كتب ربيع مبارك عدداً من الروايات التي يجمع بينها الوفاء لميثاق السرد الروائي بعناصره وعوالمه من دون ميل إلى السير - ذاتي تحديداً والاتصال بمحدثات الزمن وما يعرفه التاريخ الراهن من تحولات في القيم والنفوس. فبعد ثلاثين سنة على صدور عمليه الأولين: "الطيبون 1972" ثم "الريح الشتوية 1980" اللذين جسدا مظاهر الصراع الذي رافق نهاية حقبة الاستعمار وبداية الانتقال إلى الاستقلال وأظهرا تحول الوعي في انهيار القيم التقليدية وصعود نجم الانتهازيين الذين تسلقوا السلطة وتسابقوا في خدمة مصالحهم، وروايته "رفقة السلاح والقمر 1976" التي كانت اتخذت الحرب والوعي القومي موضوعة - تيمة - لها من خلال مشاركة جريدة من الجنود المغاربة في حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 على الجبهة السورية... وروايات أخرى، خصوصاً ثلاثيته: "درب السلطان 1999" التي استعاد من خلالها التاريخ المعاصر لمدينة الدار البيضاء، وهو يتوزع بين مشاهد مقاومة الاستعمار الفرنسي ونشأة القوى الاجتماعية والاقتصادية المتنفذة. وما زال مبارك ربيع ملتزماً النهج نفسه بجعل التاريخي والاجتماعي مجالاً للفعل السردي وبناء متخيله الفني. ففي روايته الجديدة "أيام جبلية" نشر خاص، الدار البيضاء، 2003، 350 ص. حجم كبير يكتب متاهةَ الإنسان في مجتمعه في افتقاده حقيقته الذاتية أمام نفسه كفرد أولاً، وضياع صورته لدى الجماعة ضمن ما تعيشه من صراع وما تتجاذبه ضمنها من رغبات شتى وحدود مختلفة ثانياً. ينطلق في ذلك من أحداث تتماثل ووقائع مشهودة في السياقين المجتمعي والثقافي المغربي وتتقاطع مع قيمهما. تتقدم رواية "أيام جبلية" كسيرةٍ لضياع الحقيقة "في فسحة الوجود" كما يشير التصدير. وليست الحقيقة سوى الواقع المجتمعي، وقد سعى الكاتب إلى تجسيده عالماً محتملاً نسجه أمثولةً لها بناؤها الفني المتشكل مشاهد وشخصيات متخيلة تحاكي أخرى. وبقدر ما تلتبس أوضاع الحقيقة في رواية مبارك ربيع، فتُرسَمُ باسم الواقع جلية واضحة تارة وتأتي خفية مُقَنّعَة خلفَ مصادفة القدر وهو يغزِلُ للناس مصائرَهم تارة أخرى في خطاب الرواية، يكون الطريق إليها متعرجاً بين عناصر المحكي" وعلاماتها موزعة متبددة بين الفصول والمقاطع التي تشكل البناء السردي. فالقصة التي يتداولها الناس عن القطار الذي وصل للمرة الأولى الى بلدة "رأس الجبل" النائية والمنعزلة عن صخب الحياة وجعلها الكاتب مدار الحكي، لم تحمل للرواية خبر حادث معين يمكن التثبت من وقوعه أو تكذيبه لاختلاف الشهادات المتعارضة حوله، بل حملت إليها - وفي الأساس - فضاء محكياً يجد في المجال الجغرافي والمجتمعي والاقتصادي المُهمَّش خلفيتَه، وفي مسار الحكي المرتبط برغبة السارد وسيلته في ممارسة النقد الاجتماعي على لسان الشخصيات ووصف الأحداث وتفاقمها. يتشكل المحكي الروائي من مسارين: يعتمد المسار الأول ما تردد في قصة القطار الذي وصل إلى بلدة "رأس الجبل"، حيث خلفت قصة الحادثة تساؤلات ومواقف مترددة بين القبول والرفض، كما كانت مدعاة إصدار عدد من التقارير والشهادات استدعتها الرواية في فقرات خاصة ومقاطع مستقلة، وتميز بعضها باختلاف البنط الذي كتب به. وتشكل المسار الثاني من محكي "رأس الجبل" ذاته، في اعتبار البلدة مكاناً معزولاً، ولكن عارماً ببيئته المجتمعية وتصارع الذوات فيه على خلفية تفاعل بعضها مع القيم السائدة تارة، وبحث بعضها الآخر عن تحقيق مآربه تارة أخرى. في المسار الأول يقدم محكي الرواية الآثار التي خلفها تداول خبر وصول قطار إلى منطقة "رأس الجبل". وبقدر ما توزعت الإشارات المقتضبة إلى حادث القطار بين فصول الرواية ومقاطعها بما جعلها حدثاً مركزياً للسرد، كانت محفلاً للتوليف بين الشخصيات والأحداث ولتركيب الفضاء الروائي برمته. فبسبب القصة ذاتها جاء محمود الردان إلى "رأس الجبل" مكلفاً إعداد تقرير عنها لفائدة مؤسسته الإعلامية. وانطلاقاً منها تعرف إلى الشخوص والمشاهد، وعاش جانباً من الأحداث التي كانت خلفية لتنامي المحكي وإعادة تركيب الأوضاع الاجتماعية والنفسية لشخوصه. فإذا كان محمود الردان قبل المهمةَ التي أوكلت إليه بدافع نفسي، إذ ابتغاها فترة زمنية للابتعاد من المحيط اليومي والمجتمعي الذي يعيشه، فإن انتقاله إلى عين المكان لم يساعده على تبين قصة القطار، ولكن في الأساس أفاده في الوقوف على