حرص الساسة اللبنانيون والعرب على إعداد أبنائهم الذكور لوراثتهم سياسياً، يقابله تحفظ من جانبهم عن إعداد بناتهم لدخول المعترك السياسي لأسباب عدة. واللافت في لبنان، هو انجذاب بنات السياسيين نحو عالم المال والأعمال، في الوقت الذي كانت بنات هذه الطبقة أكثر "بيتوتية" أو ترفاً إذا صح التعبير، وكن أقرب الى صفة "سيدات صالون" من سيدات أعمال. قد يتعلق الأمر بنهضة المرأة العربية بشكل عام، وحرصها على إثبات ذاتها في المجالات كافة، ولكن ثمة معادلة تحيط باولئك الفتيات وهي مدى قدرتهن على الموازنة بين متطلبات صورتهن كبنات طبقة تحت الضوء سياسياً واجتماعياً، وبين طموحهن في الوصول الى مبتغاهن من دون استعمال نفوذ آبائهن السياسي، إضافة الى محرمات يحرصن على عدم الاقتراب منها حفاظاً على صورة آبائهن السياسية. أولى المحرمات بالنسبة الى فرح حميّد 21 عاماً - إبنة الوزير والنائب أيوب حميّد هي عدم التعبير عن "آرائها السياسية الخاصة" التي تنتقد سياسة الدولة في مواقف عدة، حرصاً منها على عدم نسب هذه الآراء الى والدها، وإن كانت تتمتع في المقابل بالمحبة التي يمنحها لها مريدوه كما تقول. وتضيف: "أشعر بأن أناساً يحبونني بسبب أبي وآخرون يكرهونني لأنهم من معارضي الخط السياسي الذي ينتهجه". بالنسبة الى ميّا قباني 24 عاماً - ابنة النائب محمد قباني فهي تشعر بالاحراج حينما، يتنبه من حولها الى انها ابنة نائب. فهي لا تريد معاملتها باستثنائية سواء في الجامعة الأميركية حيث تحضر شهادة الماجيستير في إدارة الأعمال، أم في عملها مع برنامج التنمية التابع للامم المتحدة في وزارة المال اللبنانية وذلك ترجمة لمقولة تؤمن بها وهي ان الأيام تتغير، وبالتالي يجب على المسؤول الا ينسى انه يوماً ما كان مواطناً عادياً ومن الممكن ان يعود الى سابق عهده. لا تخفِ كل من فرح وميّا وجيني خوري 19 عاماً ابنة النائب غطاس خوري سعادتهن بتولي آبائهن مناصب سياسية في مجلسي النواب والوزراء. وتقول فرح: "وعيت على غياب والدي المستمر عن المنزل نتيجة مسؤولياته السياسية في حركة "أمل"، وأكثر الأوقات كنا نعيش في منطقة وهو في أخرى نتيجة ظروف الحرب ولكن عام 1992 كانت نقطة تحول بالنسبة الينا، كنت فرحة بفوز أبي في الانتخابات وبالوفود المهنئة وطريقة التعامل المختلفة من دون أن أعرف حقيقة ماذا يعني كلمة نائب نظراً لصغر سني". لم تشارك فرح في أي من حملات والدها الانتخابية في السنوات التي تلت انتخابات 1992، بسبب قرار مُتخذ من حميّد يفصل فيه شؤون عائلته عن شؤونه السياسية. عند ميّا وجيني الأمر مختلف، ففي انتخابات 1996 و2000 شاركت ميّا العمل مع الفريق الانتخابي لوالدها عبر استقبال الوفود وتوزيع صور الانتخابات وتوزيع اللوائح وحضور المهرجانات الانتخابية، وكذلك فعلت جيني في انتخابات أبيها عام 2000، علماً أن الاجواء السياسية ليست غريبة عن كل من جيني وميّا، إذ كانت لآبائهما تجربة سابقة في العمل السياسي والنقابي، لكن هذه المشاركة لم تستطع زرع حُب العمل السياسي في قلوب الفتاتين، فميّا تفضل التقدم وإثبات نفسها في عملها وكذلك جيني فهي لا تنجذب في الوقت الحاضر لعالم السياسية علماً ان طموحها الشخصي هو نيل الدكتوراه في تخصص ادارة الأعمال الذي تدرسه والعمل لاحقاً في المضمار نفسه. حرمان فرح من التواصل الدائم مع والدها جعلها ترفض التفكير في خوض العمل السياسي او الارتباط بشخص يعمل في السياسة، علماً انها تود لو يحمل شريكها المستقبلي الكثير من صفات والدها الذي يجمع بين حبه للعمل من جهة وحنانه المفرط تجاه عائلته من جهة أخرى، تقول: "هذا ما يجعلني أكثر افتقاداً له اذ لم