ما الكاتب اياً كان حقل اهتمامه، وزاوية نظره، سوى انه حامل افكار وسليل موهبة وملكة، وصاحب اسلوب ودربة؟ هذا التعريف البسيط لا يلقى قبولاً لدى جمهرة من كاتبين، يزداد عددهم في الصحافات العربية المشرقية، اذ يصطدم هذا التعريف بتطلعهم غير المكبوت الى التمتع بصفات تسمو على صفات الكاتب "العادي"، الذي لا يتوفر سوى على ذخيرته وموهبته ككاتب، فيتقدمون في مقالاتهم الى قرائهم، مجيبين عن اسئلة مفترضة، طرحها سائلون كثر مفترضون. ومن "الطبيعي" والحال هذه، ان تتم الاجابة بعبارات مثل: في رأيي، وانني اعتقد، مما يؤلمني، كنت اتمنى، بالنسبة إلي، لا ادري... ولكنني، وعشرات العبارات المتشابهة التي يتأخر فيها الموضوع، وتتقدم ذات الكاتب كتقدم العربة على الحصان، او يستمد الموضوع اهميته وجوباً من اهمية الكاتب نفسه، ذاتاً واسماً. وبدلاً من اكتفاء الكاتب بمهمته الموقوفة وهي بسط افكاره، ونسج رؤاه وصوغ مقاربته وحتى التعبير عن مشاعره اذا شاء، فإنه يعمد عبر صيغة ضمير المتكلم، الى اداء دور آخر وهو دور من يطلق التصريحات، فيقفز الكاتب السياسي مثلاً وبرشاقة عن صفته هذه، ويغدو سياسياً كالساسة الآخرين، بل انه يبز هؤلاء اذ ان صحيفة او اكثر تسارع الى نشر "تصريحاته" على هيئة مقالات، وهو ما لا يتسنى دائماً لأهل السياسة وأربابها. ويتواضع آخرون، فيتقدم احدهم بنبرة تشي بكونه صاحب تجربة قد تكون قصيرة لكنها عريضة في حقل الكتابة، ومن حق قارئه ان يتمتع بثمرات تجربته وخبرته، فيندفع لتدبيج سلسلة لا تنتهي من المقالات والشهادات غير المطلوبة بالضرورة. علماً انه يمكن التعبير عن التجربة بتجريدها من الحضور الشخصي ومن دون استخدام ضمير المتكلم. ويحدث حقاً، ان تفضي تجربة طويلة وحافلة بصاحبها وبما يتعدى حرفة الكتابة، الى التأريخ وخوض المعترك السياسي مثلاً، الى ان يكتب بضمير المتكلم، عن سلسلة وقائع ممتدة وفاصلة خبرها وعاشها، وبما يجعل كتابته اقرب الى السيرة. كما يحدث في ظروف بعينها، ان يتقدم كاتب بناء على طلب غيره بالكتابة بشهادته عن تجربته، على منبر ما وفي مناسبة ما. اما ان يلجأ كاتب في جميع الاحوال والمقامات، على التذكير باعتقاده الخاص ورأيه الشخصي، في جميع القضايا والشؤون والمسائل، فإنه يبدو في الحال هذه، كمن يتوسل الكتابة من اجل تظهير صوته وهواجسه ومطامحه، لا بغرض ان يعرض افكاراً واجتهادات وتأملات، تعين القارئ على فهم ما يلتبس من شؤون الحياة والفكر. وبما ان القارئ مجهول وبعيد، لا هيئة ولا سمت ولا اسم له، وليس في وسعه الادلاء بأي رد او تعقيب فوري عما يقرأ، فمن العدل والعقل ان يبادل الكاتب غياب قارئه، بقدر من الدماثة: بالتنحي وإنكار الذات، لمصلحة الفكرة المطروحة واتساق الرؤية المجلوة، مما يفترض ان تجمعا بين القارئ والكاتب، وواسطة العقد الآني بينهما. والخشية ان يكون النازع الغلاب الى النجومية، والى الشعبية الفورية ومن اقصر الطرق، هما ما يحدوان ببعض الكتاب الى صوغ مقالاتهم، بضمير المتكلم وبطريقة الادلاء بتصريحات تداهم القارئ، وتضعه وجهاً لوجه امام اسم الكاتب. وقد تحقق هذه الطريقة احياناً نجومية ما لصاحبها، لكنها لا تجعل منه كاتباً. * كاتب أردني.