نتمنى أن لا تطول استراحة أحمد زكي ويعود إلى شاشة السينما معافى، ونحن نصلي من أجله ومن أجل عطائه الثري. من المؤسف أننا نتحدث عنه في هذه المناسبة وكان ينبغي أن يكون الحديث عنه ومعه في وقت نشاطه لا في وقت استراحته. عندما شاهدت أحمد زكي لأول مرة في مسلسل "طه حسين" قلت أن هذا الرجل ممثل عبقري حقاً، ولأول مرة شعرت أنني أمام ممثل بالمعنى العلمي لا الشكلي للكلمة. بعد هذا المسلسل تألق على شاشة السينما في أدوار كثيرة يصعب حصرها مع مخرجين مصريين أكثرهم من الصف الأول. وعندما شاهدته في تلك الأدوار بقي أحمد زكي في مخيلتي هو طه حسين ودوره في تجسيد شخصية الأديب البصير، حيث تألق بالتفاصيل الإنسانية الصغيرة التي تكوّن بمجموعها الشخصية المتقمصة والتي من دونها نسمي التمثيل والتقمص سطحياً أو خارجياً. وهو الإنسان... أي إنسان، ولذلك فعندما نذهب إلى ذلك الإنسان إلى تلك الشخصية الموجودة المكتوبة ونريد أن نعيد تمثيلها أو إعادة صياغتها لا بد من قراءة تكوينها والعمل على تجسيدها من خلال شخصية الممثل الموجود على المستوى المادي الحاضر أمام الكاميرا. من هنا كانت شخصية أحمد زكي في "طه حسين" متقنة التطابق ومقنعة الأداء تماماً. أحمد زكي موهبة تمثيلية نادرة، واعية، حساسة ومثقفة في إطار قراءة الشخصية وأدائها أمام عدسة الكاميرا. ومن ميزاته ونجاحه في شخصية طه حسين وفي عموم الشخصيات التي تقمصها، بغض النظر عن درجة النجاح، إنه كممثل يمتلك المرونة النادرة، مرونة راقص البالية، مرونة الممثل الذي اجتاز اختبار الرياضة المسرحية بنجاح، وهو أيضاً يستطيع الخروج من سجن الكادر السينمائي، ولكن سجن المخرج العربي كان دائماً قاسياً ما أطاح بكثير من الممثلين المصريين وفي مقدمهم أحمد زكي، بحلاوة وسحر صوته، إضافة إلى مرونة جسمه وهي ميزة يحتاج إليها الممثل. مكونات الممثل الكبير إذاً متوافرة وبغنى في شخصية أحمد زكي، وهو اشتهر كممثل محبوب، لكنه لم يحقق، للأسف الشديد والمر، تألقه كممثل كبير بالمعنى الكامل للكلمة، وعلينا هنا أن نقرأ أسباب عدم صعود نجم أحمد زكي كقمة تقف بالاصطفاف العالي لكلمة الممثل. عندما ننظر إلى غريغوري بيك في فيلم "موبي ديك" مثلاً أو سبنسر تراسي في "الشيخ والبحر" و أنتوني كوين في "أحدب الكنيسة" أو موريس شيفاليه في "جي جي" أو صوفيا لورين في "إمرأتان" و"فتاة النهر" أو جيمس دين في "شرق عدن" أو ليف أولمان في "صرخات وهمسات" أو لسلي كيرون في "غرفة على شكل L أو لورنس أوليفيه في "هاملت" أو كلارك كيبل في "ذهب مع الريح"... والقائمة تطول كثيراً، فإننا نقف أمام عمالقة في عالم التمثيل ونجد الممثل في كل تلك الأدوار، التي لعبها ممثلون كبار، متألقاً مقنعاً وساحراً ونجماً بمعنى التألق الإبداعي الذي تتطابق شهرته مع عطائه. أحمد زكي لا يقل موهبة عن هؤلاء بل قد يفوقهم موهبة، ولكنه لم يتألق إلى مستوى تلك الأدوار ولا تلك الأفلام والسبب واضح وهو أن السينما العربية سينما فقيرة إنتاجياً وفي أدواتها التعبيرية. إنتاج يريد أن يخفض كلفة الفيلم إلى أقل قدر ممكن حتى يحصل المنتج على أكبر مردود ممكن من فائض القيمة، وعين المنتج السينمائي المصري شاخصة فقط نحو صالات السينما في مصر، فالسوق العربية لم تعد سوقاً صالحة للفيلم السينمائي لأسباب كثيرة: منها انعدام الأمن الاجتماعي وركون الناس إلى بيوتهم أمام شاشات الفضائيات وظهور الكثير من المحرمات في الحياة الاجتماعية وعلى شاشة السينما بعد تنامي الحركات الأصولية وسيادة أعرافها في الواقع الاجتماعي والسياسي العربي. والمحرمات الرقابية أصبحت كثيرة وقاسية ليس على المنتج فحسب وإنما على الكاتب وعلى الممثل. أسيجة كثيرة فرضت شروطها على أدوات التعبير السينمائية، فصار المنتج العربي، والمنتج المصري في شكل خاص، ينتج أفلاماً بمواصفات مشروطة مسبقاً، وآفاق كتابة القصة السينمائية صارت محكومة بالضرورة بتلك