الكتاب: قطار الصعيد رواية الكاتب: يوسف القعيد الناشر: منشورات الزمن - الرباط 2001 بخلاف العنوان الذي وضع على الغلاف، يحيل العنوان الذي اختاره المؤلف قطار الجنوب يصل الى الصعيد الجواني الى عالم الصعيد في مصر. تسعى الكتابة الى اختراق تضاريسه الثقافية والمجتمعية واعادة بناء فضاءاتها. فتقارب زمنه السردي المثقل بالحكايات والخرافات وجرائم القتل والارهاب وقصص الثأر وانعدام تقدير السلطة لمعنى الأمن بالنسبة للمجتمع التقليدي والمغلق الفقير. من أجل ذلك يعمد الكاتب الى تمثل موضوع البحث في جريمة قتل مزدوجة راح ضحيتها رجلان، مسلم ومسيحي" ويسلم سبيل التحقيق فيها الى راوٍ تقوده الأحداث الى الاصطدام بجرائم أخرى تنوء بها وبتشابكها حياة الناس في الصعيد، لأسباب مجتمعية وبيروقراطية. تقوم الرواية على احداث بسيطة وأخرى مركبة. منها تبني عالمها السردي. المتعدد الأحداث والفضاءات" القضايا والشخصيات. تلتقي فيه العناصر وتتفاعل تخييلاً حكائياً له قوة الايهام بالواقع وفرادة الاقتراب من أسئلته بتركيب الأحداث والشخصيات، وتوليف المكان الروائي والنصي بالمعنى الذي نتعرف به على اعادة البناء التي يحاولها الكاتب للمعيش اليومي وللعالم الخاص في صعيد مصر... من خلال الأحداث المتوالية والتي قد تبدو متباعدة فيما بينها، لا تجمعها غير بصيرة الصحافي وهي نفسها رؤية السارد المولع بالأحداث المثيرة وملاحظة جاذبية المشاهد والأحداث للسبق الصحافي!. في ذلك تهيأت افادة الرواية من تقنيات المحكي الصحافي في اثارتها لموضوعات مجتمعية وسياسية تضج بها حياة مصر الراهنة. عرضتها كمتوالية من الأحداث التي تنتظم في سيرة الراوي الباحث طوال عشرة أيام في متاهة الصعيد عن فرصة انجاز ذلك التحقيق المثير الذي يجمع بين مكونات الجريمة والدين والسياسة والتجسس... والاجابة من ثمة ضمناً عن السؤال الذي يؤرق المجتمع والدولة، عن الأسباب التي تسمح باستمرار ظاهرة الثأر وتبقي الباب مفتوحاً أمام عناصر التطرف الديني والطائفية المجتمعية. تعمل الرواية على نقد مظهارها ونقد تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية بدعوى المحافظة على أمن السياح.... وفي الوقت نفسه تُبين الرواية مظاهر الوعي المجتمعي واحتجاجه على النعرة الطائفية، وكيف يعالج المسؤولون قضاياه اليومية من دون الحاجة الى تدبيرها سياسياً واقتصادياً" وبإلقاء عبئها وانعكاساتها على المجتمع ذاته ما دام يرفض التعاون - خوفاً - مع الدولة، في ظل الرُهاب العام الذي يعيشه، كتبتهُ الرواية تجسيداً للخوف المستبد بالناس الضعفاء في فقرهم وبأسهم، وتوالي الخيبات والاحباطات عليهم. فبعد الإثارة التي خلفها قتل امرأة لرجلين في الصعيد ركب الصحافي الذي أوكلت له مهمة انجاز التحقيق في الموضوع القطار الى مكان الحادث في الصعيد الجواني. وعلى رغم ما أحاط بالرحلة الى مكان الحادث من ملابسات وتداعيات نقلت للسارد بمعادل موضوعي هو