قبل الإجابة عن هذا السؤال، تجدر الاشارة الى انه لا يوجد اجماع داخل نخبة السياسة الخارجية الأميركية بخصوص التعاطي مع الأزمة المتفجرة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. ثمة إجماع سلبي يتعلق بتجنيب الرئيس جورج دبليو بوش مسؤولية إخفاق أي مبادرة جدية يمكن ان يطرحها فريق إدارته في محاولة لوقف مسلسل التصعيد الميداني وإراقة الدماء والعودة الى مائدة المفاوضات. لا يزال مساعدو بوش يتخوفون من تكرار تجربة الرئيس السابق بيل كلينتون مع عملية السلام في الشرق الأوسط واستثماره وقتاً وجهداً مهمين في ادارتها شخصياً ليحصد الفشل والمرارة ويخسر رهانه على تحقيق رصيد سياسي نوعي داخلياً وخارجياً. السياقات المحلية والمعطيات السياسية، وليس البعد الاستراتيجي، تحدد حركة وسلوك الادارة الحالية تجاه الصراع الدموي في فلسطين. فالأخيرة لا تحاول التمايز عن نظرتها الديموقراطية السابقة بل ايضاً التخفيف والتقليل من شظايا تداعيات انفجار واسع للمواجهة بين الاسرائيليين والفلسطينيين. وبغض النظر عن انحيازه الشديد لاسرائيل وتبنّيه لاطروحاتها ومقترحاتها في شأن انهاء النزاع مع الفلسطينيين، أظهر كلينتون جرأة سياسية عالية اتسمت بالمجازفة وأخذ المبادرة السريعة والانخراط شخصياً في تقنيات وحيثيات محادثات السلام بين الجانبين المتصارعين الى درجة غير معهودة من جانب الرؤساء الأميركيين السابقين، باستثناء الدور المحوري للرئيس جيمي كارتر في تحقيق الانجاز التاريخي بين الاسرائيليين والمصريين في كامب ديفيد في اواخر السبعينات. هذه النقطة بالتحديد، العلاقة الحميمة التي ربطت كلينتون بالدولة العبرية وأصدقائها في الولاياتالمتحدة، أعطته هامشاً كبيراً من الحرية في ادارة ملف عملية السلام في الشرق الأوسط والمضي قدماً في دفعها الى الامام، على رغم الحواجز والصعوبات العاتية التي واجهتها وعرقلت سيرها وانطلاقها. لم يكن الرئيس الأميركي السابق بحاجة ليثبت دعمه واخلاصه للدولة العبرية، لأنه تبنى مشروعها قبل ان يفوز بالرئاسة، ولأنه حصل توافق شبه كلي بين ادارته من جهة واسرائيل واللوبي الصهيوني من جهة اخرى على الخطوط الرئيسة للمبادرة الاميركية وأهميتها وحيويتها في تدعيم وتمتين استقرار وهيمنة اسرائيل الاستراتيجية في المنطقة العربية. وعلى رغم حصول بعض التباين في مواقف الحليفين احياناً، لقي اسهام كلينتون ودوره دعماً وتشجيعاً منقطع النظير من جانب اصدقاء تل ابيب في الولاياتالمتحدة مما شجعه على الاستمرار في ادارة ملف عملية السلام، غير عابئ بالنتائج المترتبة على فشله. هنا بالذات تكمن الاشكالية، العقدة، التي تواجه الرئيس الجمهوري دبليو بوش في تعاطيه مع الانتفاضة الفلسطينية. فعلى عكس نظيره الديموقراطي، لا توجد علاقة حب بين بوش وحلفاء اسرائيل في الولاياتالمتحدة، حيث حاول اللوبي الصهيوني جاهداً اسقاطه في الانتخابات الرئاسية الاخيرة، وترجيح دفة آل غور المعروف عنه غرامه الشديد بالدولة العبرية. وبدلاً من ان يحاول بوش تحجيم اللوبي الصهيوني وتقزيم دوره في صوغ السياسة الأميركية ازاء الصراع العربي - الاسرائيلي، كما توقع العديد من المراقبين العرب والأميركيين على حد سواء، بادر الى استرضائه ومحاكاته والمزايدة على منافسيه الديموقراطيين في اظهار دعمه وولعه بكل ما هو اسرائيلي. بوش، الضعيف داخلياً، لا يريد الدخول في مواجهة مكلفة مع اسرائيل او اللوبي الصهيوني، وخصوصاً مع الكونغرس الاميركي العنيف التأييد لسياسات تل أبيب. لماذا يستثمر بوش بعضاً من رصيده السياسي المتواضع في فلسطين، اذا كان مردود هذا الاستثمار قليلاً، يحمل في طياته امكانية الافلاس والفشل؟ لم تعد عملية السلام العربية - الاسرائيلية تشكل اولوية استراتيجية للادارة الاميركية الحالية. يتردد الحديث اليوم في واشنطن وأوساط فريق بوش على اهمية الأمن والاستقرار الاقليمي ومكافحة الارهاب وتشديد الحصار على العراق. وضعت العملية السلمية بمفهومها العريض في ثلاجة الانتظار، لأن ادارة بوش تدرك جيداً ذهنية وعقلية رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون وافتقاره الى مشروع سياسي للتعامل مع الفلسطينيين، ولأنها تفتقر الى رؤية استراتيجية واضحة المعالم لحل الأزمة المستعصية بين الجانبين المتناحرين ولا تريد، طبعاً، الدخول، او حتى الوقوع، في مواجهة مكلفة مع شارون وأصدقاء اسرائيل في أميركا. أدى تركيز ادارة بوش على العامل الأمني الى فهم