"أزمة الديموقراطية في البلدان العربية"، كتاب حرّره علي الكواري دار الساقي بهدف "تنمية تيار ديموقراطي... من خلال الحوار" وإتاحة الفرصة امام "مشروع تنمية افضل ونمو معرفي حول مفهوم الديموقراطية". اما الهاجس الأبعد الذي يقلق "الكتاب" فهو الوصول الى نقطة يتاح عندها الوقوف "على ارضية مشتركة لتأصيل الديموقراطية، من دون تعدّ على ضوابط نظام الحكم الديموقراطي ومن دون تضحية بثوابت الأمة ومصالحها الحيوية". هذه المزاوجة "تقود الكتاب"، لدى استعراض اوراقه، التي يتنقل اصحابها بين "إضاءات" على السلفية وتحفظاتها على المشروع الديموقراطي، وبين مفاصل "للمشروع الديموقراطي" وحقائق موضوعية تمنع نفاذ "فلسفته العامة" وتحول دون ترجمتها الى "فلسفة بتطبيقات عملية". قد يكون من الجائز التساؤل مع "الكتاب"، هل نحن امام "ازمة الديموقراطية في البلدان العربية"؟ ام ان من الأنسب القول اننا امام معضلة الديموقراطية مع العالم العربي؟ الفارق بين السؤالين؟ هو فارق الوضعية بين "واقف على العتبة" ممتنع عليه الدخول، على رغم محاولاته!! وبين "مقيم في الدار"، يحاول "حياكة لغة مشتركة مع الجيران". بعض ما في "الكتاب" يكاد يقول اننا لم نعرف الديموقراطية بمعناها الأساسي، اي اننا لم نعرف "جوهرها" وتجلياته، من دون ان ننفي اننا لمحنا بعض ظلالها. يقول "الكتاب" ان المشاركة في صناعة القرار هي المعنى الأساسي للديموقراطية، وأن استبعاد الخاسرين المتأثرين بالقرارات عن دوائر صنعها يشكل انتهاكاً اساسياً للديموقراطية" والحال ان الاستبعاد والإقصاء والاختزال، سمات متحكمة بالحياة السياسية العربية، اي بما يأخذنا الى القول "بافتقاد الديموقراطية" في اصقاعنا الاستبدادية. في السياق عينه، سياق "الفقر الديموقراطي" يميز الدكتور فواز جرجس في ورقته بين "تنظير ليبرالي عجز في بلادنا" وبين ديموقراطية لم تتبلور، بسبب "جفاف ينابيع التعددية في تراثنا" حتى بان "كأن الأرض العربية تخاصم الديموقراطية" بحسب معالجة الدكتور محمد الرميحي، الذي ميز هو الآخر بين الليبرالية والديموقراطية، من حيث تشديد الليبرالية "على الحرية الفردية وقدسيتها" مع ما يرافق ذلك من حريات اقتصادية وعلاقات متجتمعية موائمة. في حديث العوائق، استحضر "الكتاب" جملة من المعضلات، التي ما زالت تواجه "الفكر العربي" عموماً، في مجالاته النظرية والعملية. من المعضلات: مسألة العلاقة بين الإسلام والديموقراطية، والوقوف امام التراث والمعاصرة، ومسألة الديموقراطية والنخب العربية، وإمكان الحوار بين اطياف المجتمع العربي، من اسلاميين وعلمانيين وما بينهما، وإمكان اللقاء بين يساريين وقوميين وسلفيين، وما الى افكارهم، المتقاطعة او المتباينة، لقد تبين من خلال استعراض المعضلات الآنفة، ان "التوليفة بين النظرات المختلفة مستعصية لذلك، كان "نهج تجزئة الفكرة الديموقراطية وتفكيكها والتدرج في التطبيق، فكراً وممارسة وتداول سلطة" هو الأقرب الى الواقع، بحسب عصام العريان. ولعل هذا "التفكيك" الممهد للفهم هو