عندما توجه رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع الى لندن هذا الاسبوع، سبقه الى دور الصحف بيان أصدرته منظمة "حماس" تعلن فيه مسؤوليتها عن عملية "خان وحنيف" التي حدثت قبل عشرة شهور في اسرائيل. وادعت "حماس" في بيانها انها احجمت سابقاً عن كشف بطلي العملية عمر خان وعاصف حنيف - وهما بريطانيان من أصل باكستاني - لأسباب أمنية تتعلق بسلامة رفاقهما المجاهدين. وذكرت ايضاً انها أفرجت عن شريط فيديو للشهيدين قبل تنفيذ العملية التي أدت الى سقوط 58 اسرائيلياً بين قتيل وجريح، يظهرهما اثناء اعلان وصيتهما باللغات العربية والانكليزية والباكستانية، اضافة الى رسالة صوتية من عبدالعزيز الرنتيسي. بعد انتهاء المحادثات في مقر رئاسة الحكومة البريطانية، فوجئ توني بلير وأحمد قريع بمشاهدة شريط فيديو "حماس" يعرضه مقدمو نشرات الاخبار على كل الأقنية، وختم الاستشهاديان رسالتهما بالدعاء الى الله لمعاقبة بلير واسرائيل وبوش. وكان واضحاً من توقيت الافراج عن الشريط المسجل منذ أكثر من عشرة شهور، ان "حماس" تريد إرغام الحكومة البريطانية على فتح حوار معها ومع زعماء الانتفاضة لأن أحمد قريع لا يملك القدرة على لجم المقاومة. صحيح ان رئيس الوزراء الفلسطيني حمّل شارون مسؤولية تأجيج المقاومة المسلحة بسبب الاحتلال والتهجير والقتل الجماعي... ولكن الصحيح ايضاً ان زعماء الانتفاضة الثانية يؤمنون بأن الدولة الفلسطينية لن تولد إلا من رحم الكفاح ضد اسرائيل. وشهادتهم على ذلك ان "الصقر المتشدد" اسحق رابين اجبرته عمليات المقاومة على الاعتراف بمنظمة التحرير ومصافحة ياسر عرفات. كما أجبرت بنيامين نتانياهو على الخروج من الخليل، واقنعت ايهود باراك بالموافقة على تقسيم القدس. عقب ظهور شريط الفيديو للاستشهاديين اللذين حرضا الجمهور البريطاني على تنفيذ عمليات بطولية مثلهما، اكتشفت حكومة بلير ان عناصر محلية أخرى متورطة في حرب الشيشان وفي أعمال ارهابية من النوع الذي يهدد سلامة الطيران ويعرض الاستقرار الداخلي لخطر القلاقل السياسية. لذلك تدخلت الاجهزة الأمنية لوقف بث الشريط مخافة ان يؤثر وقعه على شبان متحمسين من الجالية الاسلامية. كما أوصت حكومة بلير بالإسراع في تحريك المفاوضات المجمدة لأن تداعيات القضية الفلسطينية بدأت تتحول تدريجياً الى مشكلة أمنية داخل بريطانيا. وهذا ما دفع الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة الى التوسط مع شارون بهدف اقناعه بجدوى الاجتماع مع قريع لعل هذه الخطوة تساهم في تخفيف معاناة الفلسطينيين وتساعد على تحسين ظروف الوضع الأمني العالمي. حرص أحمد قريع أثناء اجتماعه بتوني بلير على تذكيره بأن الانسحاب الاسرائيلي من غزة يجب ان يُعتبر مرحلة أولى ضمن خطة مراحل تنفيذ "خريطة الطريق". ورأى ان مبادرة بوش خريطة الطريق تشكل مشروع السلام الوحيد الذي أيدته أوروبا وروسيا واميركا والأمم المتحدة. وهذا ما يجعل من موضوع الانسحاب الاحادي الجانب ضربة قاتلة لآخر مشاريع التسوية المقبولة. واستناداً الى هذا المنطق حذر قريع من مخاطر حصار الدولة الفلسطينية داخل جدار الفصل لأن الخيار الوحيد عندئذ سيكون اعلان الدولة "الثنائية القومية". وكرر في حديثه مع بلير ووزير خارجيته جاك سترو ما طرحه في مؤتمره الصحافي من ان المبادرة الاميركية تتحدث عن التزام الجانبين تنفيذ بنودها. علماً أن الانسحاب المنفرد من غزة واخلاء المستوطنات فيها سيخلقان أزمة ادارية وأمنية للسلطة الفلسطينية تتعلق بعملية ملء الفراغ في القطاع وعند الممرات مع الضفة. ولقد أيده في هذا الاستنتاج ياسر عرفات الذي يرى في قطاع غزة مليون ونصف مليون نسمة قنبلة بشرية موقوتة ساعدت كثافة سكانها على ولادة المنظمات المسلحة بين أزقتها الضيقة. ويتصور عرفات ان رهان شارون منصب على خلق الفوضى داخل القطاع، وعلى بث الخلافات بين رجال السلطة والمحازبين بطريقة تسمح لقواته بالتدخل أو بإعلان الوصاية الخارجية. وتفادياً لهذا المأزق اعلنت "حماس" انها تعد وثيقة شرف لمرحلة ما بعد الانسحاب يتم الاتفاق عليها بين الفصائل الفلسطينية والسلطة. ويبدو ان عرفات اظهر بعض التحفظ على هذا الطرح لأنه يخشى مشاركة منظمات الرفض في ادارة شؤون القطاع، الأمر الذي يستغله شارون لاتهام السلطة بدعم الارهاب. لذلك سارعت الاجهزة الأمنية الفلسطينية الى عرض