يأتي كتاب الناقد والروائي السوري نبيل سليمان الجديد"السيرة النصية والمجتمعية: دراسات في الرواية العربية"كتاب الرياض، أشبه برحلة في غابة المتخيل الروائي الكثيفة والمتشابكة، يخوض فيها مغامرة لا تقل خطورة وتشويقاً وصعوبة، عن مغامرة الكتابة الروائية نفسها. رحلة هدفها البحث عن الطاقات الجمالية، في الروايات التي يتناولها، تلك الطاقات التي تظل مستترة وفي حال من الكمون، وما أن يضع يده عليها، حتى تتفجر شظايا تضيء عالم القارئ والناقد معاً. ما يفعله نبيل سليمان في جديده، ليس استهلاكاً لنصوص روائية، لافتة لكثرتها أو تنوع أساليبها وتعدد اتجاهاتها، وانتمائها إلى أقطار عربية عدة، بمقدار ما هو انتاج لنصوص موازية. لا تمتثل عشرات القراءات التي يقدمها الكتاب، لمنهج نقدي بعينه، بل تتحرك بحرية ومرونة نقدية، يمليها منطق النص وقوانينه الداخلية، حيث تكشف عن تنوع وعن اختلاف في زوايا النظر وطرق المعالجة من قراءة إلى أخرى. خبرة نبيل سليمان كروائي وكناقد، واجتماع هاتين الخاصتين في شخصه، مكّنتاه من اقتحام النصوص من دون ارتباك، ومنحتاه القدرة على مراودة مستحيلها الجمالي والرؤيوي، بأدوات نقدية مرنة ومتطورة في آن واحد. فهو يقدم لنا قراءات منفتحة، لا تهدف إلى الاحتواء، قدر ما تسعى إلى إطلاق أو إفشاء أسرار النص، وكشف مكوناته البنائية وإشاعة شواغله وأسئلته الجمالية، فاتحة إمكاناً كبيراً أمامه، ليعيش ويعاد انتاجه مع كل قراءة جديدة. تتلمس مواد الكتاب في درجة أساسية، انبثاقات السيرة وتجلياتها المتوالية، سواء في ما يخص الذات أو النص أو المجتمع. ويشير الناقد سليمان إلى أن السيرة تستثمر الذكريات والاعترافات، وتتوسل سرود اليوميات والمذكرات والرسائل، فيما يقول عن الرواية انها ذلك الفن الذي لا يكاد يعين تخومه حتى ينقضها، مشبها إياها ب"الغول"الذي يلتهم من الفنون والمعارف والأساليب ما يلتهم. توزعت القراءات على قسمين: الأول يتقرى ملامح السيرة النصية في روايات مؤنس الرزاز وغالب هلسا الأردن وصلاح الدين بوجاه ومحمد علي اليوسفي وكمال الزغباني تونس ومحمد الهرادي المغرب وبشير مفتي الجزائر وسحر توفيق ومحمد كامل الخطيب وهيفاء بيطار وخليل صويلح ورجاء طايع سورية وحسين العبري عمان وفيروز التميمي الأردن. فيما يتقرى القسم الثاني السيرة المجتمعية، وهو بدوره ينقسم إلى روايات عينت مجتمعها، وتشمل أعمالاً للميلودي شغموم المغرب والزاوي أمين وإبراهيم السعدي وجيلالي خلاص وسعيد مقدم الجزائر وظافر ناجي تونس وأبكر محمد إسماعيل وأمير تاج اسر وإبراهيم إسحاق إبراهيم السودان وجميل عطيه إبراهيم مصر وعزت الغزاوي وفارس الحاج جمعة ومي جليلي فلسطين وفاضل العزاوي وميسلون هادي العراق وسمر يزبك سورية. ثم روايات لم تعن مجتمعها، وهي لأبي بكر العيادي وعبدالجبار العش تونس وواسيني الأعرج الجزائر وغازي القصيبي السعودية وحسيبة عبدالرحمن سورية. ويفرد الناقد مساحة في القسم الثاني لما سماه"محاولة تأنيث"للسيرة المجتمعية، ويتوقف عند رجاء عالم السعودية، وإيمان حميدان يونس لبنان. وإذا كان النقد العربي قلما عني بالأصوات الجديدة، أو يأتي انتباهه اليها متأخراً، فهو هنا يجعل من البحث عما لدى الأصوات الروائية الجديدة، من طاقات جمالية وتقنيات سردية مغايرة، في مقدم شواغله النقدية. كأن يقوم بتناول الروايات الأولى لعدد من الأسماء، مثل: كمال الزغباني، عبدالجبار