في محل لعب الأطفال الشهير في حي المهندسين الراقي، وقفت نانو الصغيرة ابنة الأعوام الخمسة تتأمل الرفوف الحافلة بكل جميل من أماني الأطفال وأحلامهم: كراسات تلوين، سيارات سباق، مطابخ بلاستيكية، كرات مطاطية، دراجات كهربائية، والأهم من كل ذلك دمى من كل شكل ولون. تسمرت نانو أمام ركن العرائس غير آبهة بطلب والدتها ضرورة اختيار دمية واحدة، كانت قد وعدتها بشرائها لها في مناسبة انتقالها من الصف الاول حضانة الى الصف الثاني حضانة. أخذت نانو تمسك بهذه الدمية، وتترك تلك حتى تحول الركن الذي كان منسقاً بعناية الى كومة من الدمى الملقاة... هذه دمى"رضيعة"تزحف وتبكي بدموع حقيقية، وتشرب لبناً حقيقياً، وتخرج اشياء أخرى حقيقية ايضاً. وهذه دمى أطفال تقول ماما وبابا وتغلق عينيها وتفتحهما، وهذه دمية مراهقة ممشوقة القوام، ذات أرجل طويلة، وعيون واسعة وأنف قوقازي وفم اشبه بحبة العنب. ومعها كذلك سيارة رياضية، وكلب لولو أبيض يقول"هاو هاو". فقدت الأم الأمل في أن تحسم نانو القضية سريعاً، فاتجهت الى ركن منزوٍ في المحل يحوي حفنة من الدمى السمر، بعضها ذو ملامح افريقية غليظة والبعض الآخر اسمر ذو سمات"مسمسمة"دقيقة. أمسكت إحداها ولوحت بها لنانو قائلة:"ما رأيك في هذه؟ لديك في البيت دمى تتطابق وتلك التي تعبثين بها الآن، هذه مختلفة، هل نشتريها؟". رمقت نانو امها بعينين اختلط فيهما عدم التصديق بالغضب والصدمة..."دمية سمراء"؟! هل جُنت مامي؟ وتظاهرت بأنها لم تسمع شيئاً، وانهمكتا في تحويل المزيد من"باربي"06 جنيهاً و"ساندي"85 جنيهاً و"بيبي بورن"952 جنيهاً وزميلاتهن من على الرفوف الى الكوم الضخم الملقى على الأرض. في البناية نفسها التي يقع فيها بيت نانو، جلست ياسمين التي تصغر نانو بنحو شهرين في القبو حيث تقطن مع والدها بواب العمارة الشاهقة وأمامها صندوق متهالك من الورق المقوى تقبع في قاعه ثلاث دمى مشوهة الاعضاء. هذه تنقصها ذراع، وتلك مفقوءة العين، والثالثة مقطوعة الساق. الدمى الثلاث مصدرها واحد"سوق ليبيا"الدمية الواحدة تباع بما لا يزيد على جنيهين، وجميعها صور ممسوخة ورديئة من باربي: شعر اشقر، عيون زرق، وملامح اوروبية صافية. وعلى"حِجر"ياسمين، استقرت دميتاها المفضلتان الاخريان:"زنوبة"الدمية التي صنعتها لها جدتها في مسقط رأسها في صعيد مصر في زيارتها الاخيرة، وهي عبارة عن وسادة صغيرة، تحددت رأسها وبطنها، وقدمها ويداها بخيوط تمت حياكتها بدقة، والثانية"نوسة"وهي الدمية"باربي"الاصلية التي اعطتها لها نانو في العيد الماضي بعدما سقطت من نافذة الطابق ال 41 وخضعت لاسعافات اولية تمثلت في تركيب ساق صناعية من دمية قديمة، وملء فراغ حدقة العين بقلم ازرق جاف. وأغلب الظن أن ياسمين لا تعلم أن"نوسة"هذه ليست مجرد دمية"باربي"معدلة، لكنها تجربة مصرية مجهضة لتصنيع دمية مصرية شكلاً ومضموناً، دمية جميلة خمرية البشرة، ضفائرها سود طويلة واسمها"نوسة". هكذا كانت نتيجة بحث اجراه طلاب كلية رياض الاطفال قبل نحو ثلاثة اعوام. الا أن ترسانة العراقيل جعلت من نوسة شأنها شأن الآلاف غيرها من المقترحات، حبراً على ورق في مكتب مغلق في بناية منشغلة بالروتين والتعقيدات، وليس بالامور التافهة على شاكلة الاطفال وتنشئتهم تنشئة نفسية سليمة. الأدهى من ذلك، وتبعاً لدراسة أجرتها ادارة الطفولة في الجامعة العربية تحت رئاسة الدكتور عبلة ابراهيم قبل سنوات وتحديداً إبان موجة الحماسة لتصميم"ليلى"الدمية العربية، فإن عدد مصانع البلاستيك في مصر لم يتعد الستين مصنعاً. وأكثر هذه المصانع ينتج قطع غيار للسيارات وما شابه، ولا يوجه اهتمامه للاطفال الا في مجالين ضيقين هما فوانيس رمضان واقنعة الحفلات البلاستيكية. كما وجدت الدراسة ان حفنة المصانع الاختصاصية في تصنيع لعب الاطفال لا تقدم سوى الألعاب ذات الطابع التعليمي. وعلى رغم أن جميلة الجميلات"باربي"تباع دميتان منها في كل ثانية في العالم، الا ان اطفال مصر لا يمكن أن يكونوا على رأس قائمة الاطفال الحاصلين على"باربي"في العالم. وما الذي يضطر الآباء والامهات المصريين الى إهدار خُمس دخل الاسرة الشهري على دمية في الوقت الذي يمكن فيه الحصول على اختها وان كانت غير شقيقة بنحو جنيهين. الخبراء يقدرون عدد اللعب المستوردة في السوق المصرية على اختلاف مستوياتها بنحو ثلاث ملايين لعبة، الغالبية العظمى منها آتية من الصين. وهذه ليست المشكلة الوحيدة، فعلى رغم النجاح الذي قرأنا عنه في الصحف للدمية الايرانية"بارة"والبوسنية"أمينة"، الا ان"باربي"على رغم نحافتها ورقتها الظاهرتين تتبع اسلوب الهيمنة الاميركية والسيطرة الامبريالية. ولو كان الامر وقف عند حدود"باربي"وحدها لهان الامر، لكن الطفلات المصريات حالياً يعلمن ان ل"باربي"سيارة زهرية خاصة بها، وكلباً ابيض يتبعها، وصديقات يشبهنها، بل و"بوي فريند"يمكن الحصول عليه من المحال نفسه وبسعر أدنى من"باربي". واذا اضفنا الى هذا سيطرة فكرة ان الغلبة للشقراوات على الطفلات اللاتي يرين الامهات والخالات والعمات يحملن بالخصلات الذهبية تكلل رؤوسهن ولو كلفهن الحلم رحلة لصبغ الشعر عند الكوافير، وببشرة فاتحة. وان كان هذا يعني كريمات ومستحضرات تفتيح تتدخل في التركيبة الكيماوية للبشرة والموازنة العامة للبيت، وبقوام نحيل يناقض تماماً أواني المحشي وطناجر الملوخية، فكيف نتوقع ان يقبل الاطفال - في حال توافر رفاهية الاختيار - على دمية خمرية، شعرها غير مصبوغ باللون الذهبي وقوامها يعكس محتويات قائمة وجبة الغذاء؟