"الديموقراطية داخل الاحزاب في البلدان العربية" كتاب آخر حرّره علي الكواري مركز دراسات الوحدة العربية. العملان متكاملان، يعتني الاول منهما بالرصد العام لحال الديموقراطية "وحوائلها في المجتمعات العربية" فيما ينصرف الثاني الى رصد تعثر الديموقراطية داخل الاحزاب السياسية، اي في "بيئة" التغيير وضمن حاضنة البدائل المفترضة. لكن الحصيلة تدور دورتها، ليكون عود على بدء، وليكون السؤال المستمر على قلق: من أين الديموقراطية لأحزاب نبتت ونطقت باسم مجتمعات، الماضي فيها قيد ثقيل والمستقبل فيها خطة فكر وعمل متعثرة؟ ومن أين الديموقراطية لحزبيين، ظلّت الأبوية "ضميرهم المستتر"؟ وظلّ التراث وجدانهم الكامن؟ وظلّت "ليبرالية وتنور" الكثرة الساحقة منهم "موجة استفاقة" عابرة وموقتة؟ ما لبثت ان عادت الى بحر استكانتها لدى اصطدامها بعناد الوقائع الاجتماعية! عندما يذهب الكتاب، على ألسنة كتابه، الى تغليب غياب الديموقراطية من الاحزاب، فإنه يحرص في المقابل على عدم الاستهانة بالتضحيات الجمّة التي بذلها الحزبيون في مواقع عملهم المختلفة، التمييز بين الحصيلة الحزبية، وصدق انتماء المحازبين، أمر تمليه الموضوعية... والنزاهة، لكن التقويم أو النقد يضع نصب عينيه "المحصلة"، بعيداً من صدق نيات الذين ساهموا في الوصول اليها، إذ كثيراً ما تجرى الوقائع خارج ما افترض "الثوريون" من أهداف، وكثيراً، ما تتم المغايرة والمخالفة، بل والتناقض، على أيدي "الطليعة المناضلة" دون سواها. قد يكون هذا ما وقعت فيه "ثورات كبرى" عربية وغير عربية، لذلك فالمراجعة النقدية لأطاريح "هذه الثورات" لا تتوقف امام التبريرات التي تتسلح بالظروف التي عاندت او أعاقت مسيرة "الثورة"، بل إن السؤال أو النظر يذهب الى فحص البدائل التي تغلبت ويحاول فهم مسوغاتها وقراءة مستنداتها في النظرية وفي الممارسة، أي ان اعادة التفكير تذهب الى بنية الفكر والى بنية الحزب والى بنية الحاضنة الاجتماعية التي خاطب البرنامج الحزبي مصالحها، وعينت المنطلقات النظرية أهداف مستقبلها الأفضل! شيء من هذه "الطريقة" في المقاربة، اعتمده من عالج "أزمة الديموقراطية الحزبية" في فصائلها القومية والشيوعية والإسلامية، وفي أكثر من بلد عربي. اللجوء الى هذا التنوع العددي مهم، لأنه أفضى الى الخروج بتقاطعات مشتركة مجتمعية وحزبية في الوقت نفسه. على هذا الوجه، لم يكن "اليمن" بعيداً جداً من الأردن "اجتماعياً"، ولم تكن "شيوعية السوريين" غريبة، عن "شيوعية" سواهم من العرب وعلى المنوال نفسه، لم تكن "حديدية القوميين العرب" لتختلف، أو لتتناقض، مع "المركزية الديموقراطية" في سواها من الاحزاب، ووجدت "ثوريتهم" أخوات لها لدى حزب البعث، لدى غيره من أصحاب "الفكرة الانقلابية". بمقياس الحزب الديموقراطي الذي ضبط علي الكواري "مفهومه" يمكن القول إن أياً من الاحزاب العربية لم تعرف الديموقراطية الحقة في داخلها. ضبط المفهوم كان "ضرورة