"مهاجر بريسبان" في مطلع الموسم الثقافي على الساحة اللبنانية، بعد عرض سابق خلال مهرجانات بعلبك الصيف المنصرم أقرب الى صفير باخرة في مرفأ بلا مسافرين. فالوعود والمواعيد المسرحية لهذا الموسم لا تشي بما يرسم ابتسامة الرضا على أفواه التوّاقين الى صحوة ثقافية والمسرح في طليعتها علامة لا بدّ منها. مع ذلك كان لا بدّ من"نزول"ذلك المهاجر الى خريف المدينة المنهمكة بفيضانات الشتاء وتدفق"ملايين"وهمية الى شارعها السياسي المقفر، ولو من صفير باخرة أمل يتيمة. ولا بدّ من الشكر علّ النعم تدوم، فمهرجانات بعلبك التي رعت انتاج وتقديم"مهاجر بريسبان"في مدينة الشمس الصيف الفائت، والتي تتهيأ هذا العام للاحتفال بيوبيلها الخمسين، ما زالت، وحدها مستعدة لفعل الشيء الصحيح والمطلوب من أجل المسرح الجدّي في لبنان. ولعلّ ما يلفت في الدرجة الأولى ان عدداً من الجمعيات الخيرية والاجتماعية أظهر حماسة ايجابية لجذب الأعضاء والمناصرين الى مسرح الأونيسكو، مكان العرض. ولكن وما أثقل ولكن أحياناً لماذا سلّمت ادارة المهرجانات المعروفة باهتمامها في تنظيم الاحتفالات الضخمة أمر ترتيب البيت المسرحي الى ضامني الحفلات؟ كان مفروضاً أن تشرف اللجنة على العروض ما قبل الرسمية حفظاً على المستوى الإداري على الأقل، فبعض الجمعيات لا يملك الخبرة الكافية في هذا المجال، وحدثت فوضى في الاستقبال كان من الممكن تفاديها. فنياً، قيل الكثير عن اخراج نبيل الأظن وتمثيل حفنة من زبدة الفنانين المسرحيين في لبنان، إلا أن ما شدّ انتباهنا منذ بداية العرض لعبة اللغة الموفقة جداً كما ترجمها عيسى مخلوف، ذلك ان الصعوبة المركزية في النص الشعري المحتشد بالصور والترميز والتلميح والايحاء، هي تحويله الى حوار حيّ لصيق بالفم والأذن على حدّ سواء. وتنبّه الذين راقبوا النص الفرنسي المنعكس الكترونياً، على يسار الخشبة، الى مدى الدقة والرهافة والاصابة في استنباط المعنى المباشر والكنه المضمر للنص الشعري كما وضعه الشاعر اللبناني بالفرنسية جورج شحادة. بل سمعت من فرانكوفونيين قولهم ان"المهاجر"في هذه الصيغة لمس أعماق وجدانهم بقوة لم يشعروا بها لدى مشاهدة المسرحية على خشبات باريس، بلغتها الأصلية. ماذا فعل عيسى مخلوف كي يحقق هذا الهدف الجميل؟ ليس التنويع على وتري المحكية والفصحى هو الجواب، فعيسى مخلوف لم يخترع هذه الوسيلة، إلا أنه عرف كيف يوظفها في خدمة الدراما توظيفاً ناجحاً لخلق ما يسمى ب"التغريب"و"التقريب"، أي نشر فضاءات متفاوتة من شأنها ايصال الرعشة الشعرية للنص على قدم المساواة مع المادة القصصية للحكاية. وأدّى نجاحه في انتقاء الألفاظ المناسبة لكلّ شخصية الى المساهمة في فرز الملامح المميزة واثراء المعطى الدرامي، أي الذخيرة الجاهزة في متناول يد المخرج. المؤسف ان نبيل الأظن فاته التجاوب المناسب مع ثراء النص في صيغته المخلوفية. صحيح انه صاغ وشكّل عرضاً مغرياً للعين في مجمله ونجحت استعاراته السينمائية في الإضاءة والملابس وترسيم المناخات الصقلية هنا وهناك، غير ان تدميج الصوت والحركة لم يكن كافياً. فلغة الفم إن لم تتوافق حتى الانصهار مع لغة الجسد من شأنها اصابة الأداء بفقر حاد في الصدقية المشهدية: اشارات الأيدي وانفعالات الوجوه وموازين الخطوات ونوعية ردود الفعل البدنية على أنواعها عناصر لصيقة بصوتية النص. صقلّيو نبيل الأظن، من هذا المنطلق، لم يكونوا صقليي الحركة ولا لبنانييها. ولذا جاء مشهد مقتل الدونا ماريا جوليا قصار على يد زوحها الدون باربي غبريال يمين مسحوقاً، بارداً، من الناحية الدرامية. ذلك أن التفاوت بين الصوت والصورة كان واسعاً. كان على الأظن أن يحرر حركة الممثلين على قدم المساواة مع حرية الترجمة فلا تسقط مشهديته في الرتابة والثرثرة أحياناً. يبقى أن أداء الممثلين عموماً جاء ممتازاً عدا الصدع في الحنجرة لدى كميل سلامة، فلم يصل صوته سليماً الى سمع الجمهور، علماً أن دور بيكالوغا، العاطفي، الملتهب والمنطفئ بسرعة مماثلة يتطلب تبليغاً في النبرة افتقر اليها سلامة، لكنه ضبط دوره بحرفية عالية في الحركة والأداء. وتجلّت في الأدوار النسائية رندة الأسمر التي لعبت لورا في نبرة، وإن تكن أعلى من المطلوب أحياناً، إلا أنها كانت ثرية في الزخم العاطفي وطلاوة الأطراف وجاء رقصها المناقض لتشنجها، كما غضبها المغاير لضعفها، بقوة متساوية. أخيراً"مهاجر بريسبان"مسرحية تبرهن مرّة أخرى عن اختزانها طاقات ايحائية بلا حدود، ولم يكن ذلك ليكون لولا الجهد المبذول جماعياً لتقديمها في حلة معاصرة وحساسية بلا شك في ثقافتها ونضوجها.