ما حاوله سعد الفقيه، عندما استعرض "نظرات الطيف السلفي، الموزع على سبعة تيارات" لكل منها اجتهاده، حيال ما يطرحه المشروع الديموقراطي من تساؤلات، وما يتطلبه من ممارسات وتطبيقات". لقد اصاب بعض "أهل الكتاب" عندما لخصوا الامر بالقول: "ان التباين بين الفكر السلفي والطرح الديموقراطي كامن في اصل فلسفة الفكرتين وليس في التفاصيل او التطبيقات" كذلك وضع البعض اصبعه على موضع الداء عندما وجّه نظره صوب "البنى الاجتاعية والثقافة السائدة عندنا، والتي هي من امنع الحصون التي تقف في وجه اختراق القيم الديموقراطية للمجتمع". وفي التلخيص، لم يعفِ البعض النخب العربية، التي طوعت، او دجنت، فالتحقت، كذلك، جرى التطرق الى دورها الذي تخلت عنه على صعيدي الفكر والممارسة السياسية، هذه النخب اقترح لها الفضل شلق "دوراً تمثيلياً وليس دوراً انقاذياً" ولعله ربط دورها بالمعرفة اولاً، وبالانخراط في العمل السياسي ثانياً، ففي هذين المجالين، محك اختبارها الديموقراطي، وقدرتها على الاستجابة للواقع المتحرك "بأفكارها الكثيرة التي يتطلبها الحوار، لأن الاستبداد تلزمه فقط، بضعة افكار للتحكم بالناس". والحال ان الاستبداد العربي، حكم وما زال من خلال بضعة افكار ميتة، ومن خلال قتله لكل الافكار الحية في الوقت نفسه. من "الافكار الميتة" الاستبدادية، محاربة الديموقراطية باسم محاربة الاستعمار، وربط الديموقراطية بالتفاوت الاجتماعي الذي احدثته الليبرالية الاقتصادية، لذلك حوربت "باسم الخبز والعدالة الاجتماعية" النتيجة، هي الادقاع الذي يرسف فيه المجتمع العربي على كل الصعد. لقد ضيّق اصحاب "الافكار الميتة" رقعة المفكر فيه، بحسب محمد أركون، ووسعوا مساحة اللامفكر فيه، وفي ذلك بعض من اسباب تخلفنا. ذلك انه عندما يحجر على العقل، يصير كل شيء خارج "المألوف" تهديداً وافداً للساكن الاصيل، كذلك "يؤسطر الجديد" فيصير وصفة شافية لكل "الامراض". لا نعدم وسيلة لاستشكاف ما لدى بعض "الاطباء السلفيين والديموقراطيين" من علاجات تصف ما لديها بأنه "البديل، قبله لا شيء وبعده كل شيء" على هذا المنهاج يصير "النموذج الاسلامي، او الديموقراطي وعداً، بدل ان يكون برهاناً لخطاب علمي" له سياقه المحسوس ودلالاته العملية. ضمن بيئة اللااستقرار الفكري والاقتصادي والاجتماعي، بل ضمن توترها الدائم من الصعب التأسيس لمشروع ديموقراطي، "فاستقرار الديموقراطية يلزمه بيئة مستقرة وسلمية". هذا لأن التحول الديموقراطي، نتاج تراكم تدريجي هادئ، وليس محصلة "لانقلاب ثوري" يطيح اول ما يطيح، بالمشروع الديموقراطي الموعود. لقد عايش العالم العربي أنماطاً انقلابية، وما زال يعاني من آثار اقامتها، تمزقاً في الهوية، واقامة في التخلف، وتدهوراً في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية. لقد رسخت "الانقلابية" الاسطورة والكاريزما وضخمت الدعاية، عندما عجزت عن الانجاز، واستحضرت "الانقلابية" التراث، وبعثت كل المؤود من العلاقات القبلية، في وجه "التغيير" عندما قصّرت عن