علمية" ومعياراً لوجود الديموقراطية أو انتفائها، اذ لا يكفي "ادعاء أهل الحزب" بديموقراطيتهم، حتى تكون لهم آليات هذه الديموقراطية وشروطها. الواقع المعاش شهد ضد الاحزاب في هذا المجال، وأتاح فرصاً عدة للتثبت من ان وجود الديموقراطية في "الحزب" لم يتجاوز بعض الشكليات العملية، وظلّت الديموقراطية واجهة أو يافطة تستر كل الممارسات القمعية والزهوية، ضد أفراد الاحزاب المخالفين، وضد الاحزاب الاخرى ايضاً احترام الرأي الآخر المخالف، دليل عافية ديموقراطية، لم تلبس الاحزاب ثوبها. وتداول المسؤوليات كأس ديموقراطية، لم تتجرع "القيادة الحزبية العربية قراراتها"! هنا يقيم "الأمين العام" هنيئاً مدى الحياة على الأغلب، خروجه يكون بالوفاة، أو بما يشبه الانقلاب عليه، فإذا تعذّر التعايش، كان الخروج بالانشقاق. وهذا الأخير، ظاهرة تكررت، وما زالت، لأن مقولة التعدد ضمن الوحدة، ظلّت أطروحة نظرية ضمن الاحزاب، ومثلها ظلّ إمكان طرح الرأي المخالف على الجمهور الحزبي، وعلى الجمهور الأوسع. كل تبديل هادئ ديموقراطي كان مستحيلاً، في ظل بنية هرمية تحكمها مقولة "نفذ ثم اعترض"، ويتمتع فيها "الرئيس أو الأمين العام" بسلطة تقريرية فعلية، لا تحدّها أحكام النظام الداخلي لأي حزب، بل كثيراً ما شكل "الجوهر النظري" للأنظمة الداخلية "الخلفية الجوهرية" لسيطرة "القيادة"، مثلما شكّل الأرضية الواقعية لأزماتها التي عصفت بالتجربة الحزبية. ضمن هذه "المعمعة" يضيع الفرد الحزبي ويتوه، يحدد كأداة، يتعرف الى ذاته في آلية حركتها وفي طواعية تحريكها، فإذا تلمس أسباب خضوعه، عُدّ ذلك بمثابة خروج على الهدف من وجوده ضمن آلة الحزب الضخمة، أي صار تهديداً لانسجام "الطليعة الثورية" التي يكمن سر قوتها في مدى "تماسكها" وفي درجة "انضباطها العالية". فالعبرة في الطليعة تكون "للنوعية" أولاً!... يكف الانتماء الحزبي عن ان يكون "عملاً طوعياً"، ويتخلى الحزب عن صفة "الاتحاد الحر لأشخاص يجتمعون على عقيدة سياسية قابلة للتطوير ويدعمون برنامجاً سياسياً مشتركاً". على معنى محدد: يفقد الفرد صفته الفردية عندما يفقد حريته، فيصير أداة لا موضوعاً، ويفقد الحزب صفته "الجمعية"، فيصير، "غاية بعد ان كان وسيلة" وما بين الحزب والفرد، يلغى أهم مبدأ: حق الاختلاف، فإذا ساد الغياب في الداخل الحزبي امتد ليطاول "الآخر الخارجي" بفراغ الإقصاء والإلغاء. شيء من "الأبوية" ينظم العلاقة الحزبية، حصل ذلك في "حركة القوميين العرب" لكنه لم يظل حكراً عليها. ونفس "تجييش" يسود في "التنظيمات الثورية العقائدية"، يرافقه اعتقاد "بعصمة" القيادة وبقدرتها على "الإلهام". لذلك، يصير دور "الجمهور اسشتارياً" لأن "الحقيقة معروفة من المراتب العليا"، ولأن "الارادة الموحدة" سبيل لترجمة هذه الحقيقة، الى وقائع "ثورية ملموسة". لا يصعب القول مع "الكتاب" هنا، ان رفع "المبادئ والنظريات الى مصاف الحقيقة المطلقة" يلغي الديموقراطية. على