حقيقته كفرد قُذفَ به في دوامة الحياة الاجتماعية والتباساتها... وصل إلى هذه النتيجة بعدما خبر عالم "رأس الجبل" الذي كان بالنسبة إليه خارج التغطية، منقطعاً عما سواه. أما المسار الثاني فينطلق من قصة القطار، ولكن باستقلال عنها ليفيد ما تشهده البلدة من أحداث تتقاطع عندها المصالح والأطماع في غفلة وكتمان، وما تعرفه من صفقات يترسمها الكاتب في العالم المحتمل الذي يشكله رواية. فبدافع الإيهام بالتماثل مع ما يجرى في الواقع تتبدى الأحداث والمشاهد في "أيام جبلية" متصلة ضمن أوضاع ولغات وحالات هي أقرب إلى المعيش والتحولات المجتمعية العنيفة. ومن هنا فهي تعكس عالماً حياً منظماً من المصالح التي لا تلتقي وتتفق إلا لتتقاطع وتنفصل بضراوة الصراع والبحث عن آفاق جديدة، أو عن مواقع سلطة تحمي بها رهاناتها... وإذا كان محمود الردان - السارد الرئيس - اهتدى إلى بعض خيوط هذا العالم فقد ظل عاجزاً عن فهم أو تفسير علاقاته المتناقضة في اختلاف الشخوص التي تشكله، خصوصاً في ظل صمت الأهالي ورغبتهم الدائمة في محو أثر الصلات والعلاقات التي تربط الشخوص والمصالح هناك. يتمثل بناء الرواية النسق المجتمعي من طريق علاقات السارد، سواء بالمكان أم ببقية الشخوص الذين يتعرف إليهم تباعاً في الرواية. فمنذ انطلاقتها نتعرف إلى عدد من الأسماء التي التقى بها السارد المتكلم محمود وكانت بالنسبة إليه بمثابة المفتاح الذي سمح له بدخول البلدة والاقتراب من علاقاتها المجتمعية. ويكتسي اقتراب السارد من هذه الأسماء أهميته من وظيفتها في استدعاء بعضها بعضاً إلى مسرح الحدث وتقاطع المشاهد. فالمعلم "رضوان العشر" الذي آوى محمود الردان في بيته لعدم وجود فندق في البلدة قضى سنوات عدة في الانتظار على هامش الحياة لا يجد ما يتلهى به غير نظم الشعر والزجل، وحتى عندما ظهرت له سعيدة الرايس تلميذته في القسم كبارقة أمل في الحب، ستغيب عنه بطريقة مفاجئة مخلفة وراءها أسئلة تتصل بالأعمال المشبوهة التي كان يديرها أبوها، ومصادفة توصله في الوقت نفسه برفض الجهات الرسمية طلبه الانتقال بالانتداب إلى أوروبا أو إلى خارج البلدة، على أقل تقدير، ما كان يمني معه النفس وينعش آمالها مع سعيدة. وتلعب شخصية "للا عيوشة" دوراً مركزياً تنجذب إليه عناصر السرد وتهب المحكي أكثر من سبب لتأزيم حبكته. وهي تؤدي وظيفة تلك المرأة المجتمعية التي استطاعت ان تتجاوز القيم المجتمعية التقليدية وتقدم لبنات البلدة مشروع "دار الصنعة" يتعلمن فيها الخياطة ويوفرن لأنفسهن دخلاً... ويفيد اختلاف النظرة إليها بين شخوص الرواية اتصال العلاقات والمشاهد، كما يبرز القيمة المجتمعية التي أرادها الكاتب لوظيفة المرأة في التنمية المجتمعية، خصوصاً وقد زكاها ببناء شخصية للا عيوشه نموذجاً لنكران الذات والعمل من أجل الآخرين. ويحتل ابن للا عيوشة فؤاد حيزاً إضافياً في محكي الرواية. فهو يتقدم كرمز للجيل الجديد الذي يحمل الأحلام ويعز عليه أن يجد له مسعفات في الواقع الاجتماعي الذي ينخره الفساد ونزيف الهجرة. اصطدمت محاولاته إنشاء مقاولة سياحية دائماً بعراقيل مالية هزت علاقته بمحيطه وأفقدته ثقة مقربيه بعدما أزّمت وضعَه. وحتى عندما توهم تجاوز مشكلاته المالية بشراكة مع أجنبية راشيل كان توسم فيها دراية بميدان عمله وتجربة، تهيأ له معها في لحظة أنها جاءته بكنز" تكشف له أنها لم تكن غير محتالة نصبت عليه ودفعت بمقاولته إلى الإفلاس النهائي وعرضته هو للسجن قبل أن تلوذ بالفرار. كما تعرض الروايات لشخوص أخرى تتمثل بها أثر الفاعلين والأفاقين في المجتمع. فالحاج عباد رجل سلطة ومسؤولية، ضحى دائماً من أجل مكانته السياسية، ولم يقبل بإعلان فؤاد ولداً له لما كان يتهدد مصيره الحزبي إبان علاقته غير المعلنة بللا عيوشة... وهناك شخص جبريلو صاحب مرأب للسيارات يستعمله لتمويه السيارات المسروقة وتعبئة المخدرات والمواد المهربة... في هذا تتقدم رواية مبارك ربيع كقراءة أخرى في المرحلة المجتمعية المعاصرة وفي تحولات القيم فيها. تستوحي عناصرها من اختلاف مظاهر الحياة وتعدد الأساليب التي تنتهج في دائرة الصراع بين الأفراد والفئات لتقرير الأمر الواقع. تكشف عنه الرواية كأحداث ومشاهد استبد بها الالتباس، أو هي بعيدة عن بؤرة الصراع الحقيقي، إذ تسود سلطة أقوى من كل الشخوص تدفع إلى دوامة الإحساس باللاجدوى.