القطار! من عالم القاهرة الى جفاف الحياة في الصعيد وقسوة الزمن فيه فإن كل ما قيل لم يخرج عن الخبر الأول الذي حضرت به من مصر. زوجة شابة قتلت زوجها وعشيقها في لحظة واحدة وسلمت نفسها للبوليس بعد ذلك". وإذا كان تكليف الصحافي بالذهاب الى صعيد مصر تطابق مع استعداده القبلي وارادته الخروج مما كان يعانيه من أزمة نفسيه فإن انجاز التحقيق ذاته لم يجلب له غير الخيبة والإحساس بتفاهة الخطابات الزائفة التي تقيم الحياة على وتيرة الازدواجية والتلفيق. ان قطار الصعيد ذاته يعكس زمناً مصرياً مزدوجاً. يوجد قطاران: أولهما سياحي سريع استقله الصحافي في رحلة الذهاب، وثانيهما محلي بطيء ركبه للعودة الى القاهرة!. يعرض آيات التخلف والتقدم في آن. شأن القطار/ الزمن في ذلك شأن القرى المتناثرة حيث يتساءل الناس فيها عن معنى ان يجتمع في بعضها الفقر والكهرباء في مشاهد سخرية مريرة يتبادلها أفراد المجتمع وينقلها السائح صوراً عن الصعيد الذي لا يمكن ان يبقى مجرد "آثار يأتي السياح لكي يروها ويلتقطوا الصور بجانبها..." وانما حياة شظف ومعاناة ينقل الكاتب مظاهرها في روايته، واجتماع مدن في ما يشكل مثلثاً للرعب والإرهاب النفسي. قد تكون الاشارات السابقة عرضت لأهم الأحداث في الرواية. بيد ان هذه الأخيرة تتبدى كدرج يتأثث بعدد من الحكايات والقصص الخرافية الفرعية التي تعكس علاقات التهميش والانقطاع بين جهات مصر وبحري منها بالخصوص وبين الصعيد. ولذلك لم يكن غريباً ان يتمثل الكاتب الصعيد فضاء قتل وعسكر وجنون. منقطعاً عن العالم وسائل الاتصال وغارقاً في أوهام الخرافات انتظار عودة الخُط ومسلسل الثأر... فكل القصص تمر من خلال شخصيات وافدة على الصعيد ومصابة بلعنته. جاء بها الكاتب من العسكر الذين قادهم حظهم للعمل في الصعيد، فكانوا أول ضحاياه: 1- بدير الذي اصيب بمرض لأكله من سمك بحيرة غيبت فيها جثة فتاة. 2 - العسكري عرابي الذي انتهى الى السجن بعدما اتهم بالتعاون مع شبكة تجسس اسرائيلية. 3 - الفتاة القاتلة التي جيء بها من القاهرة بعد زواج مفروض قد تستعيد به مجداً آفلاً غير انها لن تحصد غير فشلها الحياتي والجسدي بعدما عجز عن افتراعها من زُوِجَت اليه. بل وعجز عن حمايتها وحماية ماله وعرضه - ومن سخرية الأحداث ان يكون حامي عرض زوجها عشيقها الذي استحق القتل بعدما رفضت استمرار علاقتهما المحرمة. 4 - والصحافي ذاته الذي كان ضحية رحلته عندما رُفض تحقيقه، واختلطت عليه قيمه وأحاسيسه وكوابيسه. فنياً تتواجه في الرواية ثلاثة أنماط من الخطابات يمثلها أولاً ملفوظ الكاتب السارد، الذي يتبنى قول الرواية بالضمير الشخصي لصحافي كلفته المجلة التي يشتغل بها اجراء تحقيق ميداني عن الجريمة. في ذلك يتمثل ملفوظه خطاب التعبير عن الأحداث بتعدد الافتراضات وزوايا النظر اليها، كما سيجسد القيم المتعارضة مع مثيلاتها التقليدية السائدة في المدينةالقاهرة او في الصعيد. سواء كان مصدرها المجتمع