يقص أحمد الصياد في هذا النص الطويل "آخر القرامطة" المؤسسة العربية، 2003 حكاية رحلة طريفة الى "الآخرة" قام بها "آخر القرامطة" جار الله عمر، الأمين العام المساعد السابق للحزب الاشتراكي اليمني، أحد مؤسسيه وأهم مفكريه في السنوات الأخيرة. ويتتبع المؤلف في سطور النص كثيراً من المفارقات والتناقضات والصعوبات والغرائب التي رافقت الرحلة وما انتهت اليه من نتائج. ولأن الراحل ممن عرف بحواراته مع من يتفق معهم ومن يختلف، بكثير من الصبر والتسامح، فقد حفلت رحلته هذه بمناقشات اضافية مع كوكبة ممن شاركوا بفاعلية في صنع أحداث تاريخ اليمن في العقود الأربعة الماضية، تعيد قراءة الأفكار والنظريات، وتقوّم المواقف والتجارب، وتوحي بالبدائل والخيارات، حيث يمكن اعتبارها رسالة الى الأحياء تساعدهم في فهم طبيعة الحياة الصعبة من حولهم، أو محاولة لتحصينهم من الاصابة باليأس والإحباط نتيجة الهزائم التي لحقت بالجيل الماضي، أو دعوة مبطنة لأن يستفيدوا من تجارب ذلك الجيل عند مواجهتهم تحديات الحاضر والمستقبل. يغامر الصياد في نصه هذا بتصور رحلة طريفة الى الحياة الأخرى تسرد أخبار آخر القرامطة منذ لحظة وصوله الى الآخرة على أثر مغادرته هذه الدنيا الفانية، حتى تنتهي في لحظة مغادرة هذه الشخصية الأسطورية للحياة الأخرى من جديد بالطريقة نفسها التي غادرت بها دنيانا، على رؤوس الأشهاد وفي مؤتمر آخر، وعلى يد متطرف مهووس لا يعرف لغة للحوار سوى لغة القتل. ويسرد النص بين النهايتين سلسلة متصلة ممتعة من الحوارات والنقاشات بين شخصيات لها ماض مشهود يبدو انها لا تزال أمينة له، وبالأصح لا تزال سجينة داخله، بعد أن تقطعت السبل بينها وبين ماضيها الذي على رغم أنه لا يزال جزءاً من اليوم ولم يمض عليه وقت طويل، جعلت الأحداث المتلاحقة بسرعة شعاراته ومفاهيمه ونظرياته تبدو وكأنها تنتمي الى ماض بعيد حيث استحال على هذه الشخصيات اعادة النظر فيها وقراءتها قراءة نقدية لاستخلاص الدروس والعبر لمساعدة الذين وضعتهم الحياة في مواجهة أحداث الحاضر والمستقبل القريب في تبين طريقهم وتجنب مزالق السير نحو بناء حياة أفضل. ولعل اكتفاء النص باستيحاء أحداث التاريخ وتفضيل الابتعاد من كتابته يوحي في الوقت نفسه بصعوبة كتابة تاريخ تلك الفترة. فمن يستطيع أن يكتب تاريخاً حقيقياً لتلك العقود المزدحمة بفائض من الأحلام والأشواق والنيات الحسنة والصبوات النبيلة والاستعداد للتضحية في سبيل ما يعتقده المرء صحيحاً ويحقق السعادة على الأرض؟ انها عقود مضرجة بالدماء والتضحيات والعذاب الذي يفوق أحياناً ما يحتمله البشر. ومن يستطيع أن يكتب تاريخاً لا يكون مساهمة في جوقة الأكاذيب التي تتكرس لتمجيد الجلادين والمستبدين، وتنسب اليهم من الأكاذيب ما لا يستطيعون حتى مجرد تخيّله. ومن ينصف المظلومين المستباحين المحرومين من كل شيء، ضحايا جريان تاريخ تلك الفترة على ما جرى عليه؟ ومن ينتصر للمنسيين والمجهولين والمقهورين لئلا يكتب التاريخ بسياط الجلادين الذين قادوا البلاد الى ما هي عليه من التبعية وذلك الفقر الذي زادوه انتشاراً، وعار الجهل الذي زادوه توطيناً. حكاية جيل وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع كاتب هذه الرحلة، أو مع ما عبر عنه أبطالها من مواقف بدت في صراع مع اللحظة التي تعيشها منطقتهم في مطلع القرن الواحد والعشرين، فإن النص يكاد يسرد بشيء من التفهم والتعاطف وعدم الانزلاق نحو الإدانات واعطاء الدروس وسرد النصائح، حكاية جيل خاض غمار رحلة قاسية من المعاناة والعذاب، والشوق العارم للعثور على طريق التحرر من الاستبداد والتبعية والتخلف، والسير على طريق التنمية والنهضة. لكن عمر السائرين على ذلك الطريق "كان من القصر بحيث لم يسمح لهم بأن يمضوا