أكمل مع ريتشارد بيرل وغيره من المحافظين الجدد، من مصادر أميركية خالصة سجّلتها في الحلقتين السابقتين، وأركز اليوم على العلاقة مع السيد أحمد الجلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي، وعضو مجلس الحكم. بيرل يقول: "كان بين أكبر أخطائنا عدم رغبتنا في السماح للمؤتمر الوطني العراقي بقيادة العراق، وتركه يشكّل حكومة موقتة بعد سقوط بغداد. في سنة 1944 سمحنا للقوات الفرنسية بدخول باريس قبل القوات الأميركية والبريطانية، وكان يجب ان نبدي ذوقاً مماثلاً سنة 2003". الوقاحة الممزوجة بالكذب الغوبلزي طبيعة ثانية لبيرل، وهو هنا يهبط الى حضيض لم يصل إليه من قبل على رغم كل وقاحاته، أحمد الجلبي شارل ديغول؟ سأتجاوز المشكلات المالية المعروفة للسيد الجلبي، وأقول انه كان هناك جيش فرنسي، ولا جيش للمؤتمر الوطني، وكان في فرنسا مقاومة على الأرض، وكانت مقاومة المؤتمر في الفنادق، وكان الفرنسيون يحرّرون أرضهم من محتل مجرم، وشهد العراق دخول قوات أجنبية الى أرضه لتحرير شعبه من نظام قاتل. انتقدت السيد الجلبي غير مرّة في السابق، وحاولت بعد سقوط نظام صدام حسين ان أتجاهله، حتى لا أبدو وكأن لي ثأراً شخصياً عليه، إلا انه لا يتركني، فبعض تصريحاته غير مقبول أبداً، ثم ان المعلومات المتراكمة عن دوره وجماعته في الإعداد للحرب على بلده لا تشرّف أحداً. فوجئت وقد تعالت الضجّة على المعلومات المضللة قبل الحرب بالسيد الجلبي يقول لجريدة "الديلي تلغراف" ما خلاصته ان "ما قلنا في السابق غير مهمّ بالنسبة إلينا نجحنا تماماً. الطاغية صدام زال والأميركيون في بغداد". وكنتُ أستطيع ان أوافق على كلام السيد الجلبي، لولا الكلمات الثلاث الأخيرة، فهو سعيد بوجود القوات الأميركية في بغداد، وهذا مفهوم فقط لأنه جاء على متن دبابة أميركية: واذا المرء أعيته المروءة يافعاً / فمطلبها كهلاً عليه شديد. لو دخل السيد الجلبي من دون حماية أميركية لكان في تقديري سُحِل قبل ان يطلع عليه صباح اليوم التالي. كنتُ أراجع كل ما سبق عندما وقعت على خبر نشرته جرائد نايت - ريدر، وهذه تضمّ 31 جريدة أميركية بينها "فيلادلفيا انكوايرر" و"ميامي هيرالد" و"ديترويت فري برس". الخبر يقول ان أحمد الجلبي، والمؤتمر الوطني العراقي، لا يزال يتلقى بين ثلاثة ملايين دولار وأربعة ملايين دولار من البنتاغون في مقابل جمع معلومات استخبارات. وواضح ان في وزارة الدفاع الأميركية من يريد ان يلعب السيد الجلبي دوراً في العراق نيابة عن الأميركيين في المستقبل. ووقاحة أخرى من بيرل فهو لا يرى ان علاقة السيد الجلبي بالأميركيين تضعف نفوذه بين العراقيين، وإنما يقول ان المملكة العربية السعودية تخاف من المؤتمر الوطني العراقي، ويخاف منه بالتالي مسؤولون أميركيون يريدون رضا السعودية. بل انه في مكان آخر يتّهم أميركيين بتلقي رشوة من السعودية، ويزين الناس على ميزان نفسه. على كل حال، إشارة السيد الجلبي الى "ما قلنا في الماضي" تبعت الضجة عن المعلومات المضللة التي طلع بها المؤتمر الوطني العراقي في السعي الى الحرب، ووقعت على آذان صاغية. رئيس المؤتمر قدّم الى الأميركيين مجموعة من العراقيين الفارين الذين يحملون معلومات عن أسلحة الدمار الشامل، رجال مثل خضر حمزة وعدنان احسان سعيد الحيدري وأحمد الشمري اسم فني، ولكن خضر حمزة أسوأهم أو أخطرهم، فقد كان واضحاً منذ البداية انه يهرف بما لا يعرف، الا انه قدّم الى المحافظين الجدد ما يحتاجون إليه من تلفيق في السعي الى الحرب. خضر حمزة ترك البرنامج النووي العراقي سنة 1990، وفر من العراق سنة 1994، ووصل الى واشنطن بمساعدة السيد الجلبي سنة 1997، وعمل في مركز العلوم والأمن الدولي تحت إشراف ديفيد أولبرايت الذي لم يتحمّله في النهاية، فترك المركز سنة 1999. المهمّ في ما سبق التاريخ الأول، فخضر حمزة انفصل عن أي برنامج نووي عراقي سنة 1990، ومع ذلك فهو اعتُبر مرجعاً في الموضوع وثقة بعد سنة ألفين، أي بعد سنوات الحصار والعقوبات والتفتيش الدولي. وفي حين أفهم ان المحافظين الجدد يتلقفون أخبار خضر حمزة، وربما يلفّقونها معه، الاّ انني لا أفهم كيف ان صحافية متمرّسة من نوع جوديث ميلر تأخذ معلوماته، وتوصلها الى الصفحة الأولى في "نيويورك تايمز"، وهذه مشهورة بأنها مصدر ثقة بالكامل للأخبار أصدق "نيويورك تايمز" وهي تخطئ أكثر مما أصدق إدارة بوش عندما تصدق، أو اذا صدقت، كما أصدّق هيئة الإذاعة البريطانية، وهي تخطئ أكثر من حكومة توني بلير عندما تصدق. وأكتب وأمامي عدد من الأخبار كتبتها جوديث ميلر وحدها، أو شاركت في كتابتها، ونشرت في الصفحة الأولى من "نيويورك تايمز" عشية الحرب، وهي تعتمد على مصادر من فارين عراقيين، قدم السيد الجلبي بعضهم، ولا أحتاج هنا الى تكرار ان المعلومات فيها عن أسلحة دمار شامل وأسلحة نووية كلّها كاذب أو خاطئ. وكان خضر حمزة زعم ان في العراق 400 مركز لتشبيع اليورانيوم، بعضها يبدو كمزارع، وغيرها كمدارس أو مستودعات، وقال بيرل ان المفتشين لن يجدوا هذه المراكز وإنما "عمل إجهاضي فقط سينقذنا"، يعني الحرب. المحافظون الجدد والمتعاونون معهم يتحمّلون المسؤولية عن حرب غير مبررة، وعن دماء الأميركيين والعراقيين، وكل من راح ضحية الحرب، وعن الخسائر المستمرّة.