إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    الملك يضيف لؤلؤة في عقد العاصمة    إطلاق أول «بودكاست» في المسؤولية المجتمعية    اجتماع قادة الصناعة المالية الإسلامية في اللقاء الاستراتيجي الثاني لمناقشة الابتكار المستدام    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    الفيحاء يواجه العروبة.. والأخدود يستقبل الخلود.. والرياض يحل ضيفاً على الفتح    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    نور الرياض يضيء سماء العاصمة    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    بهدفين في الدوحة| الاتفاق ينفرد بالصدارة عبر بوابة العربي القطري    قمة آسيا للذئاب    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    باحثة روسية تحذر الغرب.. «بوتين سيطبق تهديداته»    سعود بن بندر يستعرض إستراتيجية «تطوير الأحساء»    الزميل رابع يحتفل بزفاف إبنه د. صالح    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    إشادة أوروبية بالتطور الكبير للمملكة ورؤيتها 2030    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    60 صورة من 20 دولة للفوتوغرافي السعودي محتسب في دبي    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    التويجري: السعودية تُنفّذ إصلاحات نوعية عززت مبادئها الراسخة في إقامة العدل والمساواة    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    «مساعد وزير الاستثمار» : إصلاحات غير مسبوقة لجذب الاستثمارات العالمية    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    مشروعات طبية وتعليمية في اليمن والصومال.. تقدير كبير لجهود مركز الملك سلمان وأهدافه النبيلة    أمير الرياض يرفع الشكر والتقدير للقيادة على إطلاق «مشروع قطار الرياض»    ميقاتي يحذر النازحين من العودة السريعة.. وإسرائيل تعلن اعتقال 4 من حزب الله    وزير الرياضة : 80 فعالية عالمية زارها أكثر من 2.5 مليون سائح    البنيان: رصدنا أكثر من 166 مشروعا تعليميا في 2025    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    الشتاء يحل أرصادياً بعد 3 أيام    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    هؤلاء هم المرجفون    اكتشاف علاج جديد للسمنة    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتخابات الشوروية الإيرانية بعد عام على البلدية محطة اخيرة وحاسمة في بناء ائتلاف حاكم ضامر الشرعية
نشر في الحياة يوم 29 - 02 - 2004

ينبغي ان يكون المعلّق على الانتخابات التشريعية او الشوروية الأخيرة في ايران إما من اعضاء مجلس الرقابة على الدستور، أو مرشد الجمهورية الخمينية نفسه، لكي يصف المشاركة فيها ب"الحماسية". وأما اذا كان المعلق هو رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام وهو رئيس مجلس الشورى الأسبق ورئيس الجمهورية السابق علي اكبر هاشمي رفسنجاني، اي الرجل الثاني الفعلي في النظام الحاكم، فقد يذهب الى القول ان نسبة المشاركة التي بلغت 57،50 في المئة من الناخبين تفوق نسبة الذين اقترعوا لجورج بوش الابن في العام 2000، ورأسوه على الولايات المتحدة الأميركية، وهي بلغت 25 في المئة.
ونسي "الرئيس" رفسنجاني ان النسبة تحتسب للمرشحين جميعاً، وليس للفائز او الحاكم وحده. ولكنه سهو من يقصر الشرعية الانتخابية على الحاكم وناخبيه. وهذا يقول فعلاً المعنى الذي يحمل عليه حكام ايران الانتخابات. وهو معنى المبايعة والمظاهرة على البقاء في السلطة، والاستئثار بمقاليدها. وفي الأحوال كلها، حقق اهل السلطة في ايران، وهم المحافظون، "قانوناً" سياسياً داخلياً ينص على الآتي: تشتد قبضة المحافظين على هيئات الحكم المنتخبة على قدر عزوف الإيرانيين عن الاقتراع، والمشاركة في الانتخاب، وتضعف قبضتهم وتتراخى عن الهيئات المنتخبة وليس عن السلطة فهذه شأن آخر إذا أقبل الإيرانيون على الاقتراع.
ولا ريب في ان الطبقة السياسية الحاكمة - وهي "الملاّقراطية" ومحمد خاتمي ومعظم انصاره جزء لا يتجزأ منها ومن مصالحها - أدركت الأمر، وهو من صنعها، قبل سنة تامة. ففي شباط فبراير 2003 جرت انتخابات بلدية عامة، بلغت نسبة المقترعين فيها 2،49 في المئة. وتدنت في بعض المحافظات الكبيرة الى 13 في المئة. وكانت النسبة الوطنية العامة، في 1999، 65 في المئة. وعلى خلاف انتخابات 1999 البلدية، انتزع المحافظون من الإصلاحيين، في شتاء 2003 المنصرم، معظم بلديات الولايات الثماني والعشرين التي انعقدت رئاستها لأنصار الرئيس الإصلاحي المتردد والمرتبك.