مستوى نظري أولاً، أي من البنية الفكرية في الأساس، ولا يصعب الجهر مع "الكتاب" أيضاً ان الديموقراطية لا تبقى من اللزوميات في "حزب يبنى من أجل الثورة المقبلة" وليس من أجل اختمار مجتمعي طويل الأمد، يشهد الكثير من التحولات والتسويات، ويعيش التقدم مثلما يشهد حالات من الاخفاق! يحاول "الكتاب" ان يقرأ في التجربة الإسلامية الأردن، واقعاً مخالفاً، أو تلوينياً آخر ضمن الحياة الحزبية العامة، ينسب اليه وعداً ما في الاسهام "بنهضة عربية أخرى". هنا ايضاً يقتضي التحفظ الذهاب بالاسئلة الى أبعد من "الواقعة الأردنية". لتبيان مدى رسوخها، ولإظهار سمة الموقت فيها. بمقياس نظري عام، التدقيق في المواءمة بين أصل "النص" الديموقراطي، وأصل "النص الإسلامي" مطلوب، لئلا تطلق الاحكام جزافاً، لا شيء يمنع من القول الآن ان "النص الإسلامي الحزبي" غير مقفل على الديموقراطية، لكن السؤال الاستطرادي يكون: عن أي ديموقراطية نتحدث؟ ووفقاً لأي مفهوم؟ على الأقل لدينا حتى الآن "ممارسات وآليات ديموقراطية" يؤخذ منها "بعض من جوهرها" تحت أسماء أخرى "شورى" أو ما سوى ذلك، لكن الذهاب أبعد من ذلك، يقتضي انتظاراً أطول واختماراً أعمق. وفي الانتظار، لا بأس من الاستبشار بكل "نأمة ديموقراطية" يمكن ان تشكل بصيصاً مادياً الى الطريق الديموقراطي الطويل! في إشارة لافتة، يركز "الكتاب" على ان "إخفاق الديموقراطية هو إخفاق لإطارها الاجتماعي والسياسي" لذلك يتوجب البحث في "البنى الاجتماعية"، وفي الثقافة السائدة عندنا والتي هي من أمنع الحصون التي تقف في وجه اختراق القيم الديموقراطية للمجتمع"... لكن في موازاة هذا الاخفاق، تحول "جمع من الأحزاب الى مجرد مركز وجريدة". فلقد فقد الكثير من هذه الاحزاب مبرر وجوده، ومعطيات استمراره، عندما فقد "مشروعه الاجتماعي للتغيير عندما فقد أساسه الطبقي والاجتماعي ايضاً". من الممكن الملاحظة مع "الكتاب" وجود أحزاب، يقتصر الاعلان عنها على حضور ندوة، او أخذ العلم بها من الاعلام... ومن الممكن الملاحظة ايضاً لجوء "أحزاب" كهذه الى منوعات من الخطب العالية النبرة اعتراضاً، على حكم او التحاقاً به، طبقاً... لنظام مصالح الاستمرار. مع هذا النمط من الممارسة، يصير "الوزن صوتاً فقط"، وتصير السياسة احترافاً، بدل ان تكون اختياراً ومشروعاً. ومن المعلوم، ان "الحرفي السياسي" يحرص على عدم "انقراض حرفته"، فيديرها "بالصوت والصورة" عندما يصير الفعل داخل المجتمع والانفعال به متعذرين! الا انه وعلى رغم "الواقع الحزبي البائس عربياً"، فإن "الكتاب" لا ينتهي الى خلاصة "عفوية" تقول بانتهاء دور الاحزاب، او بانتفاء مبرر تشكيلها. على العكس من ذلك، يجرى التشديد على ان "دور الاحزاب ما زال مركزياً" ذلك ان لا بدائل لها، تستطيع تأمين ما تؤمنه من "تعبئة المواطنين وتحري المصالح العامة المشتركة، وصوغ برامج عامة للتنفيذ وتجنيد القادة السياسيين للحكم والادارة". * كاتب لبناني.