تسلّم لويس ايناسيو "لولا" دا سيلفا 57 عاماً في أواسط كانون الأول ديسمبر الماضي "شهادة" تنصيبه رئيساً لجمهورية البرازيل. يومها انفجر "لولا"، وهو لقب معناه الحبَار ثمرة البحر تحول اسماً للرجل كما هي العادة في البرازيل خصوصاً مع نجوم كرة القدم، بالبكاء قائلاً ان "شهادة قيادة البلد" هي "الأولى" التي يحصّلها. لكن "لولا" في الواقع نال في حياته "شهادات" كثيرة، وإن كانت غير مطبوعة على ورق. أولاها الإنتصار على القدر: أولاد الفقراء مثل لولا لا يولدون ليصبحوا رؤساء جمهورية. قبله، كانت هذه "المهنة" محصورة بأولاد صاروا ماريشالات وجنرالات وملاكين زراعيين ومحامين ورجال أعمال حتى عندما نطقوا بأفكار يسارية. بهذا المعنى، يوزع "لولا" شهادة جودة للديموقراطية البرازيلية. فإنتصاره إثبات حسّي أنها أكثر من لعبة تلجأ إليها النخب لتداول السلطة، وأن البرازيل أمة تتمتع بحراك إجتماعي مذهل. وللحقيقة، ليس "لولا" حالة فردية. بل هناك حالات عدة في الثورة المجتمعية التي تواكب نجاحه، من بينها مثلاً الوزيرة الزنجية التي عيّنها، والآتية من موقع أكثر تهميشاً. كما تثبت الديموقراطية في هذا البلد بأنها ناضجة كفاية لتستقبل في قصر الرئاسة في برازيليا حزباً غير مرتبط بالأوساط التي اعتادت طعم الحكم. الشهادة الثانية هي الانتصار على الهزائم. فقبل أن يخوض لولا أربع انتخابات رئاسية متتالية، ترشح مرتين. في المرة الثانية، عام 1986، حصل على أكبر اقتراع بين المرشحين الذين شكلوا نواب المجلس التأسيسي الذي صاغ دستور ما بعد الفترة العسكرية. لكنه لم يرتح الى أدائه كنائب، اذ لم تكن تستهويه النقاشات القانونية. قبل ذلك، عام 1982، ترشح "لولا" إلى انتخابات ولاية سان باولو، وكان وقتها نجم السياسة البرازيلية الصاعد: كانت الكنيسة تدعمه، وكذلك المثقفون، ومن بينهم الرئيس كاردوزو الذي سلمه القصر الجمهوري مطلع السنة الجديدة. يومها كان حضور مهرجاناته الانتخابية يفوق ال20 ألفاً، لكنه لم يحصل في المدينة عينها على أكثر من 500 صوت، فحل رابعاً وحصل على 11 في المئة من الأصوات، وكانت صفعة كبيرة له. إستخلص من هذه التجربة أن الديموقراطية "هي أكثر من أن على العامل أن يصوت للعامل، وأن على الحزب أن يسعى ليحصل على أصوات الجميع". عام 1989، تأهل "لولا" للدورة الثانية على حساب نجوم راسخة في السياسة البرازيلية، وكانت أمامه فرصة حقيقية للفوز لو لم تمنعه "يساروية" حزبه من التحالف مع زعماء المعارضة الآخرين، وهو يعترف اليوم بهذا "الخطأ الفادح". الشهادة الثالثة هي ميزة الثبات والانتصار على الاستسهال: عام 1995، وضع "لولا" رصيده على المحك في إفشال بصوتين داخل اللجنة التنفيذية إقتراح مقدم من قبل يسار الحزب لإطلاق حملة شعبية لإقالة الرئيس كاردوزو على شاكلة الحملة التي أسقطت الرئيس السابق كولور. ويعتقد "لولا" أنه لو نجح هذا الإقتراح في هيئات الحزب لكان "حزب الشغيلة" العمال تهمش في الحياة السياسية وفقد فرصته