وهذا ما يحصل اليوم بفرق نسبي يترجح بين 2 في المئة، وبين 5 في المئة. ويكاد الترجح يكون مثالاً إحصائياً ثابتاً في الانتخابات الإيرانية المتفرقة الرئاسية والشوروية والبلدية، منذ "نفاذ" خاتمي بالرئاسة في الولاية الأولى، في 1997. فإذا بلغت المشاركة 70 في المئة، او نحوها، ارتفعت اسهم الإصلاحيين، وحصلوا على قرابة ثلثي المقاعد 90 معقداً من 290 في المجلس السادس المنتخب عام 2000. وإذا تردت المشاركة، قياساً على المتوسط الإيراني "الجمهوري" الى 50 في المئة، انعكست الآية، وحاز المحافظون الثلثين العتيدين.
عشرون في المئة... محورية
ويتبع التردي النسبي هذا تراجع مكانة محمد خاتمي، وخيبة الآمال المعقودة على اعماله ومبادرته. فهو جُدد انتخابه الى ولاية ثانية من اربعة اعوام في اوائل حزيران يونيو 2001. فاقترع له 77 في المئة من المقترعين نظير 70 في المئة قبل اربعة اعوام. ولكن نسبة المقترعين من سجلات الناخبين، في الاقتراع الثاني، كانت 67 في المئة، بينما كانت 83 في المئة، في 1997. واليوم تبدو نسبة ال16 في المئة هذه الإيذان بانحسار "الخاتمية"، الجناح المعتدل والإصلاحي "الليبرالي" من الملاقراطية الخمينية، ومن اقل من مئتي مقعد، فاز انصار خامنئي ورفسنجاني وأحمد جنتي الرقابة على الدستور وعلي مشكيني الخبراء، الى اليوم، ب129 مقعداً، نظير 40 لأنصار خاتمي ومهدي كروبي رئيس مجلس الشورى المنصرم ومحتشمي و28 للمستقلين الذين يميل معظمهم مع الفائز.
وعلى خلاف الإعلانات المدوية، الرسمية الإيرانية والصحافية العربية وبعض الدولية، لم تحسم الانتخابات الأخيرة، على الأرجح، القضايا السياسية والاجتماعية، المعلقة منذ انتخابات 1997. فتردي المشاركة الانتخابية الأخيرة نحو 20 في المئة، و27 في المئة قياساً على الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أمال الكفة الى انصار خامنئي وأصحابه من رؤساء المجالس المعينة ورؤوس "السلطات" القضائية والعسكرية والأمنية والإعلامية وهيئات الإعالة والإغاثة.
وعلى هذا ف"الحماسة" المزعومة إنما هي من بنات اماني الجناح المتصلب من الملاّقراطية الحاكمة، شأن المقارنة بين النسبة الإيرانية وبين نظيرها الأميركي او الأوروبي المفترض، ولكن تقرير الأمر لا يحمل على الذهاب الى ان المحافظين يهذون وحسب، او انهم لا يفعلون غير تطمين انفسهم الى متانة قبضتهم على سلطة تعود مقاليدها الفعلية كلها إليهم وحدهم ومحتكرو السلطة يحتاجون على الدوام، الى مثل هذا التطمين. فاحتساب شطر الناخبين الذي ايدهم، ويقيم على تأييدهم والاقتراع لهم، يقرهم على وفاء نواة صلبة تبلغ نحو ثلث الجسم الانتخابي هم ثلثا نصف الجسم الانتخابي الذي لم يحجم عن الاقتراع على رغم دعوة بعض ابرز تيارات المعارضة الى مقاطعة الاقتراع.
وهذه النواة ليست "لا شيء"، على خلاف زعم استبدادي يتقنع بقناع ديموقراطي. والأرجح ان معظمهم ليسوا من الشباب والشابات، ولا من الطلاب والطالبات، ولا من نظير "طبقات وسطى" مدينية او ما يقوم مقامها بإيران الخمينية. ولا هم من ذوي الأقارب والأنسباء المهاجرين، البالغين نحو 4-5 ملايين مهاجر دائم. فهم ايجاباً، من اهل الضعف "المستضعفين" الذين ترعاهم هيئات السلطة، وصناديقها، و"الحقوق" التي يجريها بعض العلماء على مرافق تخصهم منها المساجد والحسينيات والمهديات. وهؤلاء هم فقراء المدن وأحيائها "الجنوبية"، على شاكلة طهران، وأهل الشهداء وعوائلهم، وعوائل مقعدي الحرب العراقية - الإيرانية ومعوقيها. ويقدر بعض المراقبين حصة هذه الجماعات من نفقات المالية العامة بنحو 10 الى 15 في المئة.
