في النظام الديموقراطي وحده يتعايش المختلفون في الاتجاه والموقف والرأي حتى إذا اشتدت الخلافات بينهم وبلغت أعلى ذروة لها. والنظام الديموقراطي ليس مجرد برلمان وانتخابات وصحف. إنه قبل ذلك وبعده ثقافة تجعل التعايش بين المختلفين أمرا طبيعيا. وفي غياب مثل هذه الثقافة يكون سهلا أن ينزع المرء إلى شطب من يختلف معه وإقصائه أو استبعاده من الساحة السياسية. ولذلك لم تكن مفاجئة ولا مدهشة الأزمة التي احتدمت في إيران أخيرا عقب قرار مجلس صيانة الدستور استبعاد أكثر من ثلث المرشحين للانتخابات البرلمانية الجديدة. فما هذه الأزمة إلا امتداد أكثر حدة للاحتقان الذي يعانيه النظام السياسي الإيراني منذ أن اضطرت الحلقة الضيقة التي تمسك بزمامه إلى تشغيل بعض الآليات الديموقراطية التي لا تنسجم مع بنيته الشمولية. فبعد أن أقصت هذه النخبة معارضيها المطالبين بتغيير جوهري في أسس النظام وجدت أن المصلحة تقتضي احتواء الخلافات المحدودة في داخله واستيعاب الراغبين في تغيير جزئي أو إصلاح يمس التفاصيل لا الجوهر خصوصا أنه كان فى أوساطها من يميلون إلى مثل هذا الإصلاح. وأدى ذلك إلى تبلور اتجاه إصلاحي يتمتع بقبول واسع في المجتمع ولكنه لا يمتلك إلا القليل من السلطة فيما احتفظت لجنة الحكم العليا المحافظة بمفاتيح القوة والنفوذ. ولم يكن سهلاً أن يتعايش الاتجاهان اللذان أخذت الفجوة بينهما تتسع لأنها لم تقتصر على خلاف سياسي بل انطوت على تباين في شأن القضايا الاجتماعية والثقافية والدينية. لقد تجاور الاتجاهان ولم يتعايشا. وكان في جيرتهما هذه قلق ونفور فاضطراب فاحتقان أفضى إلى أزمة شطب المرشحين الإصلاحيين في اللحظة التي شعر فيها المحافظون بأن الزمام بدأ يفلت من أيديهم. والمثير للانتباه هنا هو أن هذا الشعور الذي حرك النخبة المحافظة باتجاه خوض معركة "كسر عظم" ضد الإصلاحيين اقترن بتطورات على صعيد السياسة الخارجية دولياً وإقليمياً. فقد جاءت هذه المعركة بعد أن نجح الإصلاحيون في إنهاء أزمة التفتيش النووي بطريقتهم التي يمكن أن تمهد لانفتاح إيراني على أميركا وبعد أن خطوا الخطوة قبل الأخيرة على طريق إعادة العلاقات الديبلوماسية مع مصر. فعلى مدى الشهور الأربعة الأخيرة، وخصوصا منذ حسم الخلاف في إيران لمصلحة دعاة الاستجابة إلى طلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في منتصف تشرين الأول أكتوبر الماضي، بدا أن الإصلاحيين صاروا أصحاب اليد العليا في توجيه السياسة الخارجية الإيرانية. صحيح أن هجوم الإقصاء الذي شنه المحافظون ضد الإصلاحيين يعبر عن تراكم الخلافات بين الفريقين تجاه مختلف قضايا الداخل والخارج. ولكن قضايا السياسة الخارجية لم تعد محض خارجية في هذا العصر خصوصا في ظل النزوع المتزايد للإدارة الأميركية الحالية إلى التدخل في شؤون دول عربية وإسلامية عدة. ويفسر ذلك حساسية النخبة المحافظة إزاء حدوث تغيير كبير في السياسة الخارجية الإيرانية في مثل هذه الظروف حتى إذا كان بعض هذا التغيير مفيدا لطهران وعونا لها في مواجهة التدخل الأميركي. وينطبق هذا بصفة خاصة على التغيير الذي يقود إلى إعادة العلاقات مع مصر لأنه يدعم مركز إيران على الصعيد الإقليمي مثلما أدى التحول الذي حدث في العلاقات بين دمشق وأنقرة إلى تقوية موقف سورية على الصعيد نفسه. ولكن يبدو أن عدم ثقة النخبة المحافظة في الإصلاحيين دفعها إلى عرقلة عملية إعادة العلاقات مع مصر في الوقت الذي كانت تعد للهجمة على مرشحيهم. وكان هذا هو نفسه الوقت الذي انتظر فيه الشعبان المصري والإيراني إعلان نبأ عودة العلاقات المقطوعة منذ نحو ربع قرن من الزمن. فقد بدا أن اللقاء الذي عقده الرئيسان حسني مبارك ومحمد خاتمي في جنيف على هامش القمة الدولية للمعلومات في 11 كانون الأول ديسمبر الماضي هو الخطوة قبل الأخيرة باتجاه استئناف هذه العلاقات. كان ذلك اللقاء مبشراً بالفعل أو هكذا بدا بالنسبة إلى مصر التي أصبحت مستعدة تماما لإعادة العلاقات مع إيران ضمن تحركها الإقليمي باتجاه ترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط استباقا للتدخل الأميركي الذي يهدف إلى إعادة رسم خريطتها. ولذلك تعامل مبارك بإيجابية مع طلب خاتمي عقد لقاء معه عقب وصولهما إلى