الواضح ان ليس للفلسطينيين شريك للسلام. ذلك ان الطرف الاسرائيلي يريد حلا يعكس قوة اسرائيل وتصلبها، التزام أميركا التام بموقفها، اضمحلال روسيا، تخلي الأوروبيين عن المهمة، العجز العربي، وأيضا، كما يأملون، رضوخ الفلسطينيين. وكان ديغول، رجل الدولة الذي لا نجد له مثيلا في أيامنا هذه، قد دعا في 1967 الى حل متزن يفرض عليهما من جانب "الأربعة الكبار" الصين الشعبية لم تكن قد انضمت الى مجلس الأمن بعد. لكن الفكرة لم تنجح. اذ ارتاح الأميركيون لانتصار اسرائيل ووجدوا فيه تعويضا عن فشلهم المهين في فيتنام. وفضل السوفيات، بقصر النظر الذي أبدوه في كثير من الأحيان، الاستمرار في لعبة القطبين العالميين الرئيسيين، من دون اعطاء قوى أصغر مثل بريطانيا وفرنسا دورا مكافئا في المعادلة. اضافة الى ذلك فان لندن نفسها لم تكن متحمسة - لأن الفكرة كانت فرنسية! هكذا لم نجد أمامنا منذ ذلك الحين سلاما مستقرا بل عملية سلام لا نهاية لها، تقوم على أساس استراتيجية اسرائيل التفاوضية، أي ترك الحل للطرفين المتفاوضين. والمؤكد اليوم ان ما هو مقبول ديموقراطيا للاسرائيليين مرفوض تماما من الفلسطينيين والعكس بالعكس. ما العمل اذن؟ من غير الممكن دراسة الاستراتيجيات الفلسطينية من دون ان نأخذ في الاعتبار بيئتها السياسية الطبيعية، أي النظام السياسي العربي. وقد أصبح العالم العربي في العقود الأخيرة مجموعة اقليمية لا فائدة تجنى من مصادقتها، كما لا خطر من استعدائها. اضافة الى ذلك فان العالم العربي يعاني من مأزق مزدوج: مأزق الأنظمة وازمة المعارضات. لا تزال فكرة الوحدة العربية يتيمة منذ وفاة جمال عبد الناصر قبل 33 سنة، فيما لم يستفق اليسار العربي حتى الآن من صدمة زوال الاتحاد السوفياتي، بينما لم يكن ابداً لليبرالية وجود أصلا كحركة منظمة. النتيجة اننا لا نجد أمامنا سوى الأحزاب الدينية التي لا يبدو ان غالبية السكان تعتبرها بديلا مغريا للحكومات الفاسدة - ومن هنا المفارقة في أن وجود هذه الأحزاب كمعارضة وحيدة منظمة وجماهيرية يدعم بقاء الحكومات. أما منظمة التحرير الفلسطينية فعلينا القول انها عملت دوما كنظام حزبي تعددي. وبالرغم من الضغوط الخارجية و"الفرص المتاحة" داخليا لم تجر أبدا، من جانب القيادة على الأقل، أي محاولة لسحق أو الغاء حزب أو تيار أو تنظيم معارض، بل بالعكس. ولم تكن أحداث طرابلس 1983 سوى محاولة من جانب حركة تمرد دعمتها قوة اقليمية لالغاء القيادة الشرعية. لكن الديموقراطية والتعددية في احيان كثيرة ترافقتهما الفوضى، ويمكن أحيانا أن يؤدي الاصرار على مبدأ التوافق الى شل القدرة على اتخاذ القرار. التعددية ووجهات النظر المختلفة ظاهرة طبيعية في كافة المجتمعات ونحن محكومون بان نختار ما بين الاجماع المستحيل او الاستراتيجية الواضحة.