الهجمة الضارية على حق العودة تتصاعد كل يوم. وهي، مثل وعد بلفور والصهيونية، تعتمد على الدعم السياسي والمالي الغربي، ولكنها، عكس المثلين السابقين، لن تنجح. والسبب أن الشعب الفلسطيني وعى الدرس، ودافع عن حقه في عودته الى بيته وأرضه طوال نصف قرن أو يزيد، ولم يرفع راية الاستسلام أو يركع، على رغم معاناته الاسطورية. الذين ركعوا واستسلموا هم الذين لم يعانوا ولم يناضلوا، هم الذين استفادوا من الرشوات السياسية والمادية من أوروبا وأميركا، هم الذين أرادوا حل مشاكلهم وتقوية مراكزهم مع الحليفة أميركا على حساب الشعب الفلسطيني. أصحاب مؤامرة البحر الميت، التي يطلق عليها تكريماً مبادرة جنيف، استقبلوا في وزارات الخارجية الأوروبية استقبالاً حاراً، مع أن الاتحاد الأوروبي لم يعطهم الحفاوة نفسها. كتبت الصحف ان رئيساً عربياً طالب الفلسطينيين في منتدى أوروبي بالتخلي عن حق العودة، لتحافظ اسرائيل على طابعها الديموغرافي اليهودي. وكتبت أيضاً ان دولة عربية كبيرة تعمل على صوغ مشروع "خلاّق" لحل مشكلة اللاجئين، أي بتوطينهم في أي مكان غير وطنهم. وطلعت علينا أخيراً منظمة حل النزاعات الدولية، المدعومة مالياً وسياسياً من الغرب، بتكرار اقتراحها القديم بالتخلص من أصحاب الأرض الفلسطينيين، وترك أرضهم خالصة للمهاجرين اليهود اليها. ومقابل هذه الهجمات يقف حوالى 5.5 مليون لاجئ فلسطيني يدافعون باصرار عن حقهم في العودة الى ديارهم، ولن يستطيع أحد منعهم من ذلك، ولن يستطيع أحد نقلهم عنوة الى مكان جديد، وسيقاومون بكل شدة، سواء كانوا في فلسطين أم خارجها في المنفى، أي عملية تنظيف عرقي جديدة، ولو تساقط منهم 100 أو 200، أقروا بالتخلي عن حق العودة، ستبقى الملايين صامدة، مدافعة عن حقها في ديارها. ما السبب؟ السبب ان ارتباط الفلسطيني بأرضه امتد الى أكثر من 15 قرناً ولن يستطيع أحد اقناعه بأن هذه ليست أرضه، وأن موطنه المختار مكان آخر. وتدعمه في ذلك جميع الشرائع الإلهية والقانونية، ومنها الميثاق العالمي لحقوق الانسان والمواثيق الأوروبية والافريقية والاميركية والعربية لحقوق الانسان، ومنها أيضاً قرارات الأممالمتحدة، وأهمها قرار 194، الذي أكدته الأممالمتحدة 135 مرة حتى الآن، ومنها أيضاً حرية الملكية الخاصة التي لا تزول باحتلال أو تغيير سيادة. هذا الأساس الصلب الذي يعتمد عليه حق العودة هو ما يقلق اعداءها. فليس لهم خيار بعد ذلك إلا تثبيط الهمم واشاعة الاحباط، بل المساهمة في تدهور الأحوال الاقتصادية والأمنية، حتى لا يعود للاجئ سبيل الا الاستسلام واسقاط حقه في العودة. ولأن حق العودة غير قابل للتصرف، فهو حق لا يسقط إلا بتخلي صاحبه عنه، وهذا هو هدف الحملة المسعورة على حق العودة الآن. خذ مثلاً مبادرة جنيف سيئة الذكر، على رغم الاستنكار الشديد لها من فئات الشعب الأهلية والرسمية، لا يزال أصحابها ينفقون الأموال لنشر الدعاية عنها. فتحت لهم أبواب الحكومات الغربية وأقاموا في أفخم الفنادق. من دفع نفقات هذا العمل؟ فتحوا مكاتب في غزة ورام الله، ونصبوا فيها خبراء الدعاية، ووزعوا النشرات بالآلاف، وأذاعوا على راديو ف م في فلسطين دعايات وضعها خبراء، تدعو "ام العبد وأبو العبد" الى التعقل والواقعية والاقتناع بأنه ليس في الامكان أبدع مما كان. الا يذكرنا هذا باذاعات الحرب العالمية الثانية، أو اذاعة "الناطور" الاسرائيلية بعد النكبة مباشرة؟ ثم من الذي دفع نفقات هذه الأعمال كلها؟ وأين السلطة الفلسطينية التي تمنع شيكات الأرامل من الوصول اليهن؟ وأين مراقبة صرف الأموال التي تطالب بها أميركا كل بنك عربي؟ هل هذا هو ثمن بيع الوطن العربي في فلسطين؟ خذ مثلاً آخر. مبادرة القمة العربية في بيروت أشارت في ما يتعلق باللاجئين الى التمسك بحق العودة حسب قرار 194 "كما يتفق عليه". ما هو المقصود بالعبارة الأخيرة "يتفق عليه"؟ مع من؟ مع اسرائيل بالطبع. اذا أصدرت المحكمة قراراً بأن يرد السارق ما سرق، وأكدت قرارها أكثر من 100 مرة، فكيف يرضى مالك المسروقات ان يترك للسارق خيار ما يرده من المسروقات، اذا شاء أن يرد شيئاً. ونحن نعلم جيداً أن السارق لن يرد شيئاً إذ أن مبدأه الأساس أن يسرق الأرض العربية ولا يردها. ألا يفرغ هذا النص المعترض قرار 194 من محتواه؟ هل ادراج هذا النص سهو أم سوء تدبير؟ مهما كان التفسير، فإن صحف اسرائيل هللت به وأشادت بإسقاط القمة العربية لحق العودة، وأنكرت على وزير فلسطيني له دور في ذلك تصريحه في لبنان بأن حق العودة الى يافا وحيفا مصان. والآن يقولون لنا ان حلاً "خلاقاً" لمشكلة اللاجئين سيقدم الى القمة العربية المنوي عقدها الشهر المقبل في تونس مع انه لم يتفق بعد على الزمان أو المكان. وعندما يسمع الفلسطينيون كلمة "حل خلاّق" وليس حلاً قانونياً أو عادلاً، فإنهم يدركون ان هناك "طبخة" جديدة. ولا يحتاج العالم الى "خلق" أي حلول. فالقرارات المبنية على القانون الدولي متراكمة وكاملة وسليمة ومفصلة، ولا تحتاج الا الى التنفيذ، كما حدث في كوسوفا والبوسنة وتيمور الشرقية ورواندا وغيرها. كلمة "حل خلاق" تعني خداعاً جديداً، مثل حل طابا، الذي هللوا له، لأنه يعطي الفلسطينيين خمسة خيارات، لا واحداً. وعندما نفحص تفاصيل هذا الكرم الزائد، نجد أن أربعة خيارات منها تعني اختيار الفلسطيني لعنوان منفاه الجديد. وأن الخيار الخامس، العودة الى الوطن، هو خيار رمزي لذر الرماد في العيون، وليست له قيمة عملية، وان الموضوع برمته ليست له علاقة على الاطلاق بقرار 194 ولا بالقانون الدولي. بل ان هذا الحل الخلاق مصمم أساساً على مخالفة القانون الدولي واسقاط حق العودة، وهذه الدعوة اليه هي جريمة حرب. والتفسير بسيط. ان طرد الأهالي من ديارهم أثناء الحرب هو عملية تنظيف عرقي، وهذه جريمة حرب، حسب اتفاقية لاهاي 1907 وجنيف 1949 وروما 1998. وان منع عودة اللاجئين