وهم، من وجه آخر، من اطر هيئات القيادة في النظام، على معنى القيادة الواسع وهيئاتها الكثيرة. وتتماسك كتلة النظام الكبيرة برابط "ولاية الفقيه"، على معناها السياسي والاجتماعي الذي يقربها من "الحزب الواحد"، وانتصابه الذاتي والتلقائي الى "قيادة الدولة والمجتمع" وحده. وتمد بنية النظام هذه، قيادة وقاعدة متكتلتين كتلة ملتحمة، الطبقة الحاكمة بقوة وثبات لا تملك المعارضة نظيرهما ولو من بعيد، وشطر من المعارضة، ليس بالقليل، منه محمد خاتمي نفسه منظمة مجاهدي الثورة ومهدي كروبي رابطة العلماء المناضلين أو "المبارزين"، يميل ميلاً قوياً الى هذه البنية، ويدين لها بالولاء. فناخبو ال39 نائباً إصلاحياً ليسوا كلهم، ولا معظمهم ربما، من خارج هذه البنية. وهو شأن ناخبي ال28 نائباً مستقلاً. وهؤلاء جميعاً يوالون قيادة العلماء الغالبة، وريثة الثورة الخمينية والتباساتها الاجتماعية والفكرية والتاريخية. وقيادة العلماء وقوامة على الدولة ومواردها، وعلى شطر كبير من العلاقات الاجتماعية، لا سيما في الأطراف القومية الكثيرة. وإحجام محمد خاتمي ومهدي كروبي عن الدعوة الى مقاطعة الانتخابات قرينة على اواصرهما بالسلطة، وتقديهما تضامنها الداخلي على امتحان شرعيتها على الملأ الانتخابي. وإجراءات خامنئي ومجالسه وهيئاته، وهم السلطة الفعلية على رغم ال70-77 في المئة من ناخبي خاتمي والمعارضة، أعدت إعداداً حثيثاً لخلافة خاتمي وأنصاره في اثناء السنتين المنصرمتين. وأعدت كذلك، وعلى قدر مساو، لتولي مصالح كتلة الموالين والأنصار، ورعاية حاجاتها الاجتماعية والاقتصادية التي لا تستقيم قيادة سياسية وإيديولوجية إلا برعايتها - في نظام لا يتوسل بالقمع وحده الى استقراره واستتبابه، ولم يفلس إفلاساً تاماً من الشرعية.
ففي ايلول سبتمبر 2002 تقدم محمد خاتمي بمشروعي قانونين يخولانه بعض الصلاحيات في مضماري القضاء والرقابة على الانتخابات، على حساب صلاحيات المدعين العامين الذين يرجعون الى المرشد، وصلاحيات مجلس الرقابة على الدستور. فطعنت الهيئتان "الرقابيتان"، مجلس التشخيص ومجلس الرقابة، في المشروعين، وأبطلتاهما بذريعة ضعف دستوريتهما. وجاء إبطال ترشح آلاف المرشحين في اعقاب نحو سنة ونصف السنة من إبطال مشروعي القانونين اللذين كانا قيدا اجراءات مجلس الرقابة لو أقرا، جاء الإبطال الأول قرينة على بعد نظر مجالس المرشد وهيئاته.
إعداد... سنتين
وسبق إبطال القانونين المقترحين إقدامُ القضاء، في ايار مايو 2002، على غلق صحيفتين معارضتين، وإلغاء رخصتيهما، ومنع اصحابهما من تجديد الترخيص، على ما كان يحصل في الأعوام الأولى من ولاية خاتمي الأولى وكررت السلطات الفعلية الحظر عشية الانتخابات. فرد خاتمي بالتهديد بالاستقالة، ثم بالإحجام عن اي خطوة تثبت عزمه على إتيان امر حاسم. ولم تحرك استقالة جلال الدين طاهري، إمام الصلاة بأصفهان، وأحد اعيان الثورة الخمينية التاريخيين، في تموز يوليو من العام نفسه، ساكناً في خاتمي. وانتهز خامنئي الفرصة ليعلن مشاطرته الإمام المستقيل بعض "همومه" ومخاوفه على ما آلت إليه حال "الجمهورية".