أو السلطة السياسية في ممارساتها وتبريراتها. ملفوظ الشخصيات المشاركة في بناء المحكي الروائي ثانياً، وهو ملفوظ متعدد المواقع التي يصدر عنها. يأتي في شكل حوارات غيرية تحكي قصص الآخرين وتتأولها أو اعترافات شخصية تعكس وعياً مجتمعياً متفاوتاً تجاه الأأحداث والوقائع الطارئة على حياة الناس في الصعيد. ومن بينها الموقف من جريمة القتل... في هذا الملفوظ يلتقي الوعي الشعبوي والخرافي بالوعي النقدي المتمثل لحدة الواقع وتاريخيته. كما يلتقي فيه التعبير عن تلك النتوءات التي عبر عنها المجتمع في أشكال من التطرف الديني والطائفية وفي خضوع لسلطة القدر الذي سخر الأمن عاجزاً عن القيام بمسؤوليته سوى ان يثير الرعب بين الناس!... وسلطة الثأر الذي ينقل الناس الى حتفهم عبر سلسلة الدم بين العائلات. أما الملفوظ الثالث فينقل الخطاب الرسمي باسم القيم والمتبجح بها، ولكن الهادم لها في الواقع والباحث دوماً عن التبريرات التي تناسب خطاباته المزيفة وخروقاته. يصدر هذا الملفوظ/ الخطاب عن المسؤولين الأمنيين رئيس الأمن الاشتراكي الذي يدعي القومية واقترابه من احاسيس المجتمع ومعرفته بالصعيد فيما هو يسخر كل جهده والحرس الموضوع تحت يده لرعاية سلامة السياح الإسرائيليين! كما يصدر عن الصحافة التي تأتي دائماً بما لم يشهده الواقع ولا يعرف الناس من أين استقته موقف رئيس التحرير من كل مقترحات الصحافي واهتمامه بما ألقاه الأخير سخرية... ولعل في تعارض الملفوظين الأولين مع الأخير ما يدفع بالرواية الى ان تكون مجسدة لرؤية الكاتب من منظور السارد ولخطابه النقدي الباحث عن بناء جديد لأطروحة الوطن المتعدد في متخيله والموحد في أحاسيسه ومآسيه. لكن الحيز الروائي ل"قطار الصعيد" يتجاوز حدود نسخ الواقع والمشاهد اليومية المتقاطعة في حياة موظف في القاهرة أو لدى مسافر في الصعيد يبحث عن الغريب واللافت لصيده الصحافي. تخترق الكتابة فيه الصيغ المتداولة لتطرح اسئلة تمس وجود الإنسان مهمشاً، تلغيه الأيام وتبطل السلطات ذواته وفعله الانساني في صراع يومي بين الذات والآخر، وبين الواقع وظلال التأويلات التي يحاول امتلاكها عبثاً في الحقل المجتمعي والسياسي والديني. في ذلك يتشكل الواقع والتاريخ ما دامت الرواية توظف جانباً من الأحداث التي تعرفها منطقة الصعيد راهناً... كمادة لبناء رواية، ومنهما تستكشف العلاقة بالذات، ومنها تستوحي لغتها سرداً له حجة الايهام بالحقيقة، ومسارات تأويل تضر بها الظواهر وتنقدها في تعدد المواقع الحافة بها. لذلك بقدر ما تقوم به كتابة يوسف القعيد رهاناً في التخييل الروائي بما يستلزمه من تقنيات البناء والحبك، بقدر ما تعرض حكياً شيقاً ان كان للكلمة حجة السياق هنا يتشكل من اليومي البسيط ومن توليفات مشبعة بالمحكي الشعبي والمتداول في شكل قصص وحوادث وخرافات تتلمس معنى الإنسان الأعزل، ومعنى البطولة المفتقدة في زمن الانفتاح، وبعمق الرؤية النقدية للعالم حتماً.