بعد انتهاء القتال هو جريمة حرب أيضاً. وان تكريس التنظيف العرقي بالدعوة الى الاستمرار فيه أو توسيع نطاقه الى أماكن أخرى، أو التحريض عليه، أو الدعوة له بالقول أو الفعل هو جريمة حرب ايضاً. ولزيادة الايضاح، فإن تحقيق عودة اللاجئ يكون بعودته الى بيته الذي أُخرج منه هو أو عائلته، وليس الى أي مكان آخر حتى ولو في فلسطين، وهذا ما جاء في نص المذكرة التفسيرية لقرار 194. ولذلك فإن لا مجال للمقايضة بين قيام الدولة الفلسطينية وحق العودة. فقيام الدولة عمل سياسي ينطوي على بسط السيادة على رقعة من الأرض يصبح ساكنوها مواطنين في الدولة، ويجوز أن يُنقض هذا العمل أو يتسع حسب الاتفاق الدولي. أما حق العودة فهو غير قابل للتصرف ولا تجوز فيه المفاوضة، وينطبق على بيت اللاجئ وأرضه التي أخرج منها، بغض النظر عن السيادة القائمة على ذلك المكان. وهذا مثال آخر على مهاجمة حق العودة. أصدرت "منظمة حل النزاعات الدولية" ICG تقريراً في 5 شباط فبراير 2004 عن اللاجئين الفلسطينيين، تدعو فيه الى تكريس التنظيف العرقي بتوطين اللاجئين في أماكن لجوئهم الحالي أو في أماكن جديدة. وهذه المنظمة انشئت في النصف الثاني من عقد التسعينات، وهي ممولة تمويلاً جيداً من الحكومات الأوروبية وأميركا عن طريق الممول الهنجاري اليهودي الأميركي جورج سورس وامبراطور برامج الحاسوب ميكروسوفت بيل غيتس. ولها مكاتب في عواصم عدة منها عمّان، ومقرها الرسمي بروكسيل. وتحتوي قائمة مجلس أمنائها على أسماء شخصيات ديبلوماسية وسياسية كبيرة، غالبها خارج الوظيفة، ويرأسها مارتي اهيتساري، رئيس فنلندا السابق، ومديرها التنفيذي الفعال هو جاريث ايفانز وزير خارجية استراليا السابق. اذن نحن أمام منظمة مهمة، مدعومة بالمال الغربي، وأخذاً في الاعتبار اعضاء مجلس امنائها، لها رصيد هائل في القانون الدولي، الذي نتوقع أن تعتمده الاسلوب الوحيد السليم لحل النزاعات. وفي صيف 2003 قامت المنظمة من خلال أجهزتها في عمان بمقابلة العديد من الفعاليات النشطة في مجال حقوق اللاجئين. ونتوقع بعد ذلك أن يكون تقريرها صدى لآراء هؤلاء اللاجئين، وتسجيلاً صادقاً لما يتطلعون إليه من تنفيذ حقوقهم المعترف بها دولياً. لكن المفاجأة أن هذا التقرير الجديد قد ضرب عرض الحائط بحقوق اللاجئين، ولم يأخذ في اعتباره ما قالوه إلا من حيث أنهم "جوهر النزاع"، ولكنهم مشرذمون لا يؤثر رأيهم في الأحداث السياسية !. وكرر التقرير ما جاءه في التقرير السابق عام 2002 عن اللاجئين، والذي يدعو إلى تكريس التنظيف العرقي بتوطين اللاجئين في أي مكان من العالم، عدا وطنهم. والدرس الذي نتعلمه من ذلك، أنه على رغم الاطلاع الواضح على آراء اللاجئين، سواء كانت ممثلة للمجموع أم لا، فإن توصيات هذه المنظمة في تقريرها، تجاهلت آراء اللاجئين، وتجاهلت حقوقهم حسب القانون الدولي، واختارت أن تنحاز إلى الموقف الإسرائيلي، الذي دعا إليه شلومو