الولايات المتحدة لا تستطيع ضبط الأمن في العراق، والحكومة الانتقالية في بغداد فشلت في توفير أبسط الخدمات للمواطنين، والنتيجة ان ايران وسورية متهمتان، الأولى بمحاولة التأثير في الانتخابات، والثانية بدعم التمرد أو الثورة اعتماداً على رأي القارئ وموقفه من العنف المستمر. إذا أُجريت الانتخابات في موعدها قرب نهاية الشهر المقبل، ومن دون تحسن الوضع الأمني عما هو عليه الآن، فالنتيجة لن تحظى بأي صدقية، مع غياب العراقيين السنّة، أو امتناعهم عن المشاركة. والقوات الأميركية احتاجت لاجتياح الفلوجة وقتاً أطول مما احتاجت لإسقاط صدام حسين، ومع ذلك فهناك جيوب مقاومة في الفلوجة، وفي المثلث السنّي كله وخارجه. ونحن لا نحتاج أن نسمع الرئيس فلاديمير بوتين يقول انه"لا يتصور"اجراء الانتخابات، فالوضع العراقي يتحدث عن نفسه. وإذا كان الأمن مسؤولية قوات الاحتلال الأميركية التي تبقى قوات احتلال ولو تغير اسمها بقرار دولي، فإن الخدمات مسؤولية حكومة الدكتور اياد علاوي، وما نرى هو اجهاض القوانين أو اهمالها، وطوابير تنتظر ساعات أمام محطات البنزين، وانقطاع الكهرباء المتكرر لساعات طويلة، ونقص المحروقات للتدفئة في الشتاء، وبطالة عالية، وتردي الخدمات الصحية والاجتماعية. ولا يمكن لأي حكومة هذا سجلها في الحكم أن تأمل في كسب انتخابات. أعتقد ان الدكتور علاوي يريد الانتخابات في موعدها، أو يصرح بذلك، لأن الأميركيين يصرون عليها. وقد لاحظت ان الرئيس غازي الياور يدلي في الخارج، وفي الولاياتالمتحدة تحديداً، بتصريحات تختلف عما يصرح به أو يهمس في بغداد. ولعل الموقف الصريح والصحيح هو ما أبدى السياسي المخضرم عدنان الباجه جي الذي دعا الى تأجيل الانتخابات ثلاثة أشهر أو أربعة. غير ان ادارة بوش ألزمت نفسها بإجراء الانتخابات في موعدها على رغم الفلتان الأمني، وبما انها لن تعترف بالفشل وهي لم تعترف بعد بكذبها في موضوع أسلحة الدمار الشامل فإنها لا بد أن تحمّل سورية وايران المسؤولية. ايران تتدخل فعلاً في الانتخابات العراقية، فهناك غالبية شيعية عراقية اهم ارتباط لها خارج العراق هو مع ايران. غير ان الشيعة في العراق يستطيعون الفوز في أي انتخابات عراقية من دون تدخل ايراني. وقد رأينا قيام التجمع الوطني الموحد برعاية آية الله علي السيستاني، المولود في ايران والذي يتكلم العربية بلكنة ايرانية. والتجمع هذا سيقدم 240 مرشحاً في الانتخابات لمجلس وطني من 275 مقعداً. وفي حين ان هناك ممثلين في التجمع عن غير الشيعة، فإن ثلثي المرشحين من الطائفة، وبينهم 30 من أنصار مقتدى الصدر، و25 من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، و20 من حزب الدعوة، مع قلة تمثل المؤتمر الوطني العراقي وجماعة الفضيلة محمد يعقوبي والتركمان والأكراد الشيعة ومستقلين من الموصل. أعرف ان ايران تدخلت في هذا التشكيل، وفي كل مجال آخر يهم الشيعة، ولكن الوقاحة أن تأتي الولاياتالمتحدة عن بعد عشرة آلاف كيلومتر، وتحتل العراق، وتتدخل في شؤونه، ثم تريد من ايران الجارة ألا تتدخل في شؤون الطائفة المشتركة. الوقاحة الأكبر اتهام سورية، فبعد سقوط الفلوجة اعتقل أكثر من ألف مقاتل، وصرح قائد القوات البرية الأميركية في العراق الجنرال جورج كاسي بأن وُجد بينهم حوالى 15 مقاتلاً أجنبياً فقط، أي 1.5 في المئة. وقد نشرت الصحف كلها، ومنها"الحياة"، التصريح في حينه، وعلقتُ عليه في هذه الزاوية، وزدت قول رئيس الأركان المشتركة الجنرال ريتشارد مايرز ان الخطر الأكبر من رجال النظام السابق. غير ان الفشل الأمني المستمر جعل الولاياتالمتحدة والدكتور علاوي والياور يبحثون عن أعذار يصعب علينا، نحن الذين نعرف المنطقة، تصديقها، فقد يكون هناك بعثيون عراقيون سابقون في سورية، الا ان البعث العراقي كله لن يستطيع جمع ألف دولار في دمشق لتمويل المقاومة، فلا عملات أجنبية في أيدي المواطنين، وليس في تاريخ الأنظمة السورية المتعاقبة كلها مثل واحد على تمويل أي عمل خارجي من أي نوع. ويظل التجاذب على الانتخابات أقل أهمية من خطر حرب أهلية نذرها بيننا. والارهابيون يحاولون جهدهم اشعال فتيل هذه الحرب، فالهجوم على مسجد الحسينية الشيعية في منطقة سنية تبعد مسافة جسر واحد عن الشيعة في الكاظم كان هذا هدفه. واليوم لم يعد العراقيون السنّة آمنين على أنفسهم في الجنوب الشيعي، كما ان الشيعة غير آمنين على أنفسهم في المثلث السنّي. وتواجه جنازات الشيعة التي تمر في اللطيفية السنّية جنوببغداد، في طريقها الى النجف، مضايقات واعتداءات مستمرة. هذا الوضع يقود الى تراكمات خطرة، ففي حين ان أي اعتداء لم يؤد بعد الى انفجار عنف طائفي، فإننا قد نواجه في يوم قريب حادثاً من نوع القشة الأخيرة الخرافية، مما يذكرنا بباص عين الرمانة في بيروت سنة 1975، فهو وحده ما كان يطلق حرباً أهلية لولا التراكمات التي سبقته. في مثل هذا الوضع يقول المنطق أن تؤجل الانتخابات فيما يركز العراقيون كلهم الجهد على دحر الارهاب، أو على الأقل احباط ذلك الجزء منه الذي يحاول اطلاق حرب أهلية يدمر فيها العراق. غير أن تأجيل الانتخابات سيعني انتصاراً للتمرد، أو الارهاب، أو المقاومة، قد يشجعها على مضاعفة الجهد ضد العراق وأهله، قبل الأميركيين. في مثل هذا الوضع الخيار هو بين أهون الشرّين، أي بين سيئ وأسوأ منه، ولعل الأميركيين لا يركبون رأسهم عناداً، وأركان الحكم الانتقالي العراقيين لا يلتزمون الموقف الأميركي بتبعية تؤذيهم مع العراق وأهله.