تشكل الحرب على العراق سؤالاً أساسياً للنظام الإيراني، إذ الكلام الأميركي عما بعد الحرب غامض ومفتوح على الاحتمالات كافة. لكن ايران تواجه سؤالاً آخر أشبه بالمأزق، بعد الانكفاء الشعبي الذي عبّر عن نفسه في الانتخابات البلدية الأخيرة وخطورة ذلك على مستقبل التسوية الداخلية. بعض أنصار النظام الايراني وأصدقائه يشخصون مأزقاً تعانيه السياسة الايرانية التي يقرر مرشد الثورة و"الدولة"، علي خامنئي ورئىس مجلس تشخيص مصلحة النظام، هاشمي رفسنجاني، اتجاهاتها ونزعتها. وهم يعنون بالمأزق مشكلات السياسة الخارجية، وإحاطة ايران، منذ الحملة الاميركية والدولية في افغانستان، بطوق من القواعد العسكرية الثابتة، والقوات المرابطة الاميركية كذلك. ويتفاقم المأزق، بحسب الانصار والاصدقاء، مع حرب العراق المزمعة. فبعض من رعتهم السياسة الخمينية، وترعاهم، ويحلّون بضيافة طهران، هم وقواتهم العسكرية، جزء من "الحلف الاميركي" في "الحرب على العراق". ودعوة خرازي وزير الخارجية الايراني، صدام حسين الى الاحتكام الى استفتاء على نظامه وحكمه، غداة بلوغ القوات الاميركية والبريطانية والتشيكية 220 ألف جندي، وعشية تقرير "انموفيك" الثاني، ضرب من إبراء ذمة متأخر. ولكن الوجه الآخر للمأزق الايراني، الداخلي، يفيد من سطوع الوجه الخارجي ويبقى في ظل ظليل بمنأى من الانتباه والفضول. فلم تحظَ خسارة تيار رئىس الجمهورية الاصلاحي، محمد خاتمي، الانتخابات البلدية الاسبوع الاول من آذار/ مارس في معظم المدن الايرانية الكبيرة، وفي بلدات الريف، وانتزاع المحافظين الوسطيين، على ما يسمى انصار رفسنجاني رئىس الجمهورية السابق ورجل النظام الثاني المجالس البلدية التي خسرها خصومهم، لم يحظ الامران بالمتابعة والملاحظة اللتين يستحقانها. فالانتخابات البلدية الاخيرة هي اول امتحان يمتحن ولاية خاتمي الثانية وسياسته في اثنائها، منذ انتخابه في حزيران يونيو 2001 وتنصيبه شهرين بعد انتخابه. وكانت الانتخابات النيابية العامة، في شباط فبراير وأيار مايو 2000، بعد الانتخابات البلدية التي سبقتها بوقت قليل، سلمت من يسمون اصلاحيين، على اختلاف المسميات وتفرقها، مراتب الادارة والنفوذ الظاهرين كلها. فمن المجالس البلدية الى مجلس الشورى التشريعي، فالرئاسة والوزارة، لم يبق حقل او مضمار لم يثبت فيه الاصلاحيون الخاتميون حظوتهم لدى الناخبين، وتقدمهم على خصومهم. وها هم الاصلاحيون انفسهم ينهارون في مضمار بعيد، نسبياً، من تدخل الهيئات الكبيرة التي تتوج النظام. والحق ان انهيارهم العظيم ليس بإزاء خصومهم المحافظين على قدر ما هو بإزاء ناخبيهم. فمرد كبوتهم وعثرتهم انما هو الى ضعف المشاركة الانتخابية والانكفاء عن الاقتراع. فترجحت نسبة المقترعين من الناخبين المدونين في السجلات بين عشرة في المئة وبين اربعين. وعلى هذا لم يشارك في الاقتراع إلا أقل من ثلث الناخبين. وتكاد تكون هذه النسبة من الناخبين، اي الثلث، ونسبة المقترعين للمحافظين في الانتخابات الرئاسية السابقة، وفي