التاريخية. بإعتراف خصومه، فان "لولا" الذي جال البرازيل الشاسعة، منطقة منطقة على مر السنين، هو اليوم الأكثر معرفة بحقيقة هذا البلد وتنوعه، تساعده على ذلك قدرته الهائلة على الإستماع والتفاوض والتجميع والحبك. إنها الشهادة الخامسة. وهذا ما فعله من دون انقطاع في العمل النقابي ومن ثم في العمل الحزبي، والذي أثبت براعته فيه أثناء الحملة الأخيرة مع كل الأوساط وفي كل الظروف، ما جعل مدير صندوق النقد الدولي يصفه ب"نموذج قادة القرن ال21"، وما يجعل يسار أميركا اللاتينية، وأجزاء واسعة من يسار العالم، ينظرون إليه ك"فاتح طريق" جديد. ولكن الرئيس الجديد يدرك في الوقت نفسه أن التوكيل الذي أعطاه إياه الناخبون ليس مطلقاً وأنه يخصه هو أكثر من حزبه، وأنه لم يخوّله المس بالمؤسسات ولا حتى بالنظام الإقتصادي، فأصر أن يعبر عن تلك الالتزامات علناً حتى عندما كانت تتناقض مع قناعاته الماضية أو مع تصاريحه السابقة، لذا ردد مراراً في الحملة الأخيرة "أن العالم والبرازيل تغيرا، وأيضاً الحزب وكذلك أنا". تغيير الحزب التغييري حلت سلالة "دا سيلفا" وهو الاسم الأكثر شيوعاً في البرازيل مكان سلالة "براغا" التي ترمز الى العائلات الكبيرة البرتغالية الأصل. وعشية عيد الميلاد، أعلن "لولا" حكومته. وهي، كما في النموذج الأميركي الشمالي، حكومة معاوني الرئيس. الحكومة مؤلفة من 14 وزيراً من "حزب الشغيلة" من بينهم واحد وزير الاصلاح الزراعي ينتمي الى الأقلية اليسارية في الحزب وستة وزراء من الأحزاب الصغيرة المتحالفة معه، وست شخصيات مستقلة. على الصعيد التشريعي، تنتخب البرازيل مجلس النواب بحسب النظام النسبي، ويأتي النواب ال513 ممثلين عن الولايات طبقاً لحجمها، فتنتخب ولاية سان باولو، وهي الأكبر، 70 نائباً، فيما تنتخب أصغر ولاية ثمانية نواب. في الانتخابات الأخيرة حصل "حزب الشغيلة" على 91 نائباً، ويملك الرئيس الجديد كتلة كبيرة في مجلس النواب تضم نحو 250 نائباً، وهذا كاف في بداية الطريق. كما يقترع ناخبو الولايات ال27 لانتخاب ثلاثة شيوخ عن كل ولاية بالنظام الأكثري. ومن أصل ال81 شيخاً، ليس للأكثرية الجديدة أكثر من 30 صوتاً. ويتقاسم الرئيس في البرازيل السلطة مع حكام الولايات. وأمام "لولا" في النصف الثاني من السنة استحقاقان غير شعبيين، قد يعدلان في قاعدة رئاسته: الأول هو إصلاح ضريبي لتقليص العجز الداخلي، والثاني إصلاح نظام الضمان الاجتماعي الخاص والعام لتقليص عجزه أيضاً. والسؤال الذي يطرح نفسه مع تسلم اليسار السلطة في البرازيل للمرة الأولى منذ 40 عاماً هو: ما الذي سيتغير في واقع أكبر بلدان أميركا اللاتينية؟ لعل التغيير الأول سيلحق ب"حزب الشغيلة" الذي يعمل على تغيير البرازيل. سيتغير الحزب بعدما أنجز "مهمته التاريخية" كما تحب أن تقول الأحزاب عن نفسها، لأن الحزب الذي أسسه "لولا" مع عشرات من "الرفاق" قبل 22 عاماً تحول الى أكبر قوة "حزبية" في أميركا اللاتينية، وهو نتاج مركب لمسألتين تتلخصان في إشكالية واحدة: الأولى هي بناء حزب حديث في نهاية إنهيار الشيوعية، والثانية معالجة المأزق التقليدي لليسار المستقل في أميركا الجنوبية الذي عجز دائماً في حجز مساحة كافية داخل الثنائية الحزبية الموروثة من القرن التاسع عشر أو من فترة ما بعد أزمة 1929 في أحسن الأحوال. تأسس "حزب الشغيلة"، بعد تردد حول ما إذا كان النقابيون يريدون حقاً الإنخراط في العمل السياسي، من ثلاثة حساسيات تحمل كل منها في طياتها مخزون جيل ووسط إجتماعي: التيارات اليسارية والتيارات المسيحية المرتبطة ب"لاهوت التحرير" والتيارات العمالية. وشكّل هذا التوازن الفكري بين الإتجاهات الثلاثة واتفاقها على الإشتراكية، موقفاً يسارياً صلباً مميزاً رفض فكرة التحالف على الأقل حتى بداية التسعينات، فشارك في أعمال المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور الجديد، لكنه رفض المشاركة في عملية إقرارها مع أنها هي التي أوصلته الى السلطة، وبادر الى إطلاق حملة إقالة الرئيس كولور. وعندما تمت إقالته فعلا في مجلسي النواب والشيوخ، رفض المشاركة في السلطة التي تلته، متمسكاً بموقع المعارضة المنهجية وأحياناً الظالمة كما حدث مع بعض إنجازات الرئيس كاردوزو، التي يتم مدحها اليوم في إعتراف متأخر. الميزة الثانية لهذا الحزب اليساري هي مشاركته في الانتخابات. وفيها، خصوصاً في الانتخابات المرتبطة بالمواقع التنفيذية كالبلديات وحاكمية الولايات، تعلم "حزب الشغيلة" أن يترجم أفكاره في الواقع، وأن يتحمل المسؤوليات، فيفشل، كما حصل في البداية. ويعترف خصوم الحزب بصفتين لإداراته: أولاً أنها أقل فساداً من المعدل، وثانيها أنها أقرب الى الناس بأولويات موازناتها وأيضاً بآليات المشاركة التي تواكبها. وعرف الحزب نمواً مضطرداً في الأعوام ال20 الأخيرة، ومن 118 عضو مجلس بلدي عام 1982 يضم اليوم 2485، ومن رئاسة بلدية واحدة يرأس اليوم 185 بلدية، خصوصاً في المدن والعواصم والمدن الوسطى، وزاد عدد نوابه في الولايات من 12 الى 147 نائباً. وعلى المستوى الوطني، كان يملك عام 1982 ثمانية 8 نواب زادوا اليوم الى 91، اضافة الى 14 شيخاً في مقابل لا شيء سابقاً. مرة بعد مرة وبثبات ممل، رسخ الحزب نفسه تدريجاً كقطب من أقطاب الحياة السياسية الانتخابية. لكن المفارقة هذه المرة تكمن في أنه خسر الانتخابات في الولايات التي كان يحكمها في وقت كان لولا يفوز بالرئاسة. لكن هذه الملاحظة تستحق التدقيق: صحيح أن "حزب الشغيلة" خسر واجهته في الولاية الجنوبية حيث تجتمع سنوياً قمة بورتو أليغري ، لكنه في المقابل صار القطب المعارض الأساسي في أكثر الولايات. وفي بلد تميز تقليدياً، ولا يزال، بالتعدد الحزبي الذي يصل الى حدود التفتت إذ كثيراً ما تكون الأحزاب البرازيلية محصورة في منطقة ما أو مرهونة بشخصية زعيمها، عرف "حزب الشغيلة" كيف يشق طريقه في كل أرجاء البلد - القارة. ومن المرجح أن يستمر في لعب هذا الدور التحديثي في المرحلة المقبلة. الميزة الثالثة للحزب