المتغيرات في أفغانستان بعد إسقاط حكم طالبان، طرحت اسئلة أساسية، ومربكة أحياناً، على السياسة الايرانية. وفي المقال التالي الذي هو حصيلة زيارة الكاتب الى طهران، تفاصيلُ ما يحمل الى ايران احتمالات الفرص أو المخاطر: وكان عدد من المسؤولين الديبلوماسيين الايرانيين حضر مؤتمراً في لندن قبل شهور، غداة الهجمات على أميركا في 11 أيلول سبتمبر الماضي، وأمكن من الحديث مع بعضهم استشفاف منظور ايران الى أوضاع ما بعد 11 أيلول. ولم يبد أي من المسؤولين تعاطفاً مع تنظيم القاعدة أو قادته، وحرصوا كلهم على التشديد على مسؤولية جهات في باكستان والعالم العربي والغرب عن مساعدة التنظيم على النمو والانطلاق. كما أكد بعض اولئك المسؤولين على أن احداث 11 أيلول تفتح فرصاً لتحقيق اختراق في العلاقات بين ايران والغرب، ليس فقط مع بريطانيا بل الولاياتالمتحدة أيضاً. وركزوا سوية على اعتبار لم يظهر جلياً للغرب، مع انه واضح تماماً في الشرق الأوسط، وهو انتماء "طالبان" و"القاعدة" الى تيار متشدد معاد للشيعة. وارتبط كل هذا بشيء آخر كنت لاحظته في زيارتي الأخيرة الى طهران في أيلول 2000، وهو تنامي نوع من القومية الايرانية الواثقة من نفسها. فقد أبدى الكل اعتزازهم بموقع ايران التاريخي والثقافي والاستراتيجي في غرب آسيا. وأشار بعضهم الى ان ايران، بالتأكيد ومن نواح عدة، ليست في الحقيقة بلداً شرق أوسطياً، مستعيدين بذلك نغمة قديمة في الثقافة الايرانية، أي مقارنة تلك الثقافة بالخراب الذي تركه الاستعمار في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، الذي سبب ولا يزال الكثير من المشكلات. وأبدى الديبلوماسيون الايرانيون استعداداً للاعتراف ببعض الأخطاء في سياسة ايران الخارجية، مثل احتجاز الديبلوماسيين البريطانيين في 1979 والاصرار على انتصار شامل على العراق في 1982 . وألمحوا الى ان جمهورية ايران الاسلامية ربما بالغت في أهمية البعد الأيديولوجي وأيضا في التضامن مع الآخرين، مثل العرب والمسلمين المكافحين ضد الغرب. وقال لي واحد من الديبلوماسيين ان صانعي السياسة الايرانية يعتمدون حالياً مبدأ "المصالح الوطنية"، الجديد على السياسة الخارجية الايرانية. أي أن الأمور في تغير، ويتزايد وعي ايران بمصالحها كدولة تاريخية هي، مع الصين، الأقدم في آسيا. يتصل كل هذا، من دون ارتباط مباشر، مع النقاش الدائر داخل ايران. وأشار واحد من الديبلوماسيين، يرتبط بحكم الميول والعلاقات برئاسة هاشمي رفسنجاني من 1989 الى 1997 أكثر مما بالرئيس محمد خاتمي، الى ان حركة الاصلاح لن تتمكن من حل مشكلات ايران الرئيسة. وقال: "يرتكب الغرب خطأ كبيراً عندما يحاول العمل مع الاصلاحيين. اذ اننا نحن، لا الراديكاليين والاشتراكيين السابقين المنتمين الى حركة الاصلاح، من له المصلحة الأكبر في ما يريده الغرب، أي اقتصاد السوق الحرة". وأكد ان "قضية التغيير السياسي في ايران لا تزال بعيدة من الحسم، ونحن لم نغادر الساحة، وحركة الاصلاح ستستنفد طاقتها عاجلاً أم آجلاً، وسيكون عليكم التعامل معنا". كل هذا بالطبع رأي واحد من بين آراء، لكنه يوضح بعض السمات الأساسية في الوضع