تختلف رواية نوال السعداوي الجديدة في الأسلوب الفني عن أعمالها السابقة، هي رواية درامية تشكيلية من نوع خاص، لا تعتمد على التسلسل المنطقي أو التدفق الطبيعي لأنها لا تقوم على الأحداث بل على تيار الشعور أي على الأفكار التي تطوف برأس الأبطال، تهتم بالوصف والحركة الخارجية للأماكن والشخصيات، تعتمد على التحليل والغوص في أعماق النفس، الى جانب التميز الواضح للبناء الفني في هذه الرواية والذي ربما كان من أنضج أعمال الكاتبة فنياً... ظهرت شخصياتها النسائية تحمل بعضاً من الضعف الانساني الذي لا تخلو منه الحياة. الرواية خالية من الأحداث العظيمة بالمعنى المعتاد، هي رواية غارقة في حياة ومشاعر أفراد يبحثون عن الحب المستحيل، لكن الكاتبة استطاعت الاحتفاظ بالقارئ من طريق الحبكة. فالمؤلفة تستحضر أبطال روايتها داخل رواية احدى البطلات - هي فتاة شابة فاقدة الهوية - ويتحقق كسر مفهوم وحدة الشخصية، ويلتبس على القارئ تحديد الشخصية هل هي الشخصية الحقيقية - في رواية المؤلفة - أم أنها شخصية من رواية البطلة الشابة، أم من رواية كاتبة ثالثة هي كارمن احدى بطلات الرواية، ويصيب القارئ عدم اليقين تجاه بعض أحداث وشخوص الرواية، مثلما هو الحال في كثير من أمور الحياة التي لا نصل الى حقيقتها، لا تكتفي الكاتبة بالشك على مستوى الشخصيات ولكنها تتجاوزه الى خلط الأزمنة والأمكنة مما يؤدي الى توليد دلالة عامة بالخلط والفوضى. الشخصيات الرئيسية في الرواية هي: 1- كارمن: عاشقة لكتابة الرواية، لم تجد في زوجها رستم مواصفات فتى أحلامها، فانشغلت عنه بالبحث عن رجل آخر لا تكاد تعرفه، رجل يسكن فقط خيالها الروائي. 2- رستم : كاتب روائي في منتصف الخمسين من عمره، يعمل في مؤسسة صحافية كبرى، أحد أعضاء مجلس الشعب، علاقاته النسائية متعددة. 3- سميح: صاحب دار نشر ورثها عن أبيه، تفرغ لها وجعلها مركز اشعاع للأدب والفن، وتخلى عن حلمه في أن يكون روائياً. 4- جمالات: صحافية متوسطة العمر، في الستينات كانت اشتراكية ثم أصبحت من الداعين الى الانفتاح والاسلام، تجمع في شخصيتها كثيراً من التناقضات. 5- مريم الشاعرة: الشعر هو ما يحدد هويتها. انها تبحر في عالم الأدباء المتناقض والمشحون بالسحر والغموض والهموم، تغزو المناطق المجهولة والمتفجرة فيه، تكشف سطوته وضعفه، عشق الكتابة الى حد الهوس، مرارة عجز القلم في بعض الأحيان وما يتبعه من احساس باليأس سرعان ما تمحوه الرغبة المتوقدة لخلق ابداع جديد. تقول المؤلفة على لسان احدى بطلاتها: "لا يمكن لجروحنا أن تلتئم الا بالكتابة، لا شيء يهزم الجنون أو الموت الا الكتابة". تمتد الخطوط في "الرواية" دار الهلال طبعة أولى، ودار الآداب طبعة أخرى لتصل بين النقاط المتناثرة لتتقاطع وتتكامل، وتضع خريطة لأبطالها. فبينما تنتمي جمالات الى الوسط، يتأرجح رستم بين اليسار واليمين، يتنقل سميح ما بين المعارضة والحكومة، تقف كارمن على الحياد، تقول الفن للفن وليس للسياسة، أما مريم الشاعرة فتنشد قصيدة بعنوان "عصر الهزيمة والنفاق". نوال السعداوي من رائدات توظيف الأدب لخدمة الحركة النسوية. "كارمن" زوجة رستم تحب زوجها، لكن يسيطر عليها عشق آخر هو كتابة رواية جديدة، كانت الرواية عندها أهم من الرجل،"كانت... تتطلع نحو الكتابة بشهوة تفوق كل الشهوات" الفتاة مجهولة الهوية - صاحبة الرواية - شاركت كارمن عشق الكتابة. يصفها رستم في أحد مشاهد الرواية قائلاً: "أنت وكارمن نقيضان، لا شيء يجمعكما إلا جنون الكتابة، لا يتسع فراش الواحدة منكما لرجل أو نصف رجل، فالمساحة كلها مشغولة بأوراق الرواية، والأقلام المقصوفة والدموع الجافة، تحتضن كل واحدة منكما روايتها وهي نائمة كأنها رجل تعشقه". وهي تستخدم الموروث الشعبي والعقائد التقليدية والأعراف السائدة لا لتكرسها، بل لتسخر منها وتكشف زيفها، مثلما فعلت في رواية "سقوط الامام"... فيها تختار شخصية الامام الحاكم بكل ما يكتنفها من رياء وخداع وظلم، وتضعه في مواجهة ابنته البريئة التي تمثل الحقيقة، تجعلنا الكاتبة نفحص الأشياء، ولتحقيق هدفها لجأت إلى تشكيل درامي تتسق وطبيعة