في بعض الاحيان يبدو لي اننا افقتدنا الاثنين معاً. لأبدأ أولا بصرف ما اعتبره ضربا من السراب: مشروع الدولة الواحدة ذات القوميتين. انه ليس رؤية استراتيجية جديدة، بل صحن بارد يعاد تسخينه. فقد دعت الحركة الفلسطينية عند انتعاشها في الستينات الى دولة ديموقراطية موحدة ذات ثقافتين تتمتع بالتعددية. و كان هذا بالفعل "عرضا سخيا" من اولئك الذين اعتبروا انهم صاروا "يهود الاسرائيليين" لكن لم يريدوا لهؤلاء الذين اختاروا ان يكونوا اعداءهم أن يصبحوا "فلسطينيي الفلسطينيين". ويعود المشروع الى تلك المرحلة التاريخية التي اعتقدنا خلالها - ربما بسذاجة - اننا كنا في طريقنا الى النصر. أما اليوم فالكلام عن الدولة الثنائية القومية يأتي تعبيرا عن نفسية الهزيمة واليأس من انهاء الاحتلال. ولديّ، اضافة الى شكوكي في امكان هذا الحل المفترض، تحفظات قوية على صلاحيته للفلسطينيين. اذ من يرغب في ان يتشارك في المواطنية مع المجتمع الاسرائيلي المتزايد التطرف؟ كما ان التفاوت بين المجتمعين يحيل "الدولة الواحدة" الى آلية لادامة سيطرة أحدهما على الآخر. فوق كل هذا اعتقد شخصيا ان حل الدولتين يقدم فرصة أوسع من مشروع "الدولة الواحدة" لممارسة حق العودة، سواء الى المواطن الأصلية أو الى أراضي الدولة الفلسطينية. أما الذين يستعملون شعار "الدولة الواحدة" كتكتيك لاقناع المجتمع الاسرائيلي أو تخويفه ودفعه الى الانسحاب فعليهم أن يدركوا محدودية قيمته الردعية، نظرا لاقتناع الاسرائيليين بامكان ادامة واقع التفريق العنصري ضمن دولة واحدة، مثلما حصل في جنوب أفريقيا على مدى عقود وبالرغم من الميل الكبير في الميزان الديموغرافي لصالح الغالبية السوداء. وفي كل حال فان حكومة اسرائيل تريد "الدولة الواحدة" حلاّ للصراع، على ان تكون تلك الدولة اليهودية ومن دون وجود لدولة فلسطينية. لقد تبنت الحركة الوطنية الفلسطينية حل الدولتين منذ حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، التي مثلت نقطة انتقال رئيسية في التفكير الاستراتيجي في العالم العربي. فقد قادت استعادة الثقة بالنفس الى نضج سياسي تجسد في التمييز بين المرغوب والممكن والمقبول. وشكّل الجسر الجوي الذي أقامه الأميركيون برهانا على ان واشنطن لن تسمح أبدا بهزيمة اسرائيل عسكريا. ومنذ ذلك الحين أدى افتقار العرب الى التصنيع العسكري وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك العلاقة بين الدول العربية الفاعلة عسكريا وانهيار التنسيق بين هذه وبين الدول المنتجة للنفط الى حرمان العرب من أي خيار عسكري ذي صدقية. وفي غياب الخيار العسكري على الصعيد العربي، هل يمكن ان يكون له وجود على الصعيد الفلسطيني؟ لا أرى ذلك ولم أره أبدا. وكان هدفنا أثناء وجودنا في لبنان البقاء عنصرا في المعادلة العسكرية لكي نبقى طرفاً في المعادلة الديبلوماسية. ولم نكن على الجبهة الديبلوماسية وقتها واحدا من عناصر "الرفض" بل طرفا مرفوضا. وجاءت الانتفاضة الأولى في 1987، التي كانت المعادل على الصعيد الفلسطيني لحرب 1973 على الصعيد العربي، لتسمح لنا باعلان وجودنا الوطني اعلان الاستقلال - الجزائر 1988 والبرهنة على استعدادنا للتعايش. ثم جاءت الانتفاضة