الايراني الراهن، ويبين علاقة الوضع بالسياسة الخارجية والموقف من العالم. ففي الدرجة الأولى كان هناك منذ انتخاب الرئيس خاتمي في 1997، تغير مشهود في السياسة الداخلية والوضع الثقافي، انعكس ليس فقط باعادة انتخابه في 2001 بل أيضاً بانتخابات متتابعة، خصوصاً انتخابات المجلس في شباط فبراير 2000 . وتجمع كل المؤشرات، الرسمي منها وغير الرسمي، على ان هناك غالبية ساحقة تريد التغيير، وان تلك الارادة لا تقل قوة في مدن الأقاليم وقراها عنها في طهران، ولم تنل منها خيبات الأمل المتوالية في السنين الخمس الأخيرة. في المقابل فإن الفئات ذات العلاقة بالسلطة بقيت مقسمة، على الأقل الى ثلاثة تيارات أو معسكرات مع الكثير من التضارب والفوضى في كل منها. فهناك، في الطرف الاصلاحي، "حركة 2 خرداد" بقيادة الرئيس خاتمي، التي تنادي باصلاحات عريضة وإن كانت أحياناً غامضة، مع قدر أكبر من حرية التعبير ودور أقوى للمجلس وحوار مع الغرب، ان لم يكن التفاهم معه، وسياسة خارجية أكثر حذراً. يقابل هذه على الجانب المحافظ "ائتلاف الروابط الاسلامية" الذي يقوده روحياً، ان لم يكن تنظيمياً، المرشد الأعلى آية الله خامنئي. وهناك بين الاثنين تجمع "خدم البناء" بقيادة رئيس الجمهورية السابق هاشمي رفسنجاني. ولكل من هذه المعسكرات موقعه في الدولة، وهو الوضع الذي نجم عن الانقسامات التي رافقت المرحلة الثورية لنا ان نتذكر التعليق الغاضب من رئيس الوزراء الراحل مهدي بزركان بأن ايران "بلد الألف زعيم". وقد كرّس الدستور الايراني هذا التشرذم في الحياة السياسية. هكذا نجد مع انتخاب خاتمي للرئاسة استمرار سيطرة المرشد الروحي على الجهاز القضائي والقوات المسلحة، فيما يحتفظ الرئيس السابق رفسنجاني بنفوذ كبير باعتباره رئيساً لمجلس تشخيص مصلحة النظام، الهيئة ذات الصلاحيات الواسعة في مجالي الدستور وصنع القرار السياسي. ولاحظ احد الباحثين محقاً ان ايران دولة بثلاثة رؤساء، لكل منهم تابعوه. هناك اذاً في ايران تباين وانقسام من حيث السلطة والرأي والمصالح. لكن هذا يختلف عن الوضع في الدول الشيوعية سابقاً أو بعض الدول في الشرق الأوسط، حيث الانقسام بين النخبة التسلطية الحاكمة وبقية الشعب، بل هو انقسام يخترق الدولة نفسها، ويتوافق مع انقسام في الرأي العام. وهو ما يعقد الى حد كبير اي تحليل للسياسة الخارجية أو عملية صوغها. ففي الدرجة الأولى يؤدي الصراع بين الأطراف الى اقلاق الوضع الداخلي ويؤثر في كل نواحي الحياة. وشهدنا في الآونة الأخيرة تفوق آية الله خامنئي وسجن عدد من الصحافيين والسياسيين، فيما أكد اليمين عزمه على استخدام القانون والجهاز القضائي بكل ما امكن من قوة لاسكات المعارضين. وقد تم بالفعل الى حد كبير اسكات الصحافة الليبرالية بعد الدور الشجاع والرائد الذي قامت به منذ 1997. وستشهد الشهور المقبلة عدداً من المحاكمات العلنية التي يتوقع منها أن تكشف الكثير. وبدأت بالفعل أوائل الأسبوع الماضي محاكمة شهرام جزائري، رجل الاعمال في الثلاثينات من العمر، في قضية تلمح أوساط الاستخبارات الايرانية الى انها ستفضح تقاضي الرشاوى من جانب اثنين من قادة "2 خرداد" وأيضاً