كان الرئيس جورج بوش لمح في خطابه الذي ألقاه في العشاء السنوي لمعهد أميركان انتربرايز يوم 26 شباط فبراير الماضي الى أنه سيسعى الى تحريك ملف الصراع العربي - الاسرائيلي فور انهاء عدوانه على العراق. ولفت الانتباه ان توقيت العرض جاء قبل أيام قليلة من انعقاد مؤتمر القمة العربية في شرم الشيخ لمناقشة الأزمة العراقية. وكأنما أراد الرئيس الأميركي الايحاء للزعماء العرب بأن الطريق الى القدس يمر في بغداد. وعلى رغم ان هذا الطرح كان أسخف ما وقعت عليه الاسماع الى حينه، الا ان أحداً من العرب لم يستنكره علناً. والآن وبعد تسعة أشهر على سقوط بغداد تنطلق دعوات عربية من هنا وهناك لاستئناف مفاوضات السلام، في حين تصر أطراف عربية أخرى على ضرورة مساعدة الأميركيين على تنفيذ وعدهم بالضغط على شارون من خلال وقف الانتفاضة والتهيئة للعودة الى طاولة المفاوضات. يؤسفنا أن نقول ان "وعد بوش" جاء بليل محاه النهار، وان أمل البعض تأسس على وهم، وان إغماض العين عن رؤية الحقيقة لا ينفي وجودها، ولذلك أسباب: أولها: ان شارون يقود أكثر حكومات اسرائيل تطرفاً وعنصرية، وان هذه الحكومة ان كانت راغبة في شيء فهو دفن العملية السلمية وفرض وقائع جديدة على الأرض تضع العرب أمام خيار القبول بشروط اسرائيل أو ضرب رأسهم في الحائط. ومع حرصنا على عدم الإغراق في تفاصيل الداخل الاسرائيلي إلا انه يتوجب لفت الانتباه الى ان حكومة شارون ليست بالطارئ على الحياة السياسية الاسرائيلية انما تعكس مدى التحول في المجتمع الاسرائيلي خلال السنوات العشر الماضية وهو أمر لا تتحمل الانتفاضة الفلسطينية المسؤولية عنه كما يحلو للبعض ان يجادل. فالتحول بدأ منذ فتح الاتحاد السوفياتي السابق أبواب الهجرة اليهودية عام 1989 حين وصل الى اسرائيل أكثر من مليون مهاجر حاملين معهم منظومة فكرية مشبعة بالعداء للعرب والإسلام. وشكل هؤلاء القاعدة الانتخابية العريضة لليمين الاسرائيلي خلال التسعينات. ففي حين انضم بعضهم الى الليكود شكل آخرون احزاباً لا تقل عنصرية مثل حزب المهاجرين الروس وحزب اسرائيل بعليا. السبب الثاني وربما الأكثر أهمية في جعل محاولة احياء المفاوضات ضرباً من العبث هو ان الادارة الأميركية تقف بقوة وراء شارون وحكومته، وهي فعلت كل ما يضمن اعادة انتخابه ابتداء من اغماض عينيها عن حملته المسعورة على الفلسطينيين الى الموافقة على تعديلاته على "خريطة الطريق" الى ارجاء البدء بالتفاوض عليها الى ما بعد الانتخابات الاسرائيلية. ولبيان مدى الدعم الذي يحظى به شارون في واشنطن ومدى التطابق في طريقة تفكير اليمينين الاسرائيلي والأميركي نترك تصرفات وتصريحات المسؤولين الأميركيين تتحدث عن نفسها. فقد يكون صدفة ان شارون وبوش جاءا الى السلطة بفارق اسابيع قليلة الا انه ليس صدفة أبداً ان تكون العلاقة بينها حميمة الى هذا الحد، فخلال العامين الماضيين استقبل بوش شارون سبع مرات - بمعدل مرة كل ثلاثة أشهر تقريباً، وهو شرف لم يحظ به أي زعيم في العالم بمن في ذلك أقرب حلفاء أميركا توني بلير. والأدهى وجود شبه اجماع على دعم شارون في أوساط الحكومة الأميركية، داخل