جنيف. لم يلب مبارك الطلب بشكل فوري فقط بل تغاضى عن إعلان خاتمي أن الرئيس المصري هو الذي طلب عقد اللقاء. كان هذا الإعلان مؤشرا على أن أنصار إعادة العلاقات مع مصر مازالوا هم الأضعف موقفا في طهران وإلا ما خشي خاتمي رد فعلهم إذا عرفوا أنه هو المبادر إلى لقاء مبارك. فالقاهرة تعرف من واقع التجارب السابقة أن مثل هذا المؤشر هو نذير سوء يدل على أن الاتجاه الإيراني الأكثر تشددا مازال قادرا على إحباط جهود إعادة العلاقات. ومع ذلك حرص مبارك على إجراء اللقاء بل تطوع لتسهيله عندما ظهرت مشكلة مكان عقده. فقد طلب خاتمي أن يكون اللقاء في "مكان محايد". وكان هذا مؤشرا آخر على ضعف موقفه إزاء المحافظين في طهران. ومع ذلك وافق مبارك الذي كان قد استعد لعقد اللقاء قبيل مغادرته إلى القاهرة. ولكن تبين أنه ليس ثمة "مكان محايد" شاغر في ذلك الوقت. وعندئذ أخذ مبارك المبادرة وقرر أن يذهب إلى خاتمي في مقر إقامته تقديرا لظروفه من ناحية وتأكيدا لحرص مصر على أن تفعل كل ما يمكنها عمله لإعادة العلاقات مع إيران رغم أنها لم تكن هي التي قطعتها. غير أن هذا لا يعني استعداد مصر للتفريط في كرامتها الوطنية وقبول إعادة العلاقات من دون أن تقوم إيران بما يتوجب عليها. فلا تقبل أي دولة أن تكون سفارتها في شارع يحمل اسم قاتل رئيس يعتبر رمزا لها بغض النظر عن تقويم شعب هذه الدولة لسياساته. ولذلك فإن تغيير اسم هذا الشارع وإزالة الجدارية الضخمة التي تحمل صورة القاتل يعتبران من طبائع الأمور في العلاقات بين الدول أكثر مما يعدان شرطاً سياسياً مسبقاً. غير أن الجهد الذي بذله خاتمي فور عودته إلى طهران لم ينجح إلا في تغيير اسم الشارع، فيما أصر غلاة المحافظين على إبقاء الجدارية. فقد بدا لهم أن تقويض عملية إعادة العلاقات في آخر لحظة يعيد إليهم زمام المبادرة الذي تصوروا أن الإصلاحيين انتزعوه في الشهور الأخيرة. وبددوا بذلك الفرصة التي كانت سانحة. لم تعلن مصر شيئا من ذلك حتى لا تحرج الرئيس خاتمي ولكي تبقي الباب مفتوحا في المستقبل رغم أن الهجمة على الإصلاحيين الذين يسعون إلى إعادة العلاقات لا تبشر بخير فقد أضعفتهم أزمة الترشيحات، أو زادتهم ضعفا على ضعف. اكتفى وزير خارجية مصر السيد أحمد ماهر بإعلان أنه يجب عدم التسرع في مسألة العلاقات المصرية - الإيرانية وأن الأمور تسير بشأنها في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك فمن الضروري أن يعرف الجميع حقيقة ما حدث على هذا النحو بعد أن بدأ بعض محترفي مهاجمة السياسة الخارجية المصرية في ترديد أن القاهرة تراجعت عن إعادة العلاقات مع إيران تحت ضغط أميركي!. والحق أن المحافظين في إيران هم الذين أضاعوا فرصة تاريخية ليس فقط لإعادة العلاقات مع مصر ولكن أيضا لتدعيم مركز بلادهم في لحظة شديدة الحرج تشتد فيها المخاطر عليها وعلى المنطقة بكاملها. ففضلا عن أن عودة العلاقات المصرية - الإيرانية تنطوي على أهمية كبرى في حد ذاتها فهي تكتسب دلالة أكبر على الصعيد الإقليمي في هذه اللحظة تحديدا. فالعلاقات المصرية - الإيرانية، مثلها مثل العلاقات السورية - التركية، يمكن أن تسهم حال تحسنها في جعل المنطقة أكثر مناعة إزاء التدخل الخارجي أو حتى أقل قابلية للاختراق بدرجة أو بأخرى. وهكذا يكون المحافظون أصحاب الخطاب الأكثر تشددا ضد السياسة الأميركية قد اتخذوا موقفا يصب في مصلحة هذه السياسة التي لا يخفى أنها كانت قلقة من عودة العلاقات المصرية - الإيرانية. وليست هذه هي المرة الأولى التي يتناقض فيها خطاب وسلوك القوى الأكثر تطرفاً في العالم العربي والإسلامي. فالخطاب حافل بالعداء لأميركا فيما السلوك العملي يضعف قدرة العرب والمسلمين على مواجهتها ويخدم سياستها وييسر لها سبل التدخل والتمركز. ولذلك مر الحدث العراقي من دون أن يستوعب محافظو إيران دروسه الواضحة إلى حد أنها لا تحتاج إلى أدنى مجهود لاستخلاصها. فها هم لم يكتفوا بعرقلة الخطوة الأخيرة على طريق إعادة العلاقات مع مصر بل شنوا هجمة ضارية ضد الإصلاحيين الذين كان دورهم بمثابة صمام الأمان لبلدهم فى السنوات الأخيرة. وبهذه الهجمة ستكون إيران أكثر انكشافا أمام التدخل الأميركي وستظل علاقاتها مع مصر مقطوعة إلى أجل غير مسمى. * كاتب مصري.