خطة طوارئ رداً على خطة "حماس" بهدف امتصاص حالات الفوضى ومنع انتشار السلاح غير الشرعي. شارون طلب من الديبلوماسيين الاميركيين الثلاثة الذين أرسلهم جورج بوش للاطلاع على خطة الانسحاب، السعي الى اقناع الرئيس حسني مبارك بضرورة المشاركة في ضبط الأمن داخل القطاع. وواضح من طبيعة المهمة التي اضطلع بها وزير خارجية اسرائيل سلفان شالوم في القاهرة، ان شارون مهتم بوقف عمليات تهريب الأسلحة من مصر الى غزة أكثر من اهتمامه بضبط الوضع الأمني. والمؤكد ان مصر لا تريد تكرار تجربة إدارة القطاع التي تولتها قبل حرب 1967 خشية تعرضها للمأزق الذي تتعرض له القوات السورية في لبنان. علماً أن عرفات حاول اقناع مدير الاستخبارات المصرية عمر سليمان بأهمية مشاركة قوات عربية في ضبط الأمن وجمع الأسلحة من عناصر المنظمات. يبقى السؤال المتعلق بأهداف شارون من وراء تنفيذ الانسحاب الاحادي الجانب، واصراره على رفض التفاوض مع السلطة الفلسطينية على "خريطة الطريق"! قبل زيارة شارون لواشنطن حمل وزير الدفاع شاؤول موفاز الى الادارة الاميركية الكثير من الأسئلة المرتبطة بهذا السؤال. وهي تعبر في مجملها عن قلق شارون من تنامي العامل الديموغرافي وتأثيره على مستقبل اسرائيل. وهذا ما ذكره اثناء استقباله مساعد وزير الخارجية الاميركي وليام بيرنز ونائب كوندوليزا رايس ستيف هادلي ورئيس دائرة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي اليوت ابرامز. قال لهم انه في الوقت الذي تبتكر اسرائيل أساليب جهنمية لمنع تسلل الفلسطينيين الى أراضيها، يدخل الفلسطينيون بأعداد تفوق أعداد المهاجرين اليهود. وأخبرهم ان الأرقام تقدر ولادة مئة ألف فلسطيني كل سنة في الضفة وغزة، وان غالبية ابناء الجيل الجديد تطالب بفكرة الدولة الواحدة لشعبين. وحجتهم أن عنصر الزمن يعمل لصالحهم. وخلص شارون في حديثه الى الاعتراف بأن التهديد الديموغرافي لاسرائيل هو تهديد وجودي بينما يبقى الارهاب في حيز التهديد الأمني. اضافة الى هذا الواقع، أعرب شارون عن تخوفه من تمسك الفلسطينيين بقرار حق العودة واصرارهم على تحويل "اسرائيل الكبرى" الى "فلسطين الكبرى". واعترف بأن المفاوضات فشلت في اقناع الفلسطينيين بالتنازل عن حق العودة، أو حتى باعتراف اسرائيل المبدئي بحق العودة شرط تطبيقه بصورة محدودة 40 ألف نسمة فقط. وفي الاجتماع الذي عقد على هامش مؤتمر اوسلو بين أبو العلاء وبن عامي، أصر قريع على اثارة مسألة الظلم التاريخي للفلسطينيين، الأمر الذي يلزمهم بعدم التخلي عن حق العودة. أما لماذا يتهرب شارون من تجديد عملية التفاوض، فلأنه واثق من أن قريع سيستخدم القرار 242 كأساس للمفاوضات. ومعنى هذا في رأيه، القبول بالتراجع الى حدود ما قبل حرب 1967 والموافقة على حق العودة. وبما أنه لن يقبل بهذين الشرطين كمدخل للتسوية، فهو يفضل الانسحاب من جانب واحد ومن ثم يقوم برسم حدود اسرائيل النهائية بطريقة تمنع طغيان العنصر الفلسطيني. وبناء على هذه المعطيات أرسل شارون مع وزير دفاعه موفاز رسالة يطالب فيها الادارة الأميركية بضرورة تأمين 800 ألف دولار كتعويض لاخلاء سبعة آلاف مستوطن في غزة وتوفير مساكن بديلة لهم داخل السور. بعد التوقيع على وثيقة الدستور العراقي الموقت، شعر الرئيس بوش بأنه محتاج أيضاً الى استخدام ورقة التسوية الاسرائيلية الفلسطينية في معركته الانتخابية المقبلة. صحيح ان مشكلة الشرق الأوسط لا تهم أكثر من خمسة في المئة من سكان الولاياتالمتحدة... ولكن الصحيح أيضاً ان ارتباط هذه المشكلة بموضوع الارهاب العالمي يرفعها الى مصاف متقدم في سلم الأولويات والاهتمامات. ومع أن المنازلة الانتخابية ضد المرشح الديموقراطي جون كيري ستنحصر في الشأن الاقتصادي الذي اسقط بوش الأب وجيمي كارتر، إلا أن الرئيس بوش لا يستطيع رفض المساعدة الاضافية لاسرائيل حتى لو كانت قد حصلت بفضله سابقاً على مساعدة ببليون دولار وضمانات بمبلغ تسعة بلايين. ويتوقع البيت الأبيض ان تكون الدول الأوروبية التي استقبلت أحمد قريع هذا الاسبوع، قد نجحت في تقريب وجهات النظر بينه وبين شارون، لعل الوفاق في هذه المرحلة يساعد بوش على توظيف مشكلة الشرق الأوسط لتجديد ولايته! وهذا بالطبع يعتمد على تقدير "اللوبي اليهودي" لأداء المرشحين بوش وكيري في مرحلة اعلان حدود الدولة الاسرائيلية! * كاتب وصحافي لبناني.