بتجاربهم الى نهاياتها، وأن يسقوها بماء الحياة المتجددة ليعيدوا صوغ رؤاهم ونظرياتهم لئلا يبقى منها إلا ما ينفع الناس، ويحقق رخاءهم وسعادتهم، ويقرب أوان بلوغ الإنسان حلمه الدائم بالمساواة والعدل والحرية" كما يقول التعريف بالكتاب في صفحته الأخيرة. انها رحلة ألقت ذلك الجيل في غياهب السجون، وكبلته بسلاسل مرئية وغير مرئية، مادية ومعنوية، وبعثرته في تيه المنافي، الداخلية والخارجية، ومنحته القليل من لحظات سعادة الانجاز، وجرّعته مرارة الخيبات، وقادته في النهاية الى الخراب الداخلي قبل الخراب الخارجي، خراب انهيار البناء المفهومي وسقوط الأحلام الجميلة الكبيرة، وخراب الحصار بين هاوية الإخفاق المدوي وأشداق الاستبداد. فإذا به غريباً مشرداً في داخل ذاته، مشتتاً على كل الخيارات المتساوية التي لا تفضي الى طريق واضح نحو الحرية والتقدم، عارياً حتى من الأحلام الآسرة، تلف خطواته الحيرة، ولا تترك له سنوات العمر الهاربة سوى لحظات تذكر عمر جميل التهمته أوهام متاهة ايديولوجية مجلجلة، ولا تزينه سوى لحظات شوق عارم للحرية والانعتاق يكاد يختنق داخل الذات الحائرة المحاصرة، وبقايا مكابرة جليلة ترفض انكسار اليوم ومهانته وخواءه من كل حلم جليل يتسامى فوق الآلام والجراحات وفوق الموروث الحيواني الأناني، لبناء مدينة فاضلة تليق ببني البشر في الألفية الثالثة. وليس غريباً ان ينصب موضوع الحوار الذي يتولى آخر القرامطة إدارته مع الجميع حول الوحدة، في بعديها الرمزي والواقعي. فحتى مع تجاهل كون الوحدة العربية حلماً راود أجيالاً من دعاة النهضة والحرية والتقدم في المنطقة العربية كلها، تكاد الوحدة في تاريخ اليمن تلخص أحلام جيل انهمك في العمل المضني لإنشاء الدولة الوطنية في العصر الحديث، إضافة الى كونها موضوعاً محورياً في تاريخ اليمن كله. فعلى رغم أن تسمية اليمن من حيث دلالتها على منطقة جغرافية معينة تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية كانت معروفة منذ زمن طويل، فإن وحدتها في كيان سياسي واحد، منذ حدثت تلك الوحدة للمرة الأولى في القرن الثالث الميلادي، لم تتحقق إلا في مرات قليلة شهدت فترات قوة وازدهار، وظل التنازع بين الوحدة والتمزق الى كيانات متصارعة متنافسة غالباً على تاريخ اليمن كله. ومع ان الحركة الوطنية اليمنية الحديثة بشرت بالوحدة وعمّقت الدعوة اليها ورفعتها الى مستوى المقدسات حتى تحققت في مطلع عقد التسعينات، فإن اليمن منذ مطلع الستينات خاضت ثلاث حروب شاملة وبضع حروب جزئية باسم هذه الوحدة التي يطالب بها الجميع ولا يختلفون عليها حتى كان من مفارقاتها ان كل اتفاق للوحدة جاء ليضع نهاية لحرب أهلية طاحنة مدمرة، ما دعا الى الاعتقاد بأن عدم الوحدة مشروع دائم للحرب الأهلية وللقمع والاستبداد إما بحجة السعي لتحقيق الوحدة وإما بحجة الدفاع عنها. لم يجد نص "آخر القرامطة" أمامه سوى استيحاء أحداث العقود الأربعة الأخيرة في كتابة نص متحرر من قيود التاريخ ومن قواعد التحليل المنطقي الصارم لينطلق به الخيال في حوارات متوقعة أحياناً مفاجئة أحياناً أخرى، تتناول الأحداث بشيء من الحنان والحسرة والأسى، ولكن من دون تعال أو انكار أو ادانة، في رحلة تشبه في أسلوبها نص "مأساة واق الواق" التي كتبها في منفاه في مصر المعارض اليمني الراحل الشاعر محمد محمود الزبيري في مطلع الستينات، أو ربما استوحت من التراث العربي رحلة ابن القارح في "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري. انه نص يعطي الكاتب حرية اختيار الأحداث والمواقف والشخصيات والموضوعات وخطوط السير والنتائج من دون قيود سوى ما يستطيع خياله أن يرسم وأن يعطي لما رسم من ألوان ما دام أحد لم يعد من الآخرة ليحدد بدقة معالمها وشكل حياتها