افتتح ريتشارد هولمز سلسلة محاضرات "حياة قطعت" في "ناشينال بورترت غاليري" بغرق الشاعر برسي بيش شيلي في ايطاليا صيف 1822. لم تستطع صحيفة "كوريير" المحافظة مقاومة الحاجة الى ضرورة تلقينه درساً حتى بعد موته، واستهلت نعيه بالقول: "شيلي الذي كتب شعراً ملحداً غرق. وهو يعرف الآن اذا كان الله موجوداً أو لا". كان دون الثلاثين بشهر واحد، ومنذ تلك اللحظة بات موته في خليج سبيزيا من أقوى الأساطير الرومنطيقية وربما اكثرها تضليلاً وفق هولمز. مثل جون كيتس الذي توفي في روما قبله بعام عن واحد وثلاثين عاماً، ولورد بايرون الذي توفي بعده بعامين عن ستة وثلاثين عاماً، طبعت المأساة سيرته بقدسية لا تناقش، وجعلته عبقرياً قصفت حياته الواعدة في ما يشبه تقديم الضحايا. على أن موت شيلي حدّد حياته بأكثر مما فعل مع كيتس وبايرون. كثرت المذكرات والقصائد والصور التي صدرت بعد موته وصنعت صورته، فماثلت العملية أفضل الحملات الدعائية اليوم. خلافاً للورد بايرون الذي كان "سيئاً، مجنوناً وخطيراً" بدا شيلي روحياً غير عملي ومحكوماً عليه بالموت شاباً. الشاعر ماثيو ارنولد الذي ولد في سنة وفاة شيلي رآه ملاكاً جميلاً غير مجدٍ يخفق عبثاً في الفراغ جناحيه اللامعين". في "كازا مانيي" الذي كان آخر منزل سكنه شيلي على خليج ليريتشي نقش ورد في آخره: "ايتها الشواطئ المباركة، حيث الحب والحرية والأحلام بلا أغلال". بدأت ماري شيلي حملة التقديس عندما كتبت فور موت زوجها: "لم أكن أبداً حواء الجنة بل مخلوقاً بشرياً بورك بحب روح وصحبته. ملاك سجنه لحمه فلم يستطع التكيف مع مزاره الطيني وطار وتركه". ادوارد جون تريلوني، صديق شيلي، كتب في 1822 في مذكراته بلغة بسيطة عن العاصفة الموسمية التي حطمت قارب الشاعر وحرق جثته على شاطئ فيارجيو في احتفال وثني اعده تريلوني نفسه، وسكبت فيه التوابل والزيت والخمر على جسد شيلي. لكن وفاة الشاعر تحولت هاجساً فعاد تريلوني اليها أكثر من عشر مرات، وأعاد الكتابة عنها مضيفاً تفاصيل واحتمالات. هل تعرض القارب للصدم، أو كان شيلي انتحارياً في خبرته البحرية الضئيلة؟ لوحة لوي فورنييه في 1889 عن "حرق شيلر" أظهرت جثة الشاعر عادية لا تشوهات فيها، مددت على محرقة الشهداء أمام تريلوني وبايرون اللذين اتخذا وضعاً رورمانسياً وماري الراكعة على الشاطئ، تبكي والريح تلسعها. اختار فورنييه ما يلائم لوحته، لكن بايرون وتريلوني لم يتأملا الشاطئ والأفق بحزن بل فضلا السباحة على النظر الى الجثة المشوهة التي أكلتها الأسماك، أما ماري فلم تكن في الاحتفال أصلاً. عائلة شيلي كلفت هوراشو ويكس نحت تمثال للشاب الراحل، فاستند الى تراث "النائحة" الايطالي وجعل شيلي مسيحاً تحيطه مريم بذراعيها. في أواخر القرن التاسع عشر نصب تمثال آخر لشيلي في يونيفرسيتي كولدج في جامعة اكسفورد بمبادرة من جمعيته، ولا يزال قائماً حتى اليوم، تحميه قضبان حديد. بدا الشاعر فيه ملاكاً هابطاً فوق مذبح أخضر مع حورية بحر تبكيه جانباً. في "الفتى" الذي صدر العام الماضي تربط النسوية الاسترالية جرمين غرير موت شيلي بشهادة القديس سيباستيان المازوشية، وتصوره موت الذكر الضعيف الجميل والجذاب جسدياً. حياة شيلي اذاً بدت بعد موته عابرة، ملائكية، سريعة الزوال وانتحارية ربما، أو حاوية على نبوءة أكيدة بموته. ماري التي كانت في الخامسة والعشرين عندما توفي برسي كانت أول من رأى الانتحار في الموت: "كأنه توقع مصيره". أحب الشاعر القوارب منذ كان طفلاً وصنعها من فئة الأوراق النقدية الكبيرة خصوصاً، لكنه لم يكن ضئيل الخبرة بها كما قال تريلوني في محاولته صنع الشهيد الشاب. نال خبرة واسعة في صباه وشبابه، وأبحر بمفرده ومع أصدقائه، ونجا من حوادث خطيرة عدة على أن خبرته كانت نهرية، وكان "دون جوان" الذي توفي في قاربه البحري الأول والأخير. أضاف اليه الحديد ليزيد قدرته على المقاومة لكنه لم يكن مؤهلاً للظروف البحرية القاسية. طلبت منه ماري، المريضة المكتئبة، ألا يذهب لكنه غادر ليريتشي الى ليفورنو مع ثلاثة من رفاقه ليقابل صديقه لي هنت الواصل حديثاً الى ايطاليا لتأسيس مجلة أدبية جديدة. بدأ رحلة العودة مع صديق ومساعد بحري، وكان ادوارد تريلوني