تمويل الصحافة الليبرالية من الغرب، خصوصاً الولاياتالمتحدة. وليس من المستحيل ان نشهد استقالة المجلس أو حلّه، والضغط على الرئيس خاتمي لكي يستقيل. لكن، اذا كانت غالبية السكان تريد التغيير فإن "حركة 2 خرداد" تعاني نقاط ضعف كثيرة، أهمها الافتقار الى استراتيجية واضحة تجاه عدد من القضايا، من بينها الاقتصاد، اضافة الى افتقارها الى قيادة منظمة. كما ان من الخطأ التقليل من عزم أو حنكة قوى المحافظين. ذلك ان الجهاز الكهنوتي - الأمني يدرك أن أساس قوته السيطرة على القوات المسلحة والجهاز القضائي، اضافة الى الافادة من أموال النفط، وهو مصمم وقادر على الحفاظ على هذه المصالح. وللمحافظين أيضاً نقطة تفوّق اخرى برهنوا عليها منذ الثمانينات، وهي استعدادهم ليس لاستعمال القضاء ضد معارضيهم بل العنف أيضاً، فيما يفضل الاصلاحيون، بعد عشرين سنة من القمع الداخلي والحرب والارهاب الذي يمارسه المعارضون المتطرفون، سلوك الطريق السلمي الدستوري نحو التغيير، وهو ما يعبرون عنه بشعار "الهدوء". في الاثناء يبقى مفتوحاً السؤال الذي يشغل الكثيرين في طهران، عمّا اذا كان الجمود الحالي سيستمر أم ان التحدي للجهاز الديني - الأمني سيظهر على مستوى الشارع. هناك الكثير من التكهن حالياً عن محاولات غربية للتأثير في العملية السياسية في ايران، مثل دعم الأميركيين لمحمد رضا بهلوي الثاني، نجل الشاه الراحل، الذي يطمح الى لعب دور "خوان كارلوس" الايراني، والاتهام الى البريطانيين، نتيجة رغبتهم في توسيع التعامل التجاري، بالتواطؤ مع طبقة "البازاريين" المحافظة. لكن ليس لكل هذا حتى الآن أهمية تذكر. ما يعنيه كل هذا لصوغ السياسة الخارجية الايرانية، من ضمنها طبيعة التجاوب الايراني مع 11 أيلول، يمكن طرحه في الشكل الآتي: أولاً، ان هناك دعماً عاماً للتخفيف من التوتر مع بقية العالم، لكن، ليس هناك مركز واضح لصنع السياسة الخارجية وتنفيذها. ذلك ان القرار يتم من خلال عدد من المراكز، أي الرئيس والمجلس والقوات المسلحة والمرشد الروحي الأعلى، ولكل منها تمثيلها في "مجلس الأمن الوطني" وهو المركز الرسمي لاتخاذ القرار. ثانياً، ليس هناك في الوضع الحالي ترابط واضح بين السياسات الداخلية والخارجية. فعلى سبيل المثال يمكن القول ان معسكر رفسنجاني يبدو أكثر تحمساً من الاصلاحيين لتوسيع العلاقات الاقتصادية مع الأطراف الخارجية، خصوصاً في مجال التنقيب عن النفط والغاز. فيما ينادي الرئيس خاتمي ب"حوار الحضارات"، لكنه في الوقت نفسه قومي ايراني وسبق له معارضة التعامل مع منظمات انسانية غير حكومية مثل "أمنستي انترناشنال". واذ ترفع كل الأطراف لواء آية الله روح الله الخميني فإن كلامه، مثلما لدى كل عظام المفكرين التاريخيين، يحتمل أوجهاً عدة من التأويل. من هنا يؤكد المحافظون نصرة كفاح المسلمين حيثما وجد، خصوصاً في فلسطين، فيما يكرر الآخرون مقولته - وهي نفسها تحتمل الكثير من التأويل - في أن ايران "أمة عظيمة". وفي ما يخص أميركا يرفض المحافظون أي علاقات مباشرة ويرفعون سياسة "الغرب عدا أميركا"، بينما يؤيد الآخرون التفاوض على التطبيع. لكن، اذا وضعنا جانباً قضايا الاستراتيجية