أيضاً وأيضاً خفر، كتوم، لا يستسيغ لعبة الإعلام ولا يساوم في الكتابة. غراهام سويفت صمت بعد فوزه بجائزة بوكر في 1996 عن "الطلبات الأخيرة" واتهام اكاديمي استرالي له بنحل "عندما رقدت أحتضر" للأميركي وليم فولكنر. الكاتب الانكليزي اعترف في روايته بدينه لفولكنر، وهاجمت زميلته أ.ل. كينيدي "تقطيع الأوصال المجاني لسمعة سويفت". كان على الكاتب أن يحيي أمسية في أكسفورد، بلدة فولكنر، حيث لم يشر أحد الى علاقة بين الروايتين قبل أن يرتاح الى الاعتقاد ببراءته. الكاتب الاسترالي بيتر كاري أقر بإعجاب كبير ب"عندما رقدت أحتضر" عند فوزه ببوكر في 2001 فاستبق أي اتهام مماثل. الأعمال الأدبية البارزة تعود في شكل أو آخر، ولا تزال "مرتفعات وذرينغ" لإميلي برونتي تطل في حلل عدة مختلفة كل سنة. السؤال عن الابتكار مشروع، لكن سؤالاً آخر يواجهه: هل يستطيع الكاتب حقاً أن يقرأ وينسى؟ في روايته الأخيرة "نور النهار" الصادرة عن دار هاميلتون يهجس سويفت مرة أخرى بالموت وتوابعه. تناول القتل والاغتيال والانتحار والموت مرضاً في "بلاد المياه" و"باهر" و"الى الأبد" و"الطلبات الأخيرة". في "نور النهار" غرام من دون قبلة واحدة وانتقام بعد زوال ظاهري للدافع. يكتب سويفت في اقتصاد وتقتير أحداث يوم واحد. يضع تحرٍ باقة أزهار على قبر رجل ثم يزور زوجته في السجن. ما الذي دفعها الى القتل في اللحظة الأخيرة بعدما احتملت علاقة زوجها بلاجئة كرواتية كانت في طريقها الى بلادها؟ كانت الخيانة الوحيدة للزوج، لكن الزوجة لم تعبر عن غضبها ورفضها إلا عندما اجتمعت به ليتصالحا، المفارقة ان حب التحري للقاتلة كان كاملاً ومستحيلاً في آن، وكان حقيقياً أيضاً ولكن من دون أن يمارس. ليس في هدوء غراهام سويفت ما يشير الى الزلزال العاطفي الذي يدمر أبطاله، وإذ يلتقي الصحافيين ليروّج لروايته يكتفي بالحديث عن الكتابة. عمل في التدريس الى أن سمحت له "بلاد المياه" بالتفرغ للكتابة التي تنهضه من نومه السادسة صباحاً "قبل أن يعرقل العالم الطريق". يكتب بقلم حبر سائل ويجد متعة أحياناً في دفق الحبر على الصفحات. يتوقف ظهراً ويراقب ليلتقط الأفكار من العادي حوله. "نور النهار" بدأت فعلاً عندما ألحت عليه فكرة زيارة رجل لامرأة في السجن. كتبها في سنتين بعد تفكير "مختلط" طويل، علماً أنه يحتاج عادة الى وقت أطول للكتابة. لا يخطط ويسند البنية الى عاطفته. المنطق العاطفي يقرّر مجرى العمل ويجذب القارئ لا الخطة المدروسة مسبقاً، والذكريات لا تسير وفق منطق متسلسل. ليس مغرماً بالبحث أو اضفاء لمسات ذاتية، ويتمسك بإخلاصه للعادي: "لست من الكتاب الذين يبحثون عن المدهش والمثير. أحب العالم الذي في متناولنا، وإذا لم يكن هناك شيء خاص أو سحري عليَّ أن أبحث عنه وسط الأشياء العادية". كان أبطاله مثله وقالوا القليل في أعماله الأولى، لكنه منحهم صوتاً أكبر منذ "الطلبات الأخيرة" التي روت فيها سبعة أصوات. يشفق على الكتاب الشباب الذين يضغط عليهم الناشرون وتطورات السوق لكي يظهروا بصور عدة لا علاقة لها بالكتابة ويحققوا النجاح فوراً. "عليك أن تكسب نصف مليون مع كتابك الأول وإلا فشلت". ومعنى أن يكون كاتباً؟ "يصعب غالباً ان نقول لأقرب الأشخاص إليك ما فعلت أو لم تفعل في يوم معين. لا معنى للقول أنك لم تكتب كلمة واحدة لكنك فكرت كثيراً. أحياناً أخرى تكتب جملة وتعرف أنك لن تعيد كتابتها فتكتسب الأشياء عمقاً ويبدأ الشعر بالرفرفة حول العالم". كتب بماء طلب أن يعطى بعض الوقت لكي يترك ذكرى بعد رحيله، لكن جون كيتس ورث لعنة الأسرة وتوفي في السادسة والعشرين بعيداً من وطنه وحبيبته. شاعر البلاط أندرو موشن افترض في روايته الصغيرة الأخيرة "اختراع الدكتور كيك" الصادرة عن دار فابر شفاء الشاعر الرومنطيقي وانتحاله اسم جون كيك الذي كان طبيباً ضئيل الجسم مثله. كيتس الذي توفي في روما في 1821 رأى اقامته في ايطاليا "حياة ما بعد الموت" ورحل وهو يعتقد ان موهبته الشعرية تنطفئ وان النقاد لم يرحموه لأسباب سياسية. شاء أن يكون بين الشعراء الانكليز بعد موته لكنه شكا لفاني برون انه لن يترك عملاً خالداً يثير فخر أصدقائه عند رحيله. "أحببت