يعايشنا في طفولتنا كبقية الآباء". طموح فرح التي تدرس الترجمة في الجامعة اليسوعية هو تأسيس مكتب للترجمة خاص بها، أو العمل في موسسة محترمة للترجمة، ومقابل هذا الطموح هي على استعداد لترك عملها مقابل الاهتمام بعائلتها. لقب ابنة نائب لا يمنع جيني من العيش بطريقة عادية كأي فتاة في سنها كالخروج للسهر وان كان ليس بكثرة، وممارسة الرياضة واتباع الموضة والقراءة، تقول: "هناك أولويات وقيم تربيت عليها ولا يمكنني العيش من دونها، وهي بديهية وبالتالي ليس منطقياً ان يكون منصب أبي السياسي سبباً في تركها". لا تخلو علاقة كل من جيني وفرح وميّا بآبائهن من الجدية، "علاقتي بأبي ليست علاقة صداقة تامة، وليست علاقة آمر ومأمور"، تقول جيني، وتضيف: "بل هي علاقة بين شخصين أحدهما أكثر نضجاً وخبرة في الحياة". تشير فرح الى انها ليست مدللة كثيراً لدى والدها وان كانت تعلمت منه الكثير من الصفات كالتواضع والاحترام وعدم التفرقة، أما محظوراته فهي لا تتعدى المحظورات العامة للبيئة الشرقية المحافظة والملتزمة دينياً. وتأخذ العلاقة بين ميّا ووالدها طابع التأثر الفطري فيه، عدا كونها الفرد الأكثر دلالاً لديه في العائلة، فهي متأثرة بتصرفاته القانونية وعدم ماديته وتواضعه كما تقول، وهي صفات تتمنى ايجادها في شريك حياتها المستقبلي وان كانت هذه العلاقة هي أيضاً مغلفة بحدود العائلات المحافظة، التي لا تحبذ السهر في الملاهي الليلية مثلاً. "طائر يغرد خارج سربه"، هي العبارة التي تلخص شخصية لميا السعد 25 عاماً، ابنة النائب فؤاد السعد في علاقتها بمن حولها وخصوصاً والدها الذي تظهر بصماته واضحة على طريقة تفكيرها، بالاضافة الى تجربتها الخاصة التي اكتسبتها بعد تعرضها للاصابة اثناء الحرب اللبنانية أبقتها نحو عام ونصف على كرسي متحرك من دون أن تتمكن الى الآن من تحريك الجانب الأيسر من جسمها. هذه التجربة منحتها دفعاً أكبر لعيش الحياة بكل تفاصيلها من دون الاطمئنان الى ان هناك وقتاً كبيراً أمام الانسان للعيش، كما تقول لميا، وترجمة هذه المعادلة بالنسبة اليها هي العمل على أن تصبح محللة وكاتبة تاريخية بعد نيلها شهادة الدكتوراه في التاريخ من الجامعة اليسوعية من دون الالتفات الى ما يهم بنات جيلها من اهتمام بالموضة أو السهر أو تفاصيل أخرى تجذب الشباب عموماً. ميل لميا لدراسة التاريخ هو أحد صور تأثرها بوالدها الذي اعتاد أن يروي لها منذ الصغر أحداثاً تاريخية بدل القصص العادية، ومن هنا بدأ وعيها بأنه ليس محامياً عادياً بل رجل سياسي برز بشكل أساسي بعد نجاحه في انتخابات العام 1992 النيابية. تقول لميا: "كنت في الرابعة عشرة حينها، ولكنني كنت أفرح بكلام الناس عن أبي، وخارج هذا الاطار لم يطرأ أي تغيير على حياتي التي بقيت الى الآن عادية". لم يكن للميا دور فعال في الحملات الانتخابية لوالدها، لكنها حاولت مساندته عاطفياً داخل المنزل كما تقول بالاضافة الى متابعة الأخبار لمعرفة ما يدور حولها، علماً ان السياسة لا تستهويها، وهي برأيها تأخذ من دورها كأم في المستقبل في حال قررت العمل فيها. وتصف علاقتها بأبيها بأنها ليست علاقة صداقة بل هي علاقة قوية يسودها الاحترام والتفاهم والصراحة والمشاركة في العديد من النقاط والصفات، بالاضافة الى الدلال الذي تتمتع به كابنة وحيدة. الايمان الديني هو الذي دفع لميا لتحمل آلامها وعذاباتها بعد الاصابة كما تقول، وقد كتبت هذه التجربة في سيرة ذاتية بعنوان Le bonheur bleu السعادة الزرقاء، نالت عليها جائزة France-Liban التي تمنحها جمعية كتّاب اللغة الفرنسية، وتحكي فيها عن طفولتها وحادثة إصابتها وعيشها في ظل هذه الإصابة.