعارض والمستقل لمناقشتها. اللعب مطابق للسياسة، ولكن اللجنة كانت في نزوعها العام شديدة النزاهة، وكانت الورقة الشجاعة تطرح آفاق إعادة تأسيس لموقف الحزب من الديموقراطية وليس تطويراً وتحديثاً. وتتجاوز جذرياً عقلية الخوف من الديموقراطية في ورقة القيادة القطرية، وأعدها أستاذ الفلسفة اللامع في جامعة دمشق أحمد برقاوي. وخلاصة المسألة أن تاريخ حزب البعث كان فعلياً في تاريخه تاريخ إعادة تأسيس. اذ تأسس وفق منطق "روزيجمنتو" الطلياني، وفي المؤتمر القومي السادس عام 1963 وعلى طبول إعدام الناصريين، أصبح يساروياً طبقوياً وفق منهج التسيير اليوغوسلافي وأنتج "بعض المنطلقات النظرية" التي صاغ ياسين الحافظ معظمها الأكثري على الإطلاق باستثناء مقاطع معدودة بالمناسبة المنطلقات النظرية كانت معتمدة رسمياً لدى الإخوة الأعداء في دمشق وبغداد، وكان آخر مؤتمر شرعي لكل منهما هو المؤتمر القومي الثامن عام 1965 أي أنه تم تجاوز الخلاف حول الموقف من المنطلقات باعتباره موقف مؤتمر قومي ملزم. السلطة الكابحة في سورية أضعفت موقع الحزب في محاولة التجديد. وكان الأمر هنا مفعول استيلاء السلطة على الحزب. في هذه الخلاصة لم يتطور الحزب إيديولوجياً منذ عام 1963. طرح المؤتمر الإيديولوجي عام 1964 لحسم موضوعات الخلاف العقائدية، وطرح مشروع دليل نظري "يساروي" للحزب في الفترة الشباطية 1966 - 1970، لكن ذلك كان مجرد اقتراحات وليس قرار مؤتمرٍ قوميٍ ملزم وفق القواعد البعثية. وحافظ الأسد الأول الممتد من بداية استلامه السلطة عام 1970 إلى المواجهة الدامية مع "الإخوان المسلمين" في عصيان حماه عام 1982 كان تجديدياً وإبداعياً في مستوى تطور الثقافة السياسة السورية للموالين والمعارضين على حد سواء من الناحية السياسية في إطار نظام الديموقراطية الشعبية، والتي تقبل فيها الأسد الراحل ما يعتبر هرطقاتٍ في زمنه. لكنه غدا بعد ذلك شديد المحافظة سياسياً، وغيرت طبيعة المواجهة الدموية مع الإسلاميين طبيعته إلى طبيعة بيروقراطية سلطوية تحكمها آليات الركود والتسلط العنفي. الزمن اليوم مختلف تماماً وبكل المعايير والمقاييس، فعلى حزب "البعث" في دعوة إعادة تأسيسه كان تاريخ حزب البعث تاريخ إعادة تأسيسات أن يعتمد تسويةً تاريخيةً تعيد بناء عقد الدولة السورية على أسس تشاركية جديدة تمثل مختلف القوى الاجتماعية للدولة السورية، ومعادل ذلك هو الديموقراطية، الذي لن يكون البعث خاسراً فيها بالضرورة في صندوق الاقتراع حتى ولو كان زجاجياً. مصلحة "البعث" مع الديموقراطية واندثاره مع مقاومتها. والإشكالية هي إعادة التأسيس في نسق ديموقراطي يكفل حرية التعبير الفردي والمؤسسي الحزبي، ومدخل ذلك قانون عصري للجمعيات والأحزاب والصحافة والانتخابات. فالوطن قوي مع العدالة وضعيف جداً من دونها. * كاتب سوري.