الانتخابات التشريعية، واحدة. ففي انتخابات ربيع 2001 الرئاسية اقترع ثلاثة ارباع الناخبين الايرانيين لخاتمي 77 في المئة، وكانوا 69 في المئة في 1977. وفي شتاء 2000 فاز نحو مئتين من انصاره بمقاعد في مجلس الشورى الذي يعد 290 مقعداً. وكانت انتخابات البلديات في 1999، شبيهة بالانتخابين التاليين. وقد تعني المقارنة بين دورات الانتخاب المختلفة ان المرشحين الخاتميين خسروا أنصارهم وناخبيهم، وأن هؤلاء احجم معظمهم عن الاقتراع، وتركوا المرشحين الاصلاحيين، والانتخابات البلدية، بقضها وقضيضها نهباً سائغاً وسهلاً للمحافظين. وبلغت نسبة المنكفئين هذا الشطر الكبير من ناخبي خاتمي وأنصاره، ام نجح المحافظون في استمالة شطر من الاصلاحيين، فنسبة المقترعين اليوم قرينة على بلوغ المشاركة الانتخابية، عموماً، فصلاً ثانياً من فصول تدنيها وتراجعها. وهي بلغت الفصل الاول قبل خمسة عشر شهراً، حين الانتخابات الرئاسية. ففوز محمد خاتمي بالرئاسة، والولاية الثانية والأخيرة ما لم يعدل الدستور، على ما قد يفعل خامنئي ورفسنجاني لمصلحة خاتمي، صاحبه تدني نسبة المقترعين من 80 في المئة من الجسم الانتخابي في 1997 الى 67 في المئة منه في 2001. وفي ال13 في المئة هذه شطر من الناخبين الشبان الجدد الذين بلغوا سن الانتخاب 16 عاماً في الاثناء. فآذن ذلك بانكفاء انصار محمد خاتمي، الاصلاحي المزمع والمقيم على إزماعه ونيته من غير إقدام. ويبلغ الانكفاء، اليوم، مبلغاً يتهدد التسوية "الاسلامية" الضمنية التي وفرت للأوليغارشية الايرانية الحاكمة، في الاعوام الستة المنصرمة، شرعية ظاهرة مصدرها اشتراك الشباب ومن لم يبلغوا 25 سنة هم 60 في المئة من السكان في الحياة السياسية والعامة، على رغم اقتراف بعض الاوليغارشية الجرائم الموصوفة، داخلاً اغتيالات 1998 وخارجاً ميكونوس في 1994. وعلى رغم فداحة الاحوال المعيشية 20 في المئة بطالة، و15 في المئة تضخماً، و65 في المئة سكاناً في المدن... التي لم تؤثر فيها ايجاباً زيادة أسعار النفط المستمرة، وتقليص الدين الخارجي الائتماني الى 8 بلايين دولار، وبلوغ نمو الناتج الاجمالي 5 في المئة. ولعل تردي المشاركة الانتخابية تردياً فاضحاً، بعد ان كان تعاظمها "هدية" محمد خاتمي الى نظام ولاية الفقيه الذي لا ينكره، لعله وجه من وجوه انسحاب الناخبين الشبان، والطلاب والنساء والاختصاصيين، من الحياة العامة الايرانية، وتركها غنيمة خاوية للمتسلطين عليها. ففي 2001، سنة تجديد ولاية خاتمي، هاجر 220 ألفاً من اصحاب الكفايات الايرانيين الى الخارج. ويحسب وزير التعليم ان هجرتهم نهائية. وعلى حين بلغ عدد الطلاب الجامعيين مليوناً ونصف المليون، في السنة نفسها، ترك التعليم العالي 6 آلاف أستاذ جامعي احتجاجاً على تردي مستوى التعليم في الجامعات، وعلى حشر "انصار حزب الله" وحراس النظام الآخرين في الجامعات تعسفاً وقسراً. ولم تفلح السلطة السياسية والادارة في تعويض الثغرة التي خلفتها "الهجرة" العريضة هذه. ولم تسلم