أنه حزب ديموقراطي لم يحمل إرث التجربة اللينينية، وأنه منظم وفق تيارات تدافع عن رأيها ولها منابرها العلنية، ولكنها تلتزم قرار الأكثرية. على الصعيد العقائدي خطا الحزب في الأعوام ال20 الأخيرة خطوات كبيرة من "إشتراكية المبادئ" الى "إشتراكية البراغماتية". ومن المرجح أنه سيسرع الخطوات لأن النموذج المنوي ترجمته الآن ينطلق مما هو قائم. تبسيطاً، يمكن القول أن الحزب مؤلف عام 2002 خصوصاً من طبقات وسطى ومن موظفي القطاع العام، وقد يضغطان في إتجاه معاكس إزاء السياسات الاجتماعية المركزية. كما ستنشأ أيضاً خطوط تماس داخل التنظيمات الجماهيرية التي ساهم الحزب في بنائها وفي تبنيها ك"إتحاد الشغيلة الموحد" النقابة العمالية و"حركة من دون أرض" الفلاحية. ومن الجائز الرهان على أن خطوط التماس ستمر أيضاً داخل الحزب نفسه: منذ عام 1995، انتظم "التيار الأكثري" الذي كان يمثل عام 2001 نحو 55 في المئة من الأعضاء وثلثي مراكز اللجنة التنفيذية فيما يمثل "اليسار" الأقرب الى التيارات المسيحية أقل بقليل من ثلث الأعضاء. وهناك "تيار وسطي" يمثل 10 في المئة وأقلية يسارية متطرفة صغيرة بقيت في الحزب حتى بعد خروج القسم الأكبر من الإتجاه اليساري المتطرف. وعلى رغم إعتراضات بعض "اليسار"، عمل الإتجاه الأكثري لفتح الطريق أمام نسج تحالفات سمحت بفوز "لولا" في الانتخابات الرئاسية بدلاً من أن يحجز ثلث الأصوات في الدورة الأولى ويخسر المعركة في الدورة الثانية "عندما يتغلب الخوف على الأمل" كما درج "لولا" على القول. ونجحت هذه الأكثرية في تعطيل الألغام فتحالفت مع الحزب الليبرالي الصغير وإختارت نائب الرئيس، وهو رجل أعمال كبير، من صفوفه. وساعدها أيضاً في مهمتها تخبط اليمين وصراعاته بين منافسين عدة، قبل أن يتم إعتماد الأقل شعبية، ما جعل "لولا" في موقع مريح سمح له بأن يشرح إعتداله الجديد وخبرته وهو أقدم المتنافسين وأن يحصد في الدورة الثانية أكثر من 53 مليون صوت وأكثر من 60 في المئة من المقترعين بمن فيهم أصوات زعماء اليمين التقليدي و"الرجعي". محاربة الجوع هي المدخل تبدو ديموقراطية أميركا اللاتينية آخذة بالغرق بسبب تعثر النماذج "النيوليبرالية" التي سادت في بداية التسعينات. ويأتي انتخاب "لولا" محاولة جديدة لتحاشي والبعض يعتقد العكس ما حصل في الأرجنتين والذي قد يحدث في أمكنة أخرى. لذا فان السؤال الثاني الحقيقي والذي قد يحدد مستقبل التجربة أكثر من أي إعتبار آخر، يدور حول ما الذي سيحصل في الإقتصاد البرازيلي. عام 1989 قيل أن إنتصار "لولا" سيجعل800 ألف رجل أعمال يهربون من البرازيل. لكن الطرفين، رجال الأعمال و"ثوريي" الحزب، تعلما التعايش في الإدارات المحلية والبلديات وعملا معاً أحياناً، مستفيدين من استعداد "لولا" الدائم للتفاوض وتأليفه لجان مشتركة مع المصارف وسوق المال. على السؤال: "ماذا تنتظرون من لولا؟"