وحقيقة موضوعاتها. البراءة والدهشة انه نص فيه الكثير من براءة اندلاع الحلم في مطلع الستينات واندهاشه بتدفق تداعيات ذلك الحلم وتتابع ذكرياته. وفي النص أيضاً ثبت رفض الحكم العسكري بكل صوره وأشكاله، بما يحمل من قمع واستئساد على المواطن البسيط المحروم من الحرية ومن الحياة الكريمة، وعجز أمام معضلات الواقع وعن اخراج البلاد من دوامة الفقر والتخلف، مصدر كل مهانة واخفاق فردي وجماعي. انه نص يربط في ما بينه نغم واحد من أوله الى آخره، كونه نشيداً للمساواة والعدل والحرية، واصراراً على التمسك بهذه القيم النبيلة في وجه طغيان الفردية الأنانية وغلبة الأقوى عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً. إلا ان النص ليس دعوة ايديولوجية ساذجة، ولا شعارات سطحية تدعي امتلاك حقائق طريق السعادة للبشر. لذلك لم يفعل سوى محاولة أن يصوغ من رماد كل النظريات والمبادئ والايديولوجيات المنصرمة، ومن بقايا الأحلام والأوهام والأشواق والتمنيات التي حطمتها زلازل السنوات الماضية، طاقة انسانية حالمة بالحرية والمساواة والعدالة والتسامح. لقد حاول النص أن يؤلف من ذرات هذا الرماد المتناثر، من خراب الأحلام والنظريات والأوهام، لحناً ينشد الحرية والمساواة، لئلا يعم الخراب منطقة منكوبة بالاستبداد والحرمان والتهميش والتخلف. ينتزع النص هذا الحلم الجميل المتفائل من مشهد بلغ فيه الخراب ذروته بعد أن أصابت رصاصات عابثة، حائرة أمام صعوبة الوضع وتعقيداته وتناقضاته، قلب آخر الحالمين بالتغيير واستمرار مشروع الحرية والتقدم، القرمطي الساعي الى بناء عالم يهرب من بشاعة الواقع الى واحة الحرية والبشرى، ليبني على أنقاض عالم الظلام والاستبداد عالماً جديداً لا يضيق به سكانه، حتى لا يحلمون بالوحدة ويهربون منها في الوقت نفسه، عالم يحل فيه الحوار محل الإكراه، وصناديق الاقتراع محل البندقية والدبّابة، والحملات الانتخابية محل الحروب الأهلية، وتنافس البرامج الانتخابية محل المطاردات والاعتقالات، وأدوات الاقناع محل وسائل التعذيب، واعتراف القوى السياسية ببعضها بعضاً بدلاً من نفي كل للآخر. انه نص يتمنى رسم معالم طريق مشترك جديد نحو غد أفضل بدلاً من انفراد كل مجموعة بادّعاء امتلاك الحقيقة والاجابات واحتكار الوطن أو مصادرته، علّ ذلك يؤدي الى الوصول الى حياة جديدة استحال بناؤها في الماضي. وما يبعث على الأمل أن الأهوال التي واجهها آخر القرامطة في حياته القصيرة لم تدفعه الى فقدان الأمل في العثور على طرق تقود الى بناء حياة أفضل، وتدل على معالمها وبشاراتها. والنص من أوله الى آخره حوار بين شخصيات مختلفة أغلبها واقعي كما يبدو من الأسماء التي عرفها تاريخ اليمن خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، ومن الإشارات والتلميحات، أو على الأقل يحاول أن يوحي للقارئ بأنه يستخدم مادة أولية يوفرها تاريخ تلك الفترة الحافل بالمفارقات والتناقضات وبما هو أغنى من الخيال وأغرب من أي ابتكار للحوادث والأفعال. لذلك تتعدد الشخصيات المشاركة في هذا الحوار الدائر في الآخرة. ولعل ما هو أكثر إثارة للاعجاب والتعاطف غير آخر القرامطة، بالطبع، من حيث هو الشخصية المحورية في الحكاية كلها وموضوعها ومادتها تلك القرمطية الجميلة الشامخة التي أدهشتنا بتعاليها على سفاسف الحياة مما ينشغل به الفانون القادمون من الحياة الدنيا الى دنيا الآخرة، وهي شخصية من وحي الخيال، أو أكبر من أن يستطيع الواقع الراهن العليل ان يجود بها، تنجح في كسب تعاطفنا وفي استدراجنا من جديد لقبول الحلم بدنيا جديدة خالية مما نكبت به دنيانا من مستبدين وجلادين وفاسدين ومتعصبين كدروا صفو الحياة الدنيا وأحالوها جحيماً وسجناً. * كاتب يمني والمقالة جزء من دراسة طويلة عن الكتاب.