جازيت مدير الاستخبارات الإسرائيلية العسكرية السابق، ودعت إليه المحامية الأميركية اليهودية الروسية الأصل دونا آرزت، بالتخلص من اللاجئين الفلسطينيين، وإبعادهم أبعد ما يمكن عن وطنهم. وهذا الموقف غير المتوقع من منظمة لها وزن ديبلوماسي ومالي كبير، يتناقض كلية مع موقف برلماني آخر، له وزنه التمثيلي الكبير. في صيف عام 2000 قامت بعثة تمثل اللجنة البرلمانية المشتركة عن الشرق الأوسط في البرلمان البريطاني بزيارة مخيمات اللاجئين في الضفة وغزة والأردن ولبنان وسورية، لتقصي الحقائق ومعرفة آراء اللاجئين، وسجلت مئات الساعات من شهاداتهم، وخرجت بالتوصية المتوقعة أنه، لارساء قواعد السلام في الشرق الأوسط، لا بد من تطبيق القانون الدولي في شأن حق العودة. ويحق لنا السؤال هنا: إذا كانت اللجنة البرلمانية اطلعت على آراء اللاجئين بشكل موسع، وخرجت بهذه النتيجة، فلماذا خرجت "منظمة حل النزاعات" بتوصية أخرى، لا علاقة لها بآراء اللاجئين، ولا بحقوقهم المعترف بها قانوناً؟ هل لأن لديها أجندة خاصة تصب في مصلحة إسرائيل؟ وقد فشل كل دعاة اسقاط حق العودة فشلاً ذريعاً في بيان السبب في ذلك، أو المبرر له. لم يستطع أحد منهم بيان أي خلل في القانون الدولي الذي يدعم حق العودة. والذين اتخذوا من "الواقعية" غطاء، لم يستطع أحدهم نقض الحقائق الآتية: أن 80 في المئة من اليعود يعيشون في 15 في المئة من مساحة إسرائيل، وأن ارض اللاجئين لا تزال خالية إلا من مواقع الكيبوتس المفلس ومعسكرات الجيش، وان 92 في المئة من إسرائيل أرض تسميها "أرض دولة" وهي في الواقع ملك للفلسطينيين، وانه لا يمكن أن يكون اليهود غالبية في فلسطين على المدى المتوسط والبعيد إلا بإبادة الفلسطينيين، وانه لا يوجد سبب سكاني أو جغرافي أو قانوني أو اقتصادي يمنع عودة اللاجئين. وان السبب الوحيد لمنع عودة اللاجئين هو المحافظة على إسرائيل ككيان عنصري الوحيد في العالم اليوم، والذي شجبت الأممالمتحدة ولجانها المتعددة قوانينه العنصرية. فهل تقف أوروبا ومنظماتها بجانب العنصرية في إسرائيل، كما وقف بعضها بجانب جنوب افريقيا العنصرية؟ وهل يقف سياسي أوروبي بجانب التنظيف العرقي الذي تمارسه في إسرائيل؟ إن كان الأمر كذلك، فليقولوه بوضوح، ولا يحاولوا خداعنا بأساليب ديبلوماسية. وهل تقف الفئة الضالة، التي تدعو إلى اتفاقية جنيف، مع إسرائيل في تكريس التنظيف العرقي؟ فليقولوا ذلك علناً. وهل تقف مع هؤلاء بعض المبادرات العربية تحت عنوان "حلول خلاقة" عن علم أو سهو أو سوء تدبير؟ إن كانت هذه هي الحال، فإننا مقبلون على نكبة جديدة. وبالمقابل، هناك ما يقرب من ستة ملايين لاجئ من أصل عشرة ملايين فلسطيني ووراءهم عدد كبير من الشعوب العربية والإسلامية والأوروبية المستنيرة، وسيقفون جميعاً بالمرصاد لمحاولات عمليات تنظيف عرقي جديدة أو نكبة جديدة أو محرقة جديدة. * المنسق العام لمؤتمر حق العودة.