وصدّق "حرس الثورة" مشاطرة خامنئي مخاوف طاهري، فأنذروا أنصار الرئيس، نواباً ووزراء وصحافيين ودعاة رأي، بالكف عن السعي في "تغريب" المجتمع الإيراني "المسلم"، وعن "تسميمه" بقوانين ليبرالية "خبيثة" وكان مجلس الشورى قيد دخول الحراس، و"الباسيج"، البيوت باستنابات قضاية ملزمة، ومنع أفراد الجماعتين من اقتياد الشباب والشابات الى المخافر بذريعة انتهاك الرأي "الإسلامي"، أو الحشمة "الإسلامية"، وقصر صلاحيتهم على التنبيه في حال الشك القوي. وفي آب أوغسطس، أحيل هاشم آغاجاري الى القضاء فدين بتحقير المرشد، والتشكيك في عقيدة النظام والإسلام والإمامية والعصمة، وحكم فيه بالإعدام.
واتفقت إدانته مع ادانة أحد ناشطي الخمينية الأوائل، عبدي، وهو يرئس هيئة استطلاع رأي، بعقوبة سجن ثقيلة جزاء اذاعته نتيجة استطلاع أظهر ميل كثرة المستطلعين الى قيام علاقات سياسية وديبلوماسية بين ايران والولايات المتحدة الأميركية. وسبقت أحكام القضاء المتطرفة، والرامية الى التخويف والترهيب، اجراءات المرشد "الرحيمة" و"الأبوية". فلما تقدم خاتمي بمشروعي قانونيه بدا مفتئتاً على حكمة المرشد، ومنتهجاً نهج الحسم والقطع القانونيين، ومنحرفاً عن طريق المساومة بين أخوة المؤمنين.
وجرت الانتخابات البلدية في هذا الظرف، بينما قوات التحالف الأميركية والبريطانية تنتشر في الجوار القريب. فأسفرت عن عزوف اصلاحي وثبات محافظ، آذنا بما جرى بعد سنة. ودارى المرشد وأصحابه حملة التحالف، ودخول قواته العراق بأيسر سبيل عسكري، بمرونة سياسية وديبلوماسية مشهودة ومتعرجة. فتعاونت أجهزتهم مع التحالف، من وجه، ولكنها لم تُخْل يديها من عملة المقايضة، من وجه آخر. وعندما نبه معارضون الحكم الملاقراطي الى مغبة تعاميه عن داعي الإصلاح الداخلي، لم يرد المرشد وأصحابه وقضاؤه وباسيجه رأساً ومباشرة. فتحينت الأجهزة الفرصة، واغتالت صحافية كندية، ايرانية الأصل، هي زهرة أو زهراء كاظمي. فكان الاغتيال كناية مفهومة عن رأي الملاقراطية في التلويح الداخلي بالعصا الأميركية.
وعندما جدد الطلاب تحركهم، في أوائل صيف 2003، تجنبت الأجهزة المعالجة الفظة والغليظة، لتلك التي أدت الى قتل ثلاثة طلاب قبل ثلاثة أعوام. واقتصرت الاجراءات على الحؤول بين الطلاب وبين مخاطبة المواطنين واشراكهم في تظاهراتهم. ولم يلبث الطلاب وعادوا، يائسين ومحبطين، الى حرمهم الجامعي. وأرهص ذلك بإحجام حركة ترسيخ الوحدة، أبرز المنظمات الطالبية، عن الاضطلاع بدور نشط في مقاطعة الانتخابات الأخيرة. وعالج فريق المرشد انتخاب السيدة شيرين عبادي الى جائزة نوبل للسلام، وسفرها سافرة الرأس والوجه ومصافحتها باليد غير محارمها، على النحو المعتدل نفسه.
استباق "الكعكة"
ورضخت "الولاية" القيادة الايرانية للمراقبة النووية من غير مماطلة ثقيلة، ومن غير امتثال سريع. فأعطت بيد، ولوحت بصواريخ شهاب -3 البعيدة المدى وهي تتهدد بالقصف تل أبيب، من غير شك، ولكنها تتهدد كذلك القاهرة وبغداد، أنقرة وإسلام أباد وكابول ودوشنبه، باليد الأخرى. وبينما كان حسن روحاني، رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي، يفاوض الاتحاد الأوروبي والوكالة الدولية، كانت شبكة تهريب أجهزة تخصيب اليورانيوم تعمل بجد ونشاط، بشأن أجهزة انتاج مواد الاشتعال النووية العسكرية.