فئات السكان المتفرقة من الانسحاب والانكفاء هذين، فبعد ان بلغت نسبة زيادة السكان السنوية في اوائل الثمانينات 8،3 في المئة، انخفضت الى نحو 6،2 في المئة، في اواخر التسعينات. وبلغت، في 2001، اثنين في المئة. وهذه النسبة لا تضمن تجدد النسل، ولا استقرار السكان على سوية واحدة. ولم يكن هبوط النسل الى المستوى "الاوروبي" هذا نتيجة سياسة تنظيم ارادي، على خلاف الصين، بل استجاب عوامل تلقائية مثل ازمة السكن الناجمة عن النزوح من الريف الى المدن، وأزمة العمل، والتضخم. وغالباً ما يلابس العزوف الاجتماعي والفردي الاقلاع عن الانجاب، حين لا يصاحبه الاقلاع هذا تحسن في الاحوال المعيشية والخدمات الاجتماعية الاخرى مثل التعليم والصحة. وهذه حال ايران في الفصل الثالث من "ثورتها الشائخة"، على قول محمد رضا جليلي أحد المهاجرين الايرانيين. وتتضافر على ترجيح العزوف قرائن اخرى. ومن هذه القرائن اصابة 7،7 في المئة من الايرانيين الذين تخطوا الخامسة عشرة، باضطرابات عصبية يعالجونها بالعقاقير والأدوية. وهي نسبة لا تتفق وأحوال مجتمع لم تشع فيه الطبابة الكيماوية شيوعاً عريضاً. وفي غضون الاعوام الخمسة الاخيرة فاقت نسبة النساء الفتيات المنتحرات مثيلتها في الصين الشيوعية، وهي المجتمع الذي عرضته التغييرات المتسارعة الى حيازة قصب السبق في هذا الميدان المظلم. وتقر السلطات الايرانية بشيوع الجريمة، والبغاء، وإدمان المخدرات، على نحو غير مسبوق. ومعالجة هذه الأوبئة ترتب اعباء اجتماعية واقتصادية باهظة تزيد تكلفة الأعباء العامة الناجمة عن إحجام السلطة الأوليغارشية عن مباشرة اصلاحات اقتصادية حقيقية. وحين اراد الايرانيون، بين ترئيس خاتمي ولاية ثانية وبين جهرهم عزوفهم، في مناسبة الانتخابات البلدية الاخيرة، الاعلان عما يضطرب في صدورهم وعقولهم، استقبلوا فريق كرة القدم الايراني، العائد من تأهله، استقبالاً "غربياً" خرجت فيه النساء خروجاً رد عليه النظام بفظاظة "أنصار حزب الله". وعندما رسمت السلطات الدوائر الانتخابية رسماً جديداً، في 2001، يناسبها، تظاهر الخراسانيون اياماً، وسقط جرحى في التظاهرات. وكان جزاء دعوة أغاجاري، أستاذ التاريخ، الى اعتقاد فردي ووجداني حكماً قضائياً بالقتل لا يزال بين أخذ ورد. وجُزي عبدي، أحد قادة "طلاب في خط الإمام" في 1979 - 1980، وأحد "أبطال" احتجاز موظفي السفارة الأميركية بطهران، على استفتاء رأي ايجابي في تجديد العلاقات بأميركا، أعوام سجن كثيرة. وفي الحالين كلتيهما تظاهر الطلاب واعتصموا، ولقوا بعض التأييد في "الشارع". ولما ثبت ان هذا كذلك لا يجدي، اشاحوا بنظرهم وتخلوا عن الشأن العام للمحافظين والاصلاحيين، على حد واحد. فهؤلاء وأولئك ينتسبون الى "ولاية" واحدة، يؤولونها على وجوه مختلفة. فلهم "شكل" آخر هو غير "شكل" الناخبين وسائر المواطنين وعامتهم. ومؤدى التخلي تعاظم الاستقطاب والخواء، وثبوت ان "الولاية" تخص "أولياء الأمر" وحدهم، ولا شأن "للرعية" المواطِنة بها. * كاتب لبناني.