الثانية، التي اعترف تقرير ميتشل بأنها كانت سلمية في أسابيعها الأولى. الا ان العنف الوحشي الاسرائيلي مئة قتيل فلسطيني في الاسبوعين الأولين دفع قلّة منّا الى الرد بالسلاح - على تواضع مستوى تسلحها - سامحة بذلك لاسرائيل بالتصعيد. وكم اتمنى لو اننا تذكرنا نصيحة الراحل فيصل الحسيني: "اذا أردت مقاتلة تايسون لا تدعه الى حلبة الملاكمة ولكن رقعة الشطرنج". لقد تلخصت عبقرية الانتفاضة الأولى بطبيعتها السلمية التي حيّدت تفوق اسرائيل العسكري. أما في الانتفاضة الثانية فلم يكن هناك ما يقيّد استعمالها لدبابات ميركفا أو حوّامات أباتشي أو مقاتلات "أف 16". واذا لم يكن للكثيرين خصوصا من أنصار اسرائيل ما يؤهلهم لالقاء المواعظ الأخلاقية علينا، فقد حان الوقت لكي ندرك أن التفجيرات الانتحارية ذات مفعول عكسي. وشهد التاريخ القريب حالتين على الأقل كان فيها للتفجيرات هذه تأثير مدمر على مصالحنا الوطنية: خلفية الحالية الأولى يمكن تلخصيها في خطأ الرأي القائل بأن أحداث 11 / 9 أدت فورا الى تغيير موقف واشنطن تجاه قضية فلسطين/اسرائيل. اذ أبدت واشنطن رغبةً في إظهار فاعلية أكثر في عملية السلام. واشتكى شارون وقتها علنا، بعدما طالبته واشنطن ب "ضبط النفس" وعدم احراج الحلفاء، من أن اسرائيل تعامل مثل تشيكوسلوفاكيا في 1939، عندما تُرِكَت نهبا لأطماع جيرانها في أرضها. ولم يكن سرا أن الرئيس بوش، المهتم وقتها بكسب القلوب والعقول في العالمين العربي والاسلامي، كان شديد الضيق بشارون، الى درجة انه أقفل الهاتف في وجهه ذات مرة أثناء اتصال صاخب بينهما. ثم عين بوش مبعوثا رئاسيا للشرق الأوسط هو الجنرال زيني، وذلك في تطور ايجابي بالنسبة الى الطرف العربي، لأن المبعوث الرئاسي هذه المرة لم يكن من الطائفة اليهودية الأميركية، ولأنه عسكري صلب الشخصية لا يمكن ان تطغى عليه شخصية شارون، كما كان بحكم قيادته للقوات الأميركية في الخليج قبل ذلك على علم بالتأثير السلبي للتصلب الاسرائيلي على العلاقات الأميركية - العربية. الخلاصة، انه كان مبعوثا مثاليا من وجهة نظرنا. اضافة الى ذلك فقد استدعى بوش رئيس الوزراء شارون الى واشنطن. كان ذلك أواخر كانون الأول نوفمبر 2001 استدعاه ولم يرجُ منه التفضل بالمجيء. وما حصل عشية زيارة شارون الصعبة الى واشنطن ووصول زيني الى فلسطين/اسرائيل أن هجومين انتحاريين أفشلا زيارة الأخير - الذي انكشمت مهمته لتقتصر على الجانب الأمني بعدما كانت سياسية - وأنقذا زيارة شارون التي تحولت الى نجاح كبير. وكانت هذه النقطة التي تمكن شارون عندها بمساعدة من دوائر نافذة في الادارة الأميركية من اقناع بوش بأن قمعه لشعبنا يشكل جزءا من الحرب على الارهاب. الهجوم الانتحاري الثاني الذي وجه ضربة قاسية لمصلحتنا الوطنية جاء في آذار مارس 2002 عندما تبنت القمة العربية في بيروت، بمباركة الفلسطينيين، المبادرة السعودية للسلام. وكان خيار شارون وقتها إما التجاوب مع تلك الدعوة الديبلوماسية الجماعية أو الرد