الحزبين الكبيرين في الكونغرس وفي دوائر الإعلام - المحافظ في شكل خاص. ففي شهر تشرين الثاني نوفمبر 2001 وقع 88 عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي على خطاب موجه الى الرئيس بوش طالبوه فيه بمنع وزير الخارجية كولن باول من توجيه اي انتقاد لاسرائيل خلال كلمة كان مقرراً إلقاؤها في جامعة لويزيفيللي، كما ناشدوا بوش تقديم دعمه المطلق لحملة شارون العسكرية على الفلسطينيين. ومما جاء في الخطاب: "في الوقت الذي نعتقد فيه ان الشعب الأميركي لن يغفر لنا أبداً عدم ملاحقة الإرهابيين بكل ما أوتينا من قوة، نجد بعض أركان الإدارة يطالبون شارون بضبط النفس بعد كل هجوم ارهابي". ولم يكن بوش ليخيب آمال الموقعين على الخطاب عبر التجاوب الكامل مع مطالبهم فحسب، بل قام وللمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي بنقل ملفه من الخارجية الى البنتاغون، وأوكله الى اليدين الأمينتين لمساعدي وزير الدفاع بول وولفوفيتز ودوغلاس فيث. وحتى يحرم الخارجية من الاضطلاع بأي دور في هذا الصدد قام بتعيين أعتى صقور اليمين الأميركي اليوت أبرامز مستشاراً للرئيس لشؤون الصراع العربي - الاسرائيلي. والجدير ذكره ان فيث بالمشاركة مع ريتشارد بيرل وآخرين كانوا أعدوا تقريراً في العام 1996 عنوانه Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm طالبوا فيه رئيس الوزراء الاسرائيلي في ذلك الوقت بنيامين نتانياهو بالتحفظ عن عملية السلام بأي طريقة. وفي عام 1997 كتب فيث مقالاً في مجلة Commentary الفصلية المعروفة بولائها لإسرائيل طالب فيه نتانياهو بإعادة احتلال أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني بغض النظر عن الدم الذي يتوجب دفعه. وفي تحليل اسباب التعاطف الأعمى الذي يحظى به شارون في أوساط الإدارة الأميركية يرى ستيفن زونيس - أحد أبرز الأكاديميين الأميركيين المطلعين على ملف الصراع العربي - الاسرائيلي - ان مفهوم هذا الصراع بالنسبة الى بوش ودوائر اليمين الجديد ليس سياسياً بل دينياً ويتركز حول حق اسرائيل المقدس في هذه الأرض. وكرر الجمهوريون هذا الرأي في أكثر من مناسبة حيث اعتبر ريتشارد ارمي أحد أبرز زعمائهم في مجلس النواب أن القانون الدولي لا ينطبق على الأراضي المحتلة لأن القانون الذي يحكم هذه المسألة وضع قبل ثلاثة آلاف سنة من قبل سلطة إلهية لا ترقى الى شرعيتها اي سلطة وضعية. وجاء في كلمة ألقاها السناتور الجمهوري عن أوكلاهوما جيمس اينهوف في كانون الأول ديسمبر 2001 خلال اجتماع لمجلس الشيوخ، والكلام ينقل بحرفيته بعد الترجمة: "ان ملكية الضفة الغربية تعود الى إسرائيل لأن الله وعد النبي ابراهيم بها. ان لإسرائيل الحق في هذه الأرض لأن الله قال كلمته. هذه ليست معركة سياسية إنها امتحان لما إذا كانت كلمة الله حقاً أم لا، أو إذا كان وعد الله سينفذ أم لا". والدعم الأميركي لسياسات شارون لا يقتصر على دوائر الكونغرس المعروف تقليدياً بقربه من اليمين الاسرائيلي بل أصبح أحد السمات البارزة للسياسة الأميركية التي كانت تفضل دائماً التعامل مع حزب العمل على التعامل