والعلاقات الدولية فإن الترابط بين السياسة الخارجية والوضع الداخلي يتجسد بالطبع في القضية الأهم بالنسبة الى كل الايرانيين، أي الاقتصاد. واذا كان التطبيع مع العالم والغاء العقوبات لن يقودا تلقائياً الى حل كل مشكلات ايران فان لهما من دون شك تأثيراً كبيراً على الصعيد المادي، والأهم من ذلك، المعنوي. ويعني الفشل في التوصل الى حل للعلاقات مع الغرب واستمرار العقوبات الأميركية - من خلال "قانون العقوبات على ايران وليبيا" الذي جدده الرئيس جورج بوش في آب أغسطس الماضي - بقاء اقتصاد ايران على ضعفه الحالي. وربما كان لهذا تأثير سلبي في الرئيس الاصلاحي خاتمي أكثر مما في الأطراف الأخرى. ان عقداً من "الاحتواء المزدوج" أوصلنا الى المفارقة الحالية حيث نجد الولاياتالمتحدة تحظر استيراد النفط من ايران فيما أصبح العراق واحداً من أهم مصادر النفط لأسواق أميركا. ما تقدم هو الخلفية التي تمكننا من النظر الى سياسة ايران الخارجية قبل 11 أيلول وبعده. واذا كان لنا ان نبدأ بالجانب الايجابي يمكن القول، باختصار، ان السنين منذ 1997 شهدت تحسناً كبيراً في علاقات ايران مع العالم، سواء على الصعيد الاقليمي خصوصاً في العلاقات مع المملكة العربية السعودية ومصر، أو الأوروبي، ليس أقله مع بريطانيا. كما كان هناك بعض التراجع، مهما كان طفيفاً، في التوتر مع الولاياتالمتحدة. وكان هناك اهتمام دولي واسع بالتغيرات الداخلية في ايران، وساهم الرئيس خاتمي نفسه في شكل كبير في تحسين صورة ايران من خلال ادانته الارهاب والدعوة الى الحوار بين الحضارات. ويتكون موقف ايران من الارهاب من اعتبارين كانا مهمين بالنسبة إليها قبل 11 أيلول وتستمر اهميتهما بعده. الاعتبار الأول: التفريق جوهرياً ما بين الارهاب، أي الاستعمال اللاشرعي للقوة من الدول او التنظيمات الثائرة، والاستعمال الشرعي للقوة لصد الغزو والاضطهاد، مثلما بحسب منظور ايران، في عمليات حزب الله في لبنان والمنظمات المسلحة في فلسطين. الاعتبار الثاني: هو ان لايران نفسها تجربة طويلة مع الارهاب الذي تقوم به منظمة "مجاهدي خلق" التي تتخذ بغداد مقراً لها منذ 1986 وتتمتع بتأييد غير مبرر من الغرب. وذهبت ايران شوطاً أبعد إثر 11 أيلول، اذ دانت الهجمات على نيويورك وواشنطن وعرضت بعض انواع المساعدة على التحالف، مثل اغلاق الحدود أمام قوات "القاعدة" والسماح للتحالف باستعمال الموانئ الايرانية لنقل المساعدات الانسانية الى أفغانستان، والاهم من ذلك توجيه "تحالف الشمال" الذي تدعمه الى التعاون مع الحملة العسكرية الأميركية. كما لم تعترض طهران على مواصلة أميركا الحرب خلال شهر رمضان، وشارك ديبلوماسيون ايرانيون، من بينهم سفير طهران في كابول، في مؤتمر بون لتشكيل الحكومة الأفغانية الموقتة. وكانت ايران، مثل روسيا، تأمل في اعادة برهان الدين رباني الى رئاسة أفغانستان على رأس ادارة موقتة، لكنها وافقت في النهاية على تعيين حميد كارزاي، وتعهدت في مؤتمر طوكيو تقديم أكثر من 550 مليون دولار من المساعدات لأفغانستان مقسطة على خمس سنوات، بقيمة 120 مليون دولار للسنة الأولى. كما أوضحت بما لا يقبل الشك أن نداءات "القاعدة" ومنظمات مشابهة للدعم من جانب المسلمين في انحاء العالم لا تلقى آذناً صاغية من ايران، اذ انها تعتبر "القاعدة" منظمة أصولية بخطاب معاد للشيعة، وشاركت بحكم تحالفها مع نظام طالبان في بعض أبشع الممارسات ضد الشيعة الأفغان، خصوصاً الهزارة. أما "طالبان" انفسهم فكانوا موضع احتقار ايران، التي كانت على وشك شن الحرب عليهم في 1998 بعد المجزرة بحق ديبلوماسيين وصحافيين ايرانيين اثر استيلاء "طالبان" على مزار الشريف. واستمر التوجس العميق لدى كل الأطراف في ايران تجاه "طالبان"، حتى بعد بعض التحسن في العلاقات عبر الحدود مع منطقة هيرات الأفغانية. وعلى رغم ان بعض الاصلاحيين المعارضين كان يصف القادة الايرانيين المحافظين بأنهم "طالبان" فان أكثر الجهات حماسة لقتال "الطالبان" كان الحرس الاسلامي. كما ان آية الله الخميني نفسه كان ندد ب "طالبان" معتبراً انهم من "الجاهلية". ولنا ان نذكر ان ايران تحتفظ حبسب معاهدة باريس "الدائمة" مع بريطانيا في 1857 بحق ارسال قواتها الى داخل أفغانستان في حال اختراق حدودها من ذلك الاتجاه. هناك وجه آخر قد يكون بالغ الأهمية للوضع بعد 11 أيلول. فقد ألمحت ايران في شكل غير مباشر ليس فقط الى النظر بعين الرضا الى حملة عسكرية على حدودها الشرقية، أي ضد أفغانستان، بل الغربية أيضاً. أي انها لن تعارض، اذا كان هناك تفاهم مسبق، اطلاق أميركا ما تسميه المرحلة الثانية أو الثالثة من حربها على الارهاب، أي الهجوم على النظام البعثي في العراق. ولايران بالطبع مصلحة أقدم في اطاحة نظام البعث، ودفعت الثمن الأفدح عندما حاولت ذلك، أكثر من أي من الدول الأخرى الهادفة الى القضاء على ذلك النظام. وهناك في ايران ما لا يقل عن عشرة آلاف لاجئ عراقي تلقوا التسليح والتدريب، يمكنهم المشاركة في أي عمل عسكري داخل العراق. هذه، في شكل عام، كانت الرسالة التي اخذها الرئيس خاتمي الى نيويورك عندما زارها أوائل تشرين الثاني نوفمبر الماضي، وكانت متضمنة في التبادلات الديبلوماسية بين الرئيس خاتمي ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، قبل التشديد عليها أكثر خلال زيارتي وزير خارجية بريطانيا جاك سترو الى طهران، وكانتا الأوليين من نوعهما منذ الثورة. لكن هذا ليس الوجه الوحيد للموقف الايراني. فقد كانت هناك تيارات أخرى، واتخذت الأمور مجرى مختلفاً منذ أوائل تشرين الثاني. واذ لم تصل الأمور بعد الى مستوى الأزمة، فان هناك قلقاً عميقاً في طهران وعدد من العواصم الغربية من المعطيات التي برزت اخيراً، والتي يمكن القول انها تتمثل بأربعة أبعاد: البعد الأول والأهم هو تردي العلاقات الايرانية - الأميركية. فقد حاول الطرفان مراراً خلال ادارة الرئيس بيل كلينتون تحسين العلاقات بينهما من دون نتيجة. ولم يبرز الى الآن ما يدل الى تحسن في العلاقات نتيجة احداث 11 أيلول، وخاب أمل ايران في ان الولاياتالمتحدة ستعالج القضايا الأساسية، واهمها العقوبات الأميركية. كما استمرت الادارة الحالية في ادراج ايران على قائمة الدول الراعية للارهاب. واذ لم تمانع ايران في المراحل الأولى من "الحرب على الارهاب" في التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان، فقد أثارت قلقها خطط أميركا للبقاء على المدى البعيد في دول وسط آسيا، وهو ما يخلق وضعاً استراتيجياً جديداً له تداعيات واسعة بالنسبة الى الصينوروسياوايران. كما أدركت ايران، بعد انتعاش آمالها فترة قصيرة، أنها ليست ضرورية لاستراتيجية الولاياتالمتحدة، وانها استهلكت فائدتها بعد نجاح أميركا وحلفائها في حرب أفغانستان. في المقابل لنا أن نضيف قلق واشنطن من سياسات ايران تجاه أفغانستان، اذ ادعت مصادر أميركية أن ايران تقدم السلاح الى بعض فصائل التحالف المعادي ل "طالبان"، خصوصاً الفصيل الذي يقوده اسماعيل خان في هيرات. لكن هذا، على رغم ما يثيره من قلق لدى أميركا، لا يتجاوز أن يكون "بوليصة تأمين" محلية وليس تحدياً لحكومة كارزاي. وتزعم الولاياتالمتحدة اضافة الى ذلك ان عدداً من عناصر القاعدة وجد مأوى في ايران، وهو ما ألمح اليه الرئيس بوش في معرض تحذيره ايران في 11 كانون الثاني يناير: "اذا حاولوا في أي شكل من الأشكال زعزعة الحكومة سيتعامل معهم التحالف، وبالطرق الديبلوماسية في المراحل الأولى". اذا كانت أفغانستان إحدى القضايا التي تثير التوتر في المنطقة، فالقضية الأخرى بالطبع هي فلسطين. وبدا أول الأمر ان الرئيس خاتمي بعد فوزه في 1997 يريد لإيران ان تنأى الى حد ما عن المواجهة وتخفيف حدة الخطاب الايراني تجاهها. لكن جملة من العناصر، من بينها تغير ميزان القوى داخل ايران وانطلاق الانتفاضة الثانية في أيلول 2001، حالت دون ذلك. ويبدي مكتب المرشد الروحي للجمهورية منذ شهور مواقف أكثر تشدداً بكثير، مخالفاً بذلك رأي وزارة الخارجية والرئيس خاتمي. كما ساهم الرئيس السابق رفسنجاني في التصعيد، ربما لأسباب داخلية، من بينها تأكيد دعمه للخط المتشدد، وهدد اسرائيل في خطاب بعد صلاة الجمعة برد ايراني نووي على أي هجوم. وشهدنا في الآونة الأخيرة احتجاز السفينة "كارين أي" التي كانت تحمل شحنة سلاح من ايران. ومهما كانت حقيقة المساعدات المالية والعسكرية التي تقدمها ايران الى المنظمات الفلسطينية المقاتلة، فالمؤكد أن ايران تبدي التزاماً ومساهمة متزايدة تجاه هذه القضية. لكن علينا النظر الى كل هذا في سياق قضية أخطر وأبعد مدى، وهي برنامج ايران لتطوير ونشر الصواريخ وعلاقته بخطط أميركا لاقامة شبكة "الدفاع الصاروخي الوطني". وترى أميركا ان ايران هي إحدى الدول الخطيرة، بل ربما الأخطر، التي تعمل لتطوير القدرة على القيام بهجمات صاروخية على دول حليفة، خصوصاً اسرائيل. واذا كان من المؤكد أن ايران تعمل على تطوير صواريخ متوسطة المدى، وليس استراتيجية مدى الصاروخ "شهاب 3" 800 ميل، فهي تقوم بذلك لضمان الطريق الأكثر فاعلية للدفاع عن النفس في محيطها الاقليمي المملوء بالأخطار، لأنها لا تملك ما يكفي من المال أو المهارات لتطوير نظام دفاعي يقوم في الدرجة الأولى على السلاح الجوي. ولا ترى ايران أساساً اخلاقياً لمطالبتها بالتخلي عن أمنها الاستراتيجي في الوقت الذي يسمح المجتمع الدولي لدول اخرى، مثل الهند وباكستان، بتأمين أنفسها. هكذا نجد أننا امام صراع غير قابل للحل يحمل اخطاراً هائلة. وقد