الجمال في كل شيء ولو أعطيت الوقت لتركت ذكرى بالتأكيد". طلب أن يكتب على قبره: "هنا يرقد شخص كتب اسمه بالماء". لكن جون كيتس لا يزال أشهر الشعراء الانكليز الرومنطيقيين وحلّ مرتين بين الشعراء العشرة الأوائل في استفتاء هيئة الإذاعة البريطانية في التسعينات. كان طفلاً عندما توفي والده ثم والدته بالسل الذي حصد شقيقه أيضاً. ذات مساء قارس في شباط فبراير 1820 عاد الى منزله في عربة مكشوفة لكي يوفر بضعة بنسات. عندما سعل في فراشه أحس بقطرة دم في فمه، فقال لصديقه: "هذه القطرة انذار بموتي. سأرحل". في طريقه للاستشفاء في ايطاليا حاول الانتحار وفكر بخطيبته التي أوجعته رغبته فيها: "ليتني امتلكتها عندما كنت معافى. ما كنت سأمرض عندها". ترك الطب ليتفرغ للشعر الذي صبّه في عامين ونصف العام وتمكن خلالها من صنعته الى حد الادهاش. يتخيل نقاد الفراغ الضخم الذي كان الشعر الانكليزي عانى منه لو لم يكتب "قصيدة الى بلبل" و"قصيدة على اناء اغريقي" و"الى الخريف". لكن النقاد ردوا على معارضته السياسية باحتقار شعره. كان أصله أشد وضاعة من أن ينتج شاعراً، وكان "أحقر الحشرات" و"بالغ الانحراف" وفق مجلة بلاكوود. بعد نشره "انديميون" أضيفت رذيلة جديدة: شيطان جنسي. نظر اللورد بايرون يوماً في المرآة وقال: "أبدو شاحباً وأود الموت بالسل". ستنظر السيدات إليّ وتقلق: "انظروا الى بايرون المسكين. كم يبدو جذاباً وهو يحتضر". كان كيتس مراهقاً يومها، لكن برسي شيلي صديق بايرون وجد بعداً روحياً شفافاً في مرض كيتس الذي خشي على رغم تخصصه الطبي ارتباط مرضه بضعف في الشخصية وفق اعتقاد عصره. موته الباكر صنع اسطورته، ورسمه صديقه لي هانت في كتابه عنه عبقرياً شاباً دمره العالم القاسي. ت.س. اليوت رأى رسائله "أهم ما كتبه شاعر انكليزي"، وكانت رسائله الى فاني وخصلة من شعرها دفنت معه في مقبرة بروتستانتية في روما. هويتان صدر "شبه وتناقض: استكشاف الموسيقى والمجتمع" عن دار بلومزبري الذي يضم مقالين وحواراً بين ادوارد سعيد والموسيقي الاسرائيلي دانييل بارنيوم يسود فيه صوت الأخير الذي يدعو الى السلام بين العرب واسرائيل وينظم مشاغل موسيقية تستقبل الموهوبين من كل البلدان. سعيد الذي يكتب بانتظام في "الحياة" يعمل في نيويورك "عاصمة زمنيا" منذ أربعين عاماً وهو أحد أكثر المفكرين تأثيراً اليوم، عندما أصدر "خارج المكان" في 1999 اتهمته اسرائيل بالكذب لقوله انه عاش في فلسطين في بيت يملكه والده. حمل الأخير الجنسية الأميركية وعاش سعيد "بين عالمين"، إذ كان فلسطينياً بروتستانتياً ذا تعليم غربي يعيش وسط غالبية سنية ويحس بأنه في حال "حرب أهلية دائمة". ولد في القدس الغربية في 1935 ولم يتعرف الى الوجه الإبداعي المحتمل للتناقض في هويته إلا بعد بروز القومية الفلسطينية اثر الهزيمة العربية في حرب 1967 وزيارة بيروت في 1972. بدأ يفكر ويكتب بالعمل مع جزءيه العربي والأميركي وضدهما في آن، وسمي "رجل عرفات في نيويورك" الى أن وقَّع الرئيس الفلسطيني اتفاق أوسلو فانقلب عليه وبات أحد أقوى منتقديه. يرفض مقولة صراع الحضارات لصامويل هنتنغتون ويرى أن ما يوصف بالإسلام في أوروبا والولايات المتحدة هو فبركة استشراقية تثير مشاعر العداء ضد جزء من العالم يتمتع بأهمية استراتيجية. لكن الشرق الذي يضم آسيا وأفريقيا يرى الغرب كتلة واحدة تكره الشعوب غير المسيحية وغير البيضاء. فكرة الهوية تتأثر بالأوهام والميل الى الاختراع، لكن رؤية الحضارات ككتل متصارعة تعرقل الحوار والاختلاط والهجنة والتبادل الصامت بينها. وكلما أصررنا على فصلها كلما أخطأنا عند النظر الى أنفسنا والآخر. أكد ادوارد سعيد الارتباط بين أعمال أدبية معروفة والامبريالية، وثوّر الفكر الأكاديمي عندما أصر على أنه لا يمكن فهم الحضارة الغربية خارج امبراطورياتها. رأى ان أوروبا اخترعت "الشرق" لكي تحدّد نفسها بنقيضه وان أفلام هوليوود الدينية لا تصور أبطال التوراة بل الأميركي خارج وطنه. وفي مقال شهير عن تحية كاريوكا التي سحرته وهو فتى يقول ان هز البطن يقوم على الحركات القليلة لا الكثيرة، وينتقد القفز والهز العنيف لدى الاغريق والأميركيين الذين قلدوه.