مادتها من ناحية، وتجسد رؤيتها التحليلية من ناحية أخرى، كما تصل الماضي بالحاضر، وان وصلت الى تلك النتيجة في أحدث أعمالها "الرواية" لكن بأسلوب مختلف. رواية "سقوط الامام" يغلب عليها الطابع الأسطوري، بينما تتميز "الرواية" بالمزج بين الأسلوب الواقعي والتعبيري. السعداوي ترى الأشياء في ضوء علاقتها ببعضها، فيلتحم عندها الطب بالأدب، والأحداث العامة تذوب في الأحداث الخاصة، عندها لا يمكن الفصل بين حياتها الخاصة وحياتها العامة، في سياق ينساب تلقائياً. كما نرى النساء أحياناً في روايتها الجديدة أشبه بمزيج من الضحية والمتهم، مثل شخصية جمالات التي كانت ضحية نزوات أبيها وزوجها، لكنها سرعان ما تحولت الى أداة قهر لفلذة كبدها غير الشرعية، وشخصية سوزي الحبيبة الأولى لسميح، التي جمعت بين القوة الى حد التنمر، وبين الضعف والهزيمة. وترسم المؤلفة في "الرواية" شخصيات مختلفة سواء من النساء أو الرجال. "سميح يختلف عن الفتاة... هو أنيق الشكل والملبس، هي لا تنظر للمرآة، تعيش القلق وعدم الاستقرار، يتمتع هو بالهدوء والراحة... كان رستم أقرب الى فتى أحلامها، جذبها الى رستم ضعفه، تناقضه، تخبطه، تردده، لم يكن مثل سميح قادراً على اخفاء حقيقته...". تنجب الفتاة الشابة طفلة اسمها "نورية" لا تعلم على وجه اليقين من هو أبوها، فليس هذا هو المهم، تمنحها الفتاة اسمها مثلما يفعلون في أسبانيا حيث يسمون الأطفال بأسماء أمهاتهم... تجعل الأديبة من هذه "النورية" الحلم أو الضوء الذي ينير حياة أبطال الرواية... نسمع كارمن تقول في الرواية: "هي طفلتنا نحن الثلاثة أنت الأم الأصلية، وأنا الأم الفرعية، ورستم الأب الأصلي، وان شئت يمكن إضافة سميح... هذه الطفلة محظوظة لها أمان وأبوان". "يولاندا" هي الآخرى تصر على أن "نورية" حفيدتها من ابنها فرانسيسك. الجميع يتشبث بالطفلة وكأنها الحلم المفقود، الهوية الجديدة للانسان. "جاءت نورية على رغم أنف الدنيا وضد ارادة الجميع مثل شعاع الشمس لا تقدر القوى النووية على منعه...". اهتمت الروائية بالشخصيات الثانوية، فمثلاً شخصية "محمد" الغرسون خريج كلية الآداب والحاصل على الماجستير في الأدب العربي المعاصر لم يجد عملاً في تخصصه، مزق شهادته الجامعية، وألقى بها في سلة القمامة.. تفرد له الكاتبة مساحة من الوصف المؤلم، كأنما تضع يدها على الجرح وتضغط... أثارت المؤلفة عدداً من المتناقضات المتبادلة التي طبعت العلاقات المشّكلة للرواية، المتعلقة بفكرة محورية هي "الحب المستحيل" والتي تحققت عبر: كارمن ورستم - الفتاة وسميح - الفتاة ورستم - الفتاة وفرانسيسك، من خلال هذه الثنائيات قامت بتشكيل بطولة مزدوجة. فكارمن والفتاة تشكلان معاً وجهين لعملة واحدة، كذلك رستم وكارمن يجمعان بين التناقض والتمزق، يحاول كل منهما أن يمتص الآخر داخل مشروعه، وهذا يتحقق أيضاً مع كل من سميح والفتاة، وجمالات والفتاة... كانت جمالات نقيض المرأة المبدعة على المستوى المادي والمعنوي، كان رستم وجهها الآخر الذي يصف نفسه قائلاً: "أنا غير مخلوق للكتابة... أنا في الحقيقة غير موهوب... عملوني كاتب كبير بالوراثة... بالواسطة... بالفلوس... وحفلات العشاء والخمرة والنسوان...". تحقق التناقض أيضاً على مستوى الأحلام بين عالم النساء والرجال. تمكنت معظم بطلات الرواية من تحويل أحلامهن الى واقع، بينما فشل الرجال. سميح شغلته أعمال الطباعة والنشر عن حلم حياته في أن يكون روائياً، عمله كان السلسلة الحديد التي تربطه بالماضي، لكنه استسلم. فرانسيسك كانت أحلامه ذكورية مريضة، يري نفسه فناناً مشهوراً مثل سلفادور دالي، يصبح من الأثرياء، تتهافت عليه النساء. تنتهي الرواية بموت الزوجة بعد أن أتمت روايتها، وانتحار الزوج، وموت جمالات، ورحيل سميح في مشهد أقرب للموت، ولا ندري شيئاً عن مريم الشاعرة، كما أن الطفلة "نورية" لا تتحقق عودتها. لا يمكن الجزم اذا كانت أعمال الكاتبة تنتمي الى الرواية أم الشعر أم النثر أو السيرة الذاتية، أو أي شيء آخر من الأجناس الأدبية المعروفة... وربما لا يحق لنا أن نصر على تصنيف ابداعها وتحديده بإطار.