لا يتفجر الصراع خلال الشهور المقبلة، لكنه قد يحدث خلال سنوات، مع استمرار تطور البرنامج الايراني وبدء الولاياتالمتحدة، في موعد أبكر من المتوقع قد لا يتجاوز ال2003، بنشر صواريخها المضادة للصورايخ على متن سفنها في الخليج والمحيط الهندي. هناك بالطبع دوما احتمال ان أكثر من دولة شرق أوسطية قد تنفرد بالتصرف ضد ايران. وكالمتوقع، ألقى تردي الوضع داخل ايران وعلى الصعيد الدولي بظلاله على العلاقة بين ايران وأوروبا الغربية. ولم يحن بعد أن نعرف الاتجاه الذي ستأخذه الأوضاع، اذ ان المفوضية الأوروبية العامة في بروكسيل لم تستقبل وزير خارجية ايران خرازي بأمل تحسين العلاقات التجارية والديبلوماسية الا في أيلول. وبرزت منذ ذلك الحين مؤشرات الى تحسن العلاقات مع بريطانيا، الا ان تدهور العلاقة مع واشنطن واستمرار المخاوف تجاه الوضع الأفغاني ربما أثرا سلباً في العملية. وتنظر الدول الأوروبية، وليس بريطانيا فقط، الى وضع ايران الداخلي والاستمرار في ملاحقة المعارضين بقلق لا يقل عن قلقها من موقف ايران من الصراع العربي - الاسرائيلي. شهدت الأشهر الأخيرة تقدماً كبيراً وتوسعاً في الحوار، ما يشكل أساساً يمكن البناء عليه لعلاقات ايران بالغرب والدول الاقليمية. والواضح ان هناك رغبة قوية لدى الطرفين لمتابعة التقدم. الا ان توجهات أخرى تبرز الآن وتبدو أقوى ويرجح لها ان تستمر. الغرب عموماً واضح في ما يريده من ايران: انهاء دعمها للارهاب، وتحسين وضع حقوق الانسان، والنقد المسؤول لعملية السلام الاسرائيلية - العربية، وعدم السعي للحصول على السلاح النووي. في المقابل تريد ايران الغاء العقوبات الأميركية والاعتراف بأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية في غرب آسيا، وأيضاً الاعتراف بالتدخل الامبريالي ضد ايران في الماضي. واذا شئنا التحديد أكثر فإن هناك مجالات تشعر ايران ان لها مصالح استراتيجية مشروعة فيها ينبغي على صانعي السياسة الغربية فهمها ومراعاتها: من بين هذه أفغانستان والعراقولبنان والحاجة الى نظام أمني مشترك في الخليج وأيضاً حاجة ايران الى أدوات للردع الاستراتيجي. ومن الممكن تماماً، على الصعيد النظري، تصور تفاهم معقول ودائم على كل هذه القضايا. لكن ليس من الواضح امكان التوصل الى ذلك، أو ادامته في حال التوصل اليه، على أرض الواقع، أخذاً في الاعتبار الوضع السياسي في طهرانوواشنطن، والسياق الاقليمي المتقلب - من كابول الى تل أبيب - الذي تجد ايران نفسها فيه. وعلى رغم خطر اللجوء الى تبسيطات تاريخية فقد يكون من المفيد ان نتذكر المرات الكثيرة في تاريخ ايران الحديث التي بالغ فيها قادة ايرانيون واثقون من شرعيتهم في تقدير امكاناتهم وقامروا على توافر ما يكفي من الزمن للتوصل الى اهدافهم: هؤلاء هم رضا خان في 1941 ومصدق في 1953 والشاه في 1978 والخميني في 1982. وسيكون من المؤسف لايران والشرق الأوسط والعالم عموماً اذا كررت المحاولة الايرانية الرابعة للوصول الى الديموقراطية هذا الخطأ. انه زمن مملوء بالمخاطر، لكنه في الوقت نفسه لا يخلو من فرص. * باحث بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.