، أجاب أربعة من كبار رأسماليي البرازيل: "مشروع نمو وتقليص الفوارق الإجتماعية" و"الإعتناء بالقطاع المنتج وبالسوق الداخلية" و"الكفاءة لجمع أرباب العمل والشغيلة والطبقات الوسطى" و"الإلتزام مع الإنتاج ونزاهة الإدارة العامة". وتدل الأجوبة بوضوح على ان "لولا" عرف كيف يروض السوق، التي استعملت ضده كثيراً حتى أثناء الانتخابات الأخيرة. اليوم، وكأي رئيس جديد، تراهن السوق على نجاحه. تعاني البرازيل، وهي دولة وسطى من أكبر عشرة إقتصادات في العالم وحاسمة على المستوى الإقليمي، من المآزق التي وصلت إليها سياسات التثبيت النقدي المقرون بالخصخصة، ومن ثم سياسة اللجوء الى السلاح الضريبي. ولم تسمح سياسات صندوق النقد المتتالية في لجم تطور الدين العام إزاء الناتج القومي قفزت من 30 في المئة في أواسط العقد الماضي الى نحو 60 في المئة وإعادة وضع البلد على سكة النمو، وهي الوسيلة الوحيدة لتراجع البطالة. الفوائد عالية جداً، وتضخم الأسعار الذي من أجل القضاء عليه، أجري كل الإصلاح أخذ يطل برأسه من جديد. في هذا الظرف الدولي الدقيق، تبقى الرساميل الأجنبية حذرة ما أدى الى جفاف الاستثمارات المباشرة وتقلص أسواق الصادرات. الموازنة "مجفصنة" إذا جاز التعبير، والحكومة لا تستطيع أن تتصرف إلا ب10 في المئة منها، وهو الرقم المخصص بحسب الإتفاق مع صندوق النقد لدفع فوائد الدين. وفي الواقع، فان نتائج السنة الأولى معروفة سلفاً، اذ سيكتفي لولا خلالها بمتابعة السياسة المعتمدة، على أمل أن يتمكن بدءاً من السنة الثانية من وضع أسس مشروعه الإقتصادي القائم على تفعيل السوق الداخلية من دون التراجع عن الإنفتاح الذي لا عودة عنه في الإقتصاد المعولم. إنها سياسة مركبة قائمة على إستبدال تدريجي للإستيراد مواز لمساندة الصادرات. سيحاول "لولا" المباشرة بفكفكة العنكبوت المالي الذي قبض على رقبة البلد، فيخفف من الإرتهان لدخول الرساميل من الخارج من دون أن يقلص من تدفقها. ورهانه يكمن في المحافظة على الأدوات النقدية والضريبية، مع إرجاعها لما يجب أن تكون، أدوات توازن إقتصادي. ولدى فريق لولا الشعور بأنه سيستطيع توسيع الهامش تدريجاً في السنوات الثلاث التالية بقدر ما ينجح في المحافظة على التوازن العام في السنة الأولى. وفي المقابل، إذا فقد السيطرة خلال السنة الأولى، ستمر بقية الولاية وهو يحاول ترميم ما تم تعطيله. قرر "لولا" أن يبدأ منذ السنة الأولى حربه على الجوع، وهذه تعني أكثر من 25 مليون برازيلي، وهو يعبر بهذا الخيار عن ترتيب للأولويات التي وضعها في برنامجه، وهذه الرسالة الجديدة تعني بالتأكيد صندوق النقد، اذ صرح أثر أول إجتماع بمديره "أن لكل برازيلي الحق بثلاث وجبات يومية"، ولكنها أيضاً رسالة موجهة لترتيب الأولويات في صفوف قاعدته لكي تؤجل مطالبها. الى جانب المشروع الاستراتيجي الذي يهدف الى إدخال شرائح جديدة من المجتمع في السوق الداخلية ما يوازي ما فعلته الاشتراكية الديموقراطية في القرن الماضي في أوروبا يولي "لولا" إهتماماً كبيراً لتقليص الفوارق المناطقية التي تبقى شاسعة في البرازيل