سيرافقهم على ظهر قارب بايرون الكبير "بوليفار" لكن السلطات منعته من الابحار وقضت على احتمال نجاة شيلي ورفيقيه. لم يكن مكتئباً وفق الاسطورة التي صوّرت رجلاً ذاهباً الى موته بل متحمساً مفعماً بالحيوية. بعد ثلاث ساعات من الابحار هبّت عاصفة قوية كسرت مؤخرة القارب والشراعين ونزعت الدفة. لم يصدمه قارب قراصنة كما اعتقد تريلوني، ولم ينقلب أو يتعرض للنهب. عندما وجده صيادو السمك الايطاليون في قاع البحر بعد شهرين كانت الكتب والأوراق وزجاجات الخمر والتلسكوب وكيس المال لا تزال هناك. بعد عشرة أيام وجدت ثلاث جثث طافية حددت ملابسها وحدها هويتها. كان في جيب شيلي ديوان كيتس الجديد، وبدا من وضعه المطوي في جيبه انه وضعه هناك على عجل عندما دهمته العاصفة والموت. هل كان لدى شيلي ما يعيش لأجله؟ ادعى احياناً انه توقف عن الكتابة بحجة انه عاش أطول مما يجب مع اللورد بايرون "والشمس اطفأت الحباحب". لكنه كان كتب مئة وثمانين مقطعاً من "انتصار الحياة" وبدأ مسرحية سياسية نثرية عن تشارلز الأول وجمهورية انكلترا. كان يترجم أيضاً لغوته ويكتب اغاني خاطب فيها جين وليامز التي توفي زوجها معه لا ماري. ولم تنطفئ الشعلة السياسية أيضاً، ففي 1820 كتب "نظرة فلسفية الى الاصلاح" الذي لم ينشر الا بعد قرن. كان لا يزال "ملحداً، ديموقراطياً، محسناً" كما كتب في خانة المهنة في فندق سويسري قبل أربع سنوات، وفي المقال طالب بحق الانتخاب للجميع وحقوق النساء والغاء الكنيسة الانغليكانية وتأسيس اتحادات العمال واعتماد وسائل منع الحمل. كان أول من أعلن ان الشعراء والفلاسفة مشرعو قوانين البشرية. كتب لحركات التحرير في اسبانيا واليونان وجنوب ايطاليا، وعندما تحررت اليونان قال: "كلنا يونانيون". الأهم من كل ذلك ان شيلي كان استكمل خطة الإعداد لمجلة "ذا ليبرال: شعر ونثر من الجنوب" التي أرادها صوت المقاومة الرومنطيقية وذهب الى ليفورنو ليلتقي لي هنت من أجلها. كان ممولها الرئيسي مع بايرون، لكنه لم يعش ليرى اعدادها الأربعة التي صدرت بين خريف 1822 وصيف 1823. لو عاش كان سكن ربما فترة في اليونان مع ماري وطفله برسي فلورنس ثم عاد الى انكلترا ليرث البارونية ومقعد البرلمان عن والده سير تيموثي، وكان اشترك حتماً في قانون الاصلاح الكبير الذي أقر في 1832. لكن ماري عاشت من دونه ثلاثة عقود تراجع أوراقه وتحوله ملاكاً وتصارع لتعيش مع ابنها من الكتابة والعمل في الصحافة. أصدرت ثلاث روايات لم ترقَ الى مستوى "فرانكنستاين" التي كتبتها عندما كانت في الثامنة عشرة خلال عطلة أمضتها مع شيلي وبايرون في جنيف كأنها تستجيب لتحدي حضور الشاعرين المعروفين بسلاحهما. كانت والدتها ماري وولستونكرافت مؤلفة "المطالبة بحقوق النساء" الشهير في أواخر القرن الثامن عشر، ووالدها الفيلسوف وليم غودوين الذي طالب بالحب الحر والجمهورية. لم يكن يفكر بابنته عندما تحدث عن العلاقات المتحررة وقاطعها عندما هربت مع شيلي واختها من والدها كلير عندما كانت في السادسة عشرة. شيلي كان متزوجاً ووالداً لطفلة، ونمت علاقته مع ماري وسط حزن وموت وشكوك لا ترحم. توفي طفلهما الأول بعدما ولد قبل الأوان، انتحرت اختها غير الشقيقة فاني ثم هارييت زوجة شيلي. تزوج الشاعر ماري لكنه لم يحظَ بحضانة طفليه من زوجته الأولى. سافرا الى ايطاليا حيث توفي لهما طفلان آخران واستسلمت ماري للكآبة. كانت كلير احدى صديقات بايرون وانجبت طفلة منه. حين تركها عادت الى العيش مع ماري وبرسي وذهبت مع الأخير وحده الى البندقية حيث مكثا فترة طويلة. ترملت ماري قبل وفاة زوجها وعاشت كلير، التي كانت دونها سناً ببضعة أشهر، ثلاثة عقود بعدها. لم تتزوج بسبب بايرون الذي "دمر قلبي كما لو انه احرق بألف برق" وقالت ماري انها ترفض الذهاب الى الجنة اذا كانت كلير رفيقتها. ماري بدأت حياتها بموت والدتها التي قضت عليها تعقيدات الولادة بعد بضعة أشهر. بدا ان مسلسل الموت قبل الأوان انتهى برحيل زوجها. وضعت بقايا قلبه في صندوق وعادت الى انكلترا بقايا المرأة التي كانت والرجل الذي كان لها. كرّست نفسها لصنع اسطورة الشاب الذي قطع الموت كلمته، لكنها راقبت أعماله وحذفت منها كل الأفكار الجمهورية غير الملائمة.