الشروط القاسية: القبلة محرمة في الفيلم، كأس الخمر تستبدل بكأس عصير البرتقال، مقاسات الفستان تحت الركبة وليس فوقها، الحوار عن الوجود والضجر والمعاناة ينبغي أن لا يصطدم بقوانين الخلق والشرع، المتغير السياسي له مسافة محدودة جداً فلا الأمن ومؤسساته مسموح المساس بها ولا أجهزة الاستخبارات مسموح تسميتها، الحلم ينبغي أن يكون محدوداً، شخصيات القصة يجب ألاّ تتعدى الثلاث لأسباب إنتاجية إذ ان وجود ستة ممثلين نجوم يستنزف موازنة الفيلم العربي التي يمثل المليون دولار حدها الأعلى، وكلما قلّت مواقع التصوير كانت القصة مبعث ارتياح المنتج، فتنوع مواقع التصوير ينهك الموازنة ويزيد من بند المواصلات والإقامة. إذاً، أنت أمام فيلم مكتوب لك مسبقاً من المنتج والرقابة القانونية والرقابة الاجتماعية، وليس من الكاتب، كما أن نظام الإنتاج العربي هو نظام فردي، فلم تتأسس شركات إنتاج على غرار قوانين الإنتاج السينمائي التي سادت في العالم منذ ظهور الفيلم الروائي عام 1917 إذ تأسست شركات عملاقة للإنتاج مترو غولدين ماير، رانك، فوكس القرن العشرين، يونايتد أرتست، كولومبيا... شركات تأسست برساميل كبيرة مدعومة من مصارف عملاقة، فيما المصرف العربي يفضل العقار على السينما في استثمار السيولة النقدية. أحمد زكي كان ضحية هذا الواقع، وكان أمامه خياران: إما أن يكون مقلاً في الإنتاج وهذا سيضعه في ضائقة مالية قد تعقد حياته النجومية ومتطلباتها، أو أن يرضخ لشروط المنتج وبالتالي يعيش معاناة المبدع السجين. وكان أن انعكس هذا على طبيعة شخصيته في كل تفاصيلها التي يعرفها أصدقاؤه أكثر من غيرهم وكان هذا سبباً في إشكالية تعامل المخرج مع الممثل أحمد زكي. لعب أحمد زكي أدواراً كثيرة أقل بكثير من موهبته وفي أفلام موضوعاتها تافهة ولغة تعبيرها هزيلة وضعيفة، وتألق بسبب قوة شخصيته وحضورها على الشاشة، ولكنها غير مرسومة بدقة وضمن أدوات تعبير بائسة على مستوى الرسم بالضوء وبحركة الكاميرا والتشكيل وكل مفردات لغة التعبير السينمائية. لم يعجبني الكثير من الأفلام والأدوار التي لعبها أحمد زكي، وحتى شخصية عبدالناصر التي أعجبت الكثيرين من النقاد لم أنظر إليها بذلك الإعجاب بل وجدتها شخصية مسطحة ومؤداة من الخارج. كان شكل عبد الناصر وليس روحه هو الذي أداه من أحمد زكي، والسبب في تقديري يعود إلى طبيعة الإنتاج السينمائي القائم في مصر الذي يعتمد على ضغط فترة الإنتاج والتصوير إلى أقل عدد ممكن من الأيام وعدم إتاحة الفرصة للممثل لدراسة الشخصية مع نفسه ومع المخرج ومع الممثلين الذين يشاركونه القصة. إن أحمد زكي موهبة نادرة في الأداء وثقافة التمثيل، موهبة عبقرية وفذة كانت وحياته الشخصية ضحية طبيعة الإنتاج السينمائي في مصر التي هي نتاج لطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي العربي. الموهبة العربية تتلاشى في مهب الرياح السياسية ونتائجها الثقافية والاجتماعية، وقراءتي أن أحمد زكي كان يعرف ذلك جيداً. كان لا يفرح لأدواره بل أكاد أجزم أنه كان يبكي عندما يرى نفسه على الشاشة. كان يحلم بأكثر من ذلك بكثير، وهذه هي مقدمة أزماته التي قادته بسرعة نحو سرير الاستراحة. عندما أنظر إلى أحمد زكي كممثل فأنا أنظر إليه كموهبة نادرة كان على أحد المخرجين أن ينتزعها من مكامن الخطر، ولكن من أين يأتي ذلك المخرج المحكوم بشروط الإنتاج السينمائية في مصر والعالم العربي. ولهذا السبب بقينا ننظر إلى أحمد زكي كممثل ونجم عربي موهوب، ولم يظهر على الشاشة كممثل عملاق يتساوى عطاؤه مع قدرته الكامنة العظيمة، وكان هذا ظلم الواقع السياسي والاجتماعي العربي، حيث الفيلم العربي بقي عربياً بالمفهوم المحلي للغة التعبير وعربياً بالمفهوم العلمي للإنتاج السينمائي، ضحاياه الكثير من المواهب العربية وفي مقدمها أحمد زكي! أصلي وبدموع حارة وحارقة من أجل أن يشفى أحمد زكي الممثل العبقري والموهوب حقاً.