معين لخلفية شارون العسكرية وتفهم اكثر للآليات القمعية التي يوظفها ويستخدمها ضد الانتفاضة الفلسطينية. ولقد عبّر السفير الاميركي الجديد في اسرائيل، دانيال كيرتزر، عن هذا الواقع باعتباره انه منذ وصول شارون الى الحكم في آذار مارس سجل "توافق استراتيجي بين البلدين" حتى ان برزت "خلافات تكتيكية" بينهما احياناً. وصل الى نفس النتيجة والقراءة سفير واشنطن السابق، مارتن انديك، في تل أبيب. مما لا شك فيه ان وزارة الدفاع الأميركية ونخبتها القوية النفوذ تنظر بعين الرضى الى رئيس الوزراء الاسرائيلي اكثر بكثير من وزارة الخارجية التي تدرك المخاطر المترتبة على المصالح الأميركية الحيوية في المنطقة العربية من جراء سياسات شارون التصعيدية. للأسف، يبدو ان كوندوليزا رايس، مستشارة مجلس الأمن القومي، ضمت صوتها القوي النبرة داخل ادارة بوش الى معسكر الصقور الذي يدعم شارون ويريد ان يعطيه فرصة لاخماد نيران الانتفاضة قبل الدعوة الى استئناف المفاوضات في ظل استمرار مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الاسرائيلي. بالفعل، تبنى بوش وجهة نظر رايس وصقور نخبة السياسة الخارجية في ادارته في ما يتعلق برفض شارون اجراء مفاوضات سياسية ما لم يتم وقف كلي لإطلاق النار في الاراضي الفلسطينيةالمحتلة، محملاً السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات مسؤولية مباشرة عن اندلاع واستمرار الانتفاضة. لكن تبني وجهة النظر الاسرائيلية بالنسبة الى استئناف المفاوضات لا يعني ابداً ان ادارة بوش اعطت، او أنها في صدد ان تعطي، ضوءاً اخضراً لشارون لينقض على السلطة الفلسطينية ويفتك بها. صحيح ان الادارة الاميركية تغض النظر عن بعض الاغتيالات التي تنفذها حكومة شارون ضد بعض الناشطين الفلسطينيين، لكنها تدرك الآثار والعواقب المترتبة على تدمير بنية الدولة الفلسطينية على الاستقرار الاقليمي والمصالح الاميركية الحيوية في المنطقة العربية. الاميركيون يعرفون تماماً ماذا يريدون: وقف الصراع الدموي والعودة الى مائدة المفاوضات وتدعيم الاستقرار الأمني في الشرق الاوسط. لكنهم لا يتجرأون على مواجهة شارون بالحقائق ومتطلبات نزع فتيل التصعيد العسكري في المنطقة. إلقاء اللوم على الفلسطينيين والضغط عليهم وتهديدهم يبقى اقل كلفة على نخبة السياسة الخارجية الاميركية من التعاطي بحزم وجرأة ادبية وأخلاقية مع الحليف الاسرائيلي الصغير. يفسر هذا الخوف، من دفع تكاليف سياسية باهظة، الموقف الاميركي الراهن تجاه الصراع في فلسطين الدعوة الى وقف العنف والابتعاد وتجنب اخذ زمام المبادرة والقيادة لدفع الجانبين الى الجلوس معاً على مائدة المفاوضات. ما تفتقر اليه السياسة الاميركية الحالية هو عنصر القيادة وليس اصدار التصريحات الرنانة والاصرار الروتيني على ان الادارة مهتمة بالوضع المتدهور في فلسطين. في ظل هذه السياقات والمعطيات الصعبة، السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن تغيير السياسة الاميركية تجاه الصراع في فلسطين؟ هناك اجماع لدى المراقبين العرب والأجانب معاً من ان النظام الاقليمي العربي عاجز في الوقت الراهن عن لعب دور فاعل وحيوي في اقناع صنّاع القرار الأميركيين او الضغط عليهم للاضطلاع بمهمة الوسيط الدولي النزيه والعادل. غياب الارادة السياسية يحد من قدرة النظام الاقليمي على ممارسة وظائفه المتعلقة بالأمن القومي العربي والحفاظ على مصالح أعضائه. اما الرأي العام العربي فمحبط ومقيّد ومدجّن الى درجة كبيرة. طبعاً، التطورات الميدانية على الأرض يمكن ان تترك بصماتها وتأثيراتها على الجمهور العربي وتشعل وجدانه وتفجر غضبه. عندئذ، تتغير المعادلة. بانتظار حدوث مثل هذه المعجزة، العامل الحيوي الذي يمكن ان يدفع الادارة الاميركية الى لعب دور قيادي، قاطر في عملية السلام قناعة اصدقاء اسرائيل في الولاياتالمتحدة بفشل وعجز استراتيجية شارون الأمنية على اخضاع الفلسطينيين وكسر ارادتهم وشوكتهم. لا يبدو ان دبليو بوش مستعد للمغامرة والمجازفة بأي رصيد سياسي في فلسطين ما لم يحصل على الضوء الأخضر من اللوبي الصهيوني، غريمه اللدود داخلياً، للقيام بمبادرة جدية لتحقيق اختراق على مسرح الصراع. المفارقة المؤلمة ان مثل هذه المبادرة، ان حصلت، لن تشكل تحولاً نوعياً في سلوك الولاياتالمتحدة ازاء عملية السلام العربية - الاسرائيلية. * استاذ العلاقات الدولية ودراسات الشرق الاوسط في جامعة سارة لورنس في نيويورك.