فما اقترفه صاحب استطلاع الرأي في العلاقة بالولايات المتحدة لم يذهب هباء. وقبل جهر رفسنجاني، غداة "انتصاره" في الانتخابات الشوروية، ميله الى المفاوضة مع أميركا لولا مخالفة خامنئي هذا الميل وهو يومئ الى تجريعه المرشد الأول، خميني، القبول بوقف النار مع العراق في 1988، التقى محمد جواد ظريف، سفير الملالي الى الأمم المتحدة، نواباً وشيوخاً أميركيين بواشنطن. واختلى كمال خرازي، وزير الخارجية، بأحد الشيوخ الأميركيين بدافوس. وأعلن طاهماسب مزاهري، وزير المال، عزم الدولة على خصخصة أو تخصيص 400 شركة حكومية، وبيعها في مزاد علني الى استثمارات أجنبية. وكان الرجل نفسه سعى في توحيد أسعار صرف النقد الأجنبي تدريجاً وجزئياً.
وتُتمّ السياسة المواربة هذه ما بدأه خاتمي. فحين انتخابه كانت ايران، بقيادة رفسنجاني وخامنئي الخانقة والمتزمتة، أحوج ما تكون الى من يطمئن جيرانها اولاً، والمجتمع الدولي ثانياً، الى قدرة الدولة فيها على بعض المرونة والحوار بعد سنوات الرصاص السابقة، وإلى قبولها بعض الحوار مع مجتمعها. وتولى خاتمي العملين هذين. فكان سُلَّم الدولة الإيرانية الى علاقات اقتصادية نفطية خصوصاً مجزية، وإلى روابط بالجوار طوت صفحة "تصدير الثورة" ومساندة الاضطرابات الأهلية. وعلى رغم استئناف العلاقة بأوروبا بقيت العلاقة بأميركا في طور الترجّح. وبوادر تناولها ومعالجتها على اسس مختلفة، "تجارية"، تتوالى. ويريد المرشد وأنصاره قطف ثمرات "التجارة" المتوقعة والمزمعة هذه.
وهذا كله لا يعدو الاستشراف والتلمس. فال4 في المئة من زيادة الناتج الاجمالي الداخلي في السنتين المنصرمتين، لم تحل دون استقرار البطالة على 20 في المئة. ولا حالت دون ركود الاستثمارات الأجنبية على 20 بليون دولار في طول النفط وعرضه، وربما ينبغي ان يزاد عليها اتفاقا غازٍ سائل: واحد مع "توتال" و"بتروناس" والآخر مع مجموعة مثلثة، قيمتهما 3 بلايين دولار - على حين يذهب منها 50 بليوناً في السنة الواحدة الى الصين، النموذج الذي ييمم "ائتلاف رواد البناء" "المحافظون الجدد" الايرانيون المزعومون نحوه -. ويقدر الخبراء ان رفع الحظر الأميركي على الاستثمار في ايران، وتجديد التجهيز تالياً، قمين بزيادة النفط المستخرج 20 في المئة.
وعليه، تلهج ألسنة المعلقين، من كل حدب وصوب، ايرانيين وعرباً، برجحان كفة "البراغماتية" المحافظة الآتية. ويعلل المعللون بنظر ثاقت استرجاعي احباط المعارضة، وانتظار الايرانيين "العاديين" الترياق الاقتصادي والاجتماعي من "اصلاحات" أصحاب خامنئي ومجالسه، الوشيكة. وعليه كذلك، يندد المنددون ب"ثرثرة" الخاتميين، والتهائهم بالقشور والكلام يريدون: بحرية الرأي والصحافة، والاحتكام الى القانون عوض التخويف والاغتيال والإبطال. ولا يكتمون ارتياحهم الى عدالة الجزاء الذي أنزلته الانتخابات الأخيرة بهم، والى عودة "الثورة" الى مجاريها، واحتكار ولاتها المقاليد والهيئات كلها.
والأرجح عندي أن المعللين المنددين العجولين يغفلون عن ان سعي أوليغارشية متفرقة ومتناحرة في توحيد صفوفها - بعد امتحان أخفقت فيه أجنحتها الإصلاحية، ونجم عن اخفاقها تخلي شطر راجح من الشباب والنساء والطبقات الوسطى، عنها - هذا السعي يتفتق عن تفاقم الخلافات، ويتفتق عن حاجة ملحة الى ريادة سياسية شجاعة. ولا يبدو أن ثنائي خامنئي - رفسنجاني، ولو بمعية غلام علي حداد عادل وحسن روحاني، قادر على تلبية الحاجة هذه. ف"انتصار" اليوم ونشوته يضمران مزيجاً مخيفاً من الاستقالة والانتفاض.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.