مع الليكود. بل ان ادارة بوش ذهبت في تأييد شارون أبعد كثيراً مما ذهب اليه بعض الاسرائيليين. وبالاشارة الى ما حدث في جنين في نيسان ابريل 2002 لوحظ أن الموقف الاسرائيلي كان أكثر مرونة من الموقف الذي تبنته الولاياتالمتحدة في مجلس الأمن عشية مناقشة مشروع ارسال لجنة لتقصي الحقائق الى المخيم. وقد شعرت الولاياتالمتحدة بحرج شديد عندما أعلن شمعون بيريز، ومن دون سابق تنسيق مع واشنطن على ما يبدو، عن موافقة اسرائيل على استقبال اللجنة في الوقت الذي كان السفير الأميركي الى الأممالمتحدة جون نغروبونتي يبذل كل جهد ممكن لمنع تبني مجلس الأمن مشروع القرار. وعندما تراجعت اسرائيل وبدأت تضع العراقيل أمام ارسال اللجنة بعثت كوندوليزا رايس الى شارون برسالة موجهة من بوش تقول ترجمتها الحرفية كما نشرتها صحيفة "سان فرانسيسكو كرونيكل" بتاريخ 30 نيسان 2002 "لا داعي للقلق فنحن معك حتى النهاية". وكان هذا أيضاً ما قصده بوش عندما تحدث عن "رؤيته" لمشروع اقامة دولة فلسطينية في حزيران يونيو 2002. إذ يعتقد الرئيس الأميركي وأركان حكمه ان شكل وحجم وموقع والوضع القانوني والسياسي للدولة الفلسطينية العتيدة هي أمور يعود تقديرها الى حكومة شارون. وبلغ حجم التأييد الأميركي لشارون درجة أخذ يثير معها قلقاً داخل اسرائيل، حيث راح عدد من المعلقين الاسرائيليين يشكو من أن الحب الأميركي يكاد يصيب دولتهم في مقتل. فقد قال الكاتب الاسرائيلي جدعون ساميت أن الولاياتالمتحدة بدعمها الأعمى لحكومة ليكود تعرض أمن اسرائيل ووجودها لخطر جسيم، وانه بدلاً من تهدئة الأمور من طريق ممارسة ضغوط على شارون لبدء مفاوضات مع الفلسطينيين فإن العام سام يكتب مسودة لقصة مستوحاة من حياة الغرب الأميركي لشعب جيد ضد شعب شرير تجب ابادته. أما ناشطة حقوق الانسان الاسرائيلية جيلا سيفرسكي فاشتكت من أن حركات السلام الاسرائيلية تجد نفسها مضطرة لبذل جهد مضاعف لإقناع الاسرائيليين بضرورة التفاوض مع الفلسطينيين، مرة في مواجهة طروحات شارون والمرة الثانية في مواجهة بوش. وتخلص سيفرسكي الى القول ان بوش تحول الى جزء من المشكلة بدل أن يكون جزءاً من الحل وأن عليه أن يقرر اما أن يكون مع السلام أو مع شارون إذ لا يمكنه أن يكون مع كليهما. وذهب بعض الاسرائيليين الى القول بأن الرأي العام الاسرائيلي يبدو أكثر تقبلاً لإيجاد حل مع الفلسطينيين من الحكومة الأميركية. ففي استطلاع للرأي جرى في أيار مايو 2002 أعرب 60 في المئة من الاسرائيليين عن اعتقادهم بأنه لا يوجد حل عسكري للصراع مع الفلسطينيين، في حين أعرب 59 في المئة منهم عن استعدادهم للانسحاب الى حدود 1967 وإخلاء الكتل الاستيطانية الرئيسة في الأراضي المحتلة إذا ترافق ذلك بضمانات أمنية أميركية. لكن بوش لم تعجبه الفكرة على ما يبدو وذلك لتعارضها مع معتقداته الدينية على ما يقول جدعون ساميت الذي خلص الى أنه مع هذا النوع من الأصدقاء فإن اسرائيل ليست في حاجة الى أعداء. فهل يحتاج وسطاء وقف الانتفاضة ودعاة استئناف التفاوض أكثر من هذا دليلاً الى خداع النفس والعيش في عالم وهم. * باحث سوري مقيم في بريطانيا.