كي يحولها الى واحة استقرار واستثمار قادرة على أن تشكل عمقاً متماسكاً لأميركا اللاتينية. والبرازيل للقارة الأميركية اللاتينية كمصر بالنسبة للأمة العربية: الجزء القادر أكثر من غيره على العيش من دون الكل، والجزء الذي يضعف الكل أكثر من غيره عندما يغيب. على مستوى السياسة وعلى مستوى الحرب التجارية، البرازيل لن تغيب مع "لولا". لاحظ المراقبون في هذا الجزء من العالم أن أول زيارة خارجية قام بها "لولا" كانت للأرجنتين ومن ثم لتشيلي، قبل أن يتوجه الى الولاياتالمتحدة والمكسيك. بعد شهرين، ستبدأ المفاوضات لوضع أسس وروزنامة الألكا، سوق الأميركتين، المرشحة للتحول الى أكبر سوق عالمية. للولا فيها علاقاته المميزة مع كل دول المنطقة وزعمائها، ومشاريعه لتوسيع المركوسور الذي استفادت منه الدول الأعضاء والذي تعطل مع انهيار الأرجنتين، وقدرته على المناورة مع إقتصادات كبيرة كالمكسيك أو نشيطة كتشيلي. هذه المرة، ستكون الولاياتالمتحدة أمام تحد حقيقي، وليس أمام مجرد شوكة في رجلها، وقد تكون المناسبة محطة في إعادة توازن ما لعلاقة الولاياتالمتحدة مع ما تعتبره حديقتها الخلفية. آخر مرة هزمت البرازيلالولاياتالمتحدة، لم تكن المواجهة على ملعب كرة قدم بل حول تقنيات الديموقراطية. وربحت البرازيل من دون منازع: يومها، وبعكس الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، إقترع أكثر من 100 مليون برازيلي إلكترونياً، من دون أي إعتراض أو خطأ أو تزوير، من الأمازون الى حدود الأرجنتين. كاتب وصحافي لبناني. أكثر من كرة وأكبر من كرنفال من المفيد وضع قصة "لولا" التي تحولت الى ملحمة في موقعها في التاريخ البرازيلي. فالإعلام العالمي، بحكم مقتضيات التبسيط، يعامل بعض الدول الكبرى كالبرازيل أو الهند بكليشيهات على حساب غناها الداخلي، فتصبح البرازيل مثلاً مجرد بلد الكرة والكرنفال، وهذه قصة أخرى... لم يبن هنود البرازيل حضارة مركزية بيروقراطية كما حدث مع هنود جبال الأنديز. ويقدر بعض المصادر أنهم كانوا نحو سبعة ملايين عند وصول الرجل الأبيض، وهم اليوم نحو 200 ألف. خرج بدرو كابرال من لشبونة متوجهاً الى الهند ولا أحد يدري لماذا وصل الى البرازيل عام 1500 حيث مكث تسعة أيام ثم تابع طريقه بعدما سماها "أرض الصليب الحق". إسم البرازيل هو إسم شجرة خشبها أحمر اللون، وهي البضاعة الوحيدة ذات الفائدة التي عادت بها البعثات المتتالية. تحسباً لمنافسة بقية دول أوروبا، قسمت البرتغال الشاطئ البرازيلي الى 12 مقاطعة. في القرن السابع عشر، تغلغل رجال البنديرانتيس وهم عسكر من ولاية سان باولو في الداخل خلال ملاحقتهم الهنود لإبعادهم عن الأراضي الصالحة لزراعة قصب السكر، وهؤلاء، أكثر من أي معاهدة، هم الذين أمنوا مساحة البرازيل في القارة أكثر من ثمانية ملايين كلم مربع ولها حدود مع كل دول القارة بإستثناء تشيلي والإكوادور. حاول الآباء اليسوعيون حماية الهنود خصوصاً في مثلث البرازيل - باراغواي - الأرجنتين، وأجبروا