على استفزاز عسكري. كما نعرف، نتيجةً لذلك، ان الضفة الغربية أُعيد احتلالها وان الاعتداءات على قطاع غزة مستمرة. يمكن القول اليوم، بكل موضوعية، أن على اسرائيل ان تدرك انها لن تستطيع انهاء الانتفاضة، مثلما علينا أن ندرك، بنفس المقدار من الموضوعية، ان ليس بامكاننا انهاء الاحتلال بالانتفاضة وحدها. ان قدرتنا على الصمود ومواصلة التحدي، تشكل انتصارا بحد ذاتها. لكن يجب ان لا ننسى أولوية السياسة. فالانتصار الحقيقي في النهاية هو الانتصار السياسي وليس العسكري. وبالفعل فان انتصار غالبية حركات التحرير العالمية كان سياسيا وليس عسكريا. واذا كان هدفنا هو الحل القائم على الدولتين، وهو كذلك، فقد انتصرنا بالفعل ديبلوماسيا وسياسيا. فقرار مجلس الأمن 1397 وخريطة الطريق و"رؤية بوش" تعترف كلها بالحاجة الى انهاء الاحتلال الذي بدأ في 1967 واقامة الدولتين. والتحدي الباقي أمامنا هو ترجمة هذا الانتصار السياسي جغرافيا، على الأرض. المجتمع الفلسطيني لا يقف أمام ذلك الخيار السطحي الذي يطرح أحيانا بين المقاومة واللا مقاومة، أو الانتفاضة واللا انتفاضة، بل يبن السبل المختلفة للتعبير عن رفضنا الاحتلال. وآمل وأدعو، آخذا في الاعتبار كل النقاط أعلاه، الى التحول الكامل الى استراتيجية المقاومة الشعبية السلمية. انه ليس خيار السذّج أو الذين انهكهم الكفاح، بل هو وسيلة فاعلة للتحرير. ولا شك ان الاسرائيليين سيحاولون افشال استراتيجية كهذه عن طريق الاستمرار في اقتحام المدن وحملات الاغتيال والقتل العشوائي. ومن هنا الحاجة الى الحد الأقصى من الانضباط والتماسك، وهو ما يتطلب من القوى الفلسطينية مهمة تنظيم وادارة كفاح سلمي يقوم به 3.5 مليون نسمة، وهي مهمة أصعب بكثير من تشغيل خلايا في انحاء الأرض المحتلة لا يتجاوز عدد كل منها ثلاثة أشخاص. وستضمن هذه الاستراتيجية مشاركة كل فئات المجتمع الفلسطيني، وتتمكن النساء خلالها من القيام بالدور الرائد الذي يطمحن اليه. وسيجد فلسطينيو اسرائيل والشتات سهولة أكثر في المساهمة والتكامل مع هذا النوع من الصراع. كما ستكون هذه الاستراتيجية موضع ترحيب ومشاركة معسكر السلام الاسرائيلي، بما يقود الى استعادته لحيويته وحجمه في الحياة السياسية الاسرائيلية. وستتمكن شبكة المنظمات غير الحكومية من المشاركة المباشرة في كفاحنا اليومي. وستجعل استراتيجية التحرك الشعبي السلمي قضية فلسطين النموذج الأرفع للصراع من أجل العدالة في عالم اليوم. في مسرحية بريخت عن غاليلو يقول واحد من تلاميذ ذلك العالم العظيم: "ما أتعس شعب ليس له أبطال"، فيرد غاليلو: "ما أتعس شعب ما زال يحتاج الى أبطال". اننا بالطبع لا نزال بحاجة الى أبطال، وانا انحني احتراما للبطل الفلسطيني الجماعي - الشعب الفلسطيني نفسه - لما أبداه ويبديه من صمود وثبات وقدرة على تحمل ما لا يوصف من الالام والعذاب. واعتقد جازما ان هناك اليوم حاجة الى اعادة النظر في تعريفنا للبطولة. * ديبلوماسي فلسطيني. محاضرة القيت في جامعة اكسفورد.