العش، خليل صويلح، رجاء طايع، حسين العبري، سعيد مقدم، ظافر ناجي، أبكر محمد، فارس الحاج جمعة، مي جليلي، سمر يزبك، سحر توفيق، حسيبة عبدالرحمن، فيروز التميمي وإيمان حميدان يونس. وفي تناوله مدونة روائية، بلغت ثلاثاً وأربعين رواية، صدر معظمها خلال تسعينات القرن الفائت وبداية القرن الجديد، يضيء نبيل سليمان ويجلي قدراً غير هيِّن من الحراك الجديد للرواية العربية. وإذا كان الناقد قام بتصنيف الأعمال الروائية، وتقسيمها أقساماً عدة، فإن هذه التصنيفات ليست نهائية، ولا ينبغي لها. فسمات اللاتعيين مثلما تبرز لدى كتَّاب مثل أبي بكر العبادي وعبدالجبار العش وواسيني الأعرج وغازي القصيبي وسواهم، فإنها تبرز أيضاً لدى روائي كمؤنس الرزاز، في روايته"متاهات الأعراب في ناطحات السراب"، وقد جاء تصنيفه ضمن روايات القسم الأول:"السيرة النصية"، لأن الجانب السيري هو الراجح في اشتغاله الروائي. الأمر نفسه يمكن تطبيقه على قسم،"محاولة تأنيث"، الذي يمكن تلمس سماته بوضوح في روايتي سمر يزبك ورجاء طايع، وبدرجات أدنى ومتفاوتة في روايتي ميسلون هادي ومي جليلي. لكن الراجح في لعب هذه الروايات هو للسيرة المجتمعية، من دون أن يغيب ذلك ما في هذا اللعب من السيرة الذاتية، ربما باستثناء رواية ميسلون هادي. والسيرة النصية بدورها تتلامح في رواية رجاء عالم، كما تتلامح في رواية عزت العزاوي الخطوات، وفي رواية جميل عطية إبراهيم التي تنادي المؤرخ من مفهوم الرواية، ومثلما تنادي هذا المفهوم رواية صلاح بوجاه صراحة إلى مفهوم الكتاب، ومواربة عبر نقد النقد في رواية حسين العبري. في قسم"السيرة النصية"، يركز الناقد على الرواية، التي تروي سيرة كاتبها أو سيرة وعيها لذاتها، الرواية التي تنكتب وتتكون وتتخلق أمام القارئ، وهو ما يراه تجلياً للحداثة ولما بعد الحداثة، لدى عدد من الروائيين، بخاصة من المغرب، كالميلودي شغموم الأبله والمنسية وياسمين - 1982 وأحمد المديني وردة للوقت المغربي - 1983 ومحمد برادة لعبة النسيان - 1986 وعبدالقادر الشاوي دليل العنفوان - 1989، إلى جانب الأعمال الروائية، موضوع القراءات، وفي مقدمها رواية"الروائيون"للراحل غالب هلسا، وهي تطلق أسئلة الكتابة والقراءة، فتبدو"مكراً بامتياز"، الأمر الذي يصعب معه، وفقاً للناقد، معرفة ما إذا كانت رواية"الروائيون"، هي التي تفكر في نفسها وتعبر عن وعيها لذاتها بانكتابها أمام القارئ، أم هي الروايات التي يكتبها بطلا العمل، إيهاب وتفيدة، داخل الرواية نفسها؟ ومن الملاحظ أن نبيل سليمان يتبنى تعبير"السيرة النصية"، وليس"الميتارواية"، التعبير السائد لدى عدد كبير من النقاد العرب، لتناول ما وصفه باللعب الروائي:"ذلك أننا، إضافة إلى ما هو معلوم من السيرة الذاتية ومن الرواية السيرية، نحن هنا أمام نص سيكتب سيرته، أو يكتب منها. وقد يكون لسيرة صاحبه حضور وفعل فيه، لكن الفعل المؤكد فيه هو للتخييل أولاً وأخيراً". وفي"السيرة المجتمعية"، عنوان القسم الثاني، ينصرف الاهتمام إلى الروايات التي تكتب زمنها الروائي"الذي قد يسبق زمن الكتابة أو يوازيه"، وتمارس حفراً" في البنى والعلاقات الاجتماعية، حيث ينهض بالتخييل فيها، مجتمع روائي:"يتأسس في مجتمع بعينه أو أكثر، بقدر ما يفارقه، فإذا بشخصية روائية تحب أو تقتل أو تتحزب أو تسجن أو تتعهر أو تتملك أو ترقص، كأنها أنا وأنت أو هو أو هي، لكنها أيضاً ليست كذلك".