على تسليحهم وجرت معارك طاحنة ومجازر رهيبة طرد اليسوعيون اثرها عام 1759 ومنع التكلم بالغواراني وهي لغة هندية كان صار يتكلمها الجميع بمن فيهم البيض. وإستبدل الهنود تدريجاً بالزنوج في مزارع القصب، والتاريخ البرازيلي حافل بجمهوريات زنجية متمردة، صمد بعضها عشرات السنين. عام 1690 تم اكتشاف الذهب في ولاية ميناس جيرايس تعني المناجم العامة، وإنتقل السكان من شمال شرقي البرازيل الى جنوب شرقه. وخلال عملية نقل الذهب الى البرتغال، مات الكثير من الزنوج. هاجم نابليون البرتغال عام 1807 وهرب ولي العهد الى البرازيل حيث صارت ريو دي جانيرو عاصمة البرتغال وبالتالي عاصمة البرازيل. عام 1821، عاد الملك الى البرتغال، وعندما أراد أن يستعيد البرازيل شهر ولي العهد دون بيدرو الأول سيفه وقال: "الإستقلال أو الموت". هكذا استقلت البرازيل من دون معارك وبين ليلة وضحاها. حكم إبنه دون بيدرو الثاني البرازيل لمدة نصف قرن وبنى الدولة، فيما كانت البرازيل تؤمن ثلاثة أرباع الطلب العالمي للقهوة. في البداية كان الإعتماد على اليد العاملة، وبعد إلغاء العبودية، أدخلت الآلة وتم بناء سكك الحديد. أطاح انقلاب عسكري بالملكية، وخلال 40 عاماً حكم البرازيل ائتلاف "القهوة مع الحليب" أي مزارعو سان باولو مع مربي بقر ولاية ميناس جيرايس. بعد أزمة عام 1929، صعد نجم جيتوليو فارغاس الذي حكم البرازيل حتى الحرب العالمية الثانية والذي استلهم "نظامه الجديد" من الفاشية. لكنه وقف مع الحلفاء، وعاد بواسطة الإنتخابات عام 1951 بنكهة "تقدمية" قبل ان ينتحر عام 1954 لئلا يستقيل تحت ضغط المعارضة. شيد جوسيلينو كوبيتشك عاصمة جديدة اسمها برازيليا في وسط البرازيل وتطورت في عهده صناعة السيارات. واستقال خلفه جانيو كوادروس فاتحاً الطريق لنائب رئيس "يساري" فتح بدوره الطريق للإنقلاب العسكري عام 1964. بقي العسكر البرازيلي في السلطة 20 عاماً، وتعاقب خمسة جنرالات على السلطة، من بينهم رجلا دولة وفاسدان وفاشي. أصاب العسكر في تحديث المواصلات وأساؤوا بمشاريع خرافية في الأمازون أو في المجال النووي. ولكن في كل الأحوال، لا يقارن النظام العسكري بما حدث في الأرجنتين أو تشيلي من مجازر. والبعض من العسكر البرازيلي مشغوف بالعلوم السياسية، فأخذ يتراجع تدريجاً من أواسط السبعينات مع تنامي قوة المعارضة، فاتحاً المجال عام 1984 حتى في ظل قواعد الإنتخاب غير المباشر لفوز مرشح المعارضة، السياسي العتيق تانكريدو نيفيس. لم يحكم نيفيس ولا حتى يوماً واحداً إذ أدخل المستشفى يوم تسلمه السلطة ولم يخرج منه حياً، واستلم نائبه جوزي سارنيه، وعادت الإنتخابات المباشرة. ولثلاث مرة متتالية، حل لولا ثانياً: عام 1989 وراء فرناندو كولور الذي أقيل عام 1992 مسلماً السلطة الى نائبه إيتامار فرانكو. وفي عهد هذا الأخير، أجري الإصلاح الإقتصادي الذي قضى على آفة التضخم، وهذا الإصلاح، أكثر من منافسة فرناندو كاردوزو هو الذي غلب لولا في إنتخابات عام 1994.