التقدم، وعندما تخلفت عن اللحاق بركب المعاصرة، ثم لبست "عباءة الدين" لتجعل كل تطاول على شرعياتها المفقودة تطاولاً على الدين نفسه. لقد وقع ذلك على أرضية عربية موائمة، اذ لا معنى للحديث عن "حفنة من المغامرين" أخذوا الاجتماع العربي على حين غرة. لقد صفّق "التقدميون" للانقلابية قبل غيرهم، ولم "يذرف أحد دمعة على الليبرالية العربية الجنينية". "التقدميون" انفسهم تنقلوا بين ماركسية وقومية وسلفية، اي انهم ظلوا "أبناء ترحال ثقافي" بين التيارات، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عدم تأصيل ثقافي أصلي لدى "النخبة" التي يناط بها عادة تقديم الافكار وممارستها. يعيدنا ذلك الى اصل السؤال: كم هو ممكن تشكل نخبة "مغنية" أو "مصنعة" خارج سياق الحراك الاجتماعي المحدد؟ وهل بالامكان "صوغ افكار نهضوية، خارج صياغة النهضة الاجتماعية الشاملة؟" لعل التجربة الأوروبية تقدم المثال على ارتباط متبادل بين "حضارة الغرب وأفكارها"، كذلك فإن "العصر الذهبي العربي" يقدم الدليل ذاته: لقد كانت الافكار كبيرة وعظيمة عندما كانت الانجازات في كل الميادين عظيمة هي الأخرى. هذا الارتباط، او التفكر فيه، مغيب لدى الناظر العربي اليوم، بل ثمة قطيعتان بحسب محمد أركون: الأولى مع تاريخ الفكر والثقافة العربية والثانية مع تطور الفكر الغربي، ومع هاتين القطيعتين، وفي ظل الاستبداد الأعمى وتواصله مع "تراثنا الفلسطيني، أسند الى العقل وظيفة التبرير وليس وظيفة النقد او التساؤل...". مشروع ديموقراطي للوطن العربي؟ أم مشروع إسلامي؟ أم حاصل جمعهما وخلاصة اجتماعهما؟ اقتراحات يمكن، كما فعل "الكتاب" استكشاف المعقول فيها، واللاممكن منها. لكن ذلك لا يحجب السؤال الدائم: عن اية بنية مجتمعية يدور الحديث؟ الاجوبة كامنة هنا، لأن التأصيل سيكون ضمن البيئة المجتمعية وليس خارجها. على هذا السبيل يمكننا القول ان الاجتماع العربي امتنع ايضاً على الفكرة الاسلامية، عندما خالطت الاسلام كل العصبيات الموروثة، وعندما خضع لكل الاجتهادات، المعلومة وغير المعلومة، أليس الاجتهاد تفسيراً اجتماعياً وسياسياً بمقياس مصالح القائمين به؟ وخاضعاً لمستوى تحصيلهم، ولأحكام البيئة التي يصدرون عنها ومستوى تطورها؟... من شأن ذلك ان يعيد البحث الى نقطة انطلاقه فيلاحظ مع "توكفيل" انه من دون "مستوى تطور، حتى التعددية تمأسس وتعمق التقسيمات العرقية والاقليمية القائمة". لذلك فإن كل فكرة كبيرة، اسلامية كانت ام ديموقراطية ليس من شروطها بحسب "كابلان" ان تجعل المجتمع اكثر تحضراً، بل ان تفضح دوماً صحة المجتمعات بلا رحمة. اذا كانت الثقافة دليلاً على صحة المجتمعات، فمجتمعنا سقيم بالتأكيد، واذا كانت الديموقراطية "مرآة للحرية وللمسؤولية" فمجتمعنا بلا مرايا "ابتدائية". يبقى ان مسيرة النهوض العربي طويلة وشاقة، وحتى ذلك الحين، لا بأس من تلاقح الافكار وتأمين البيئة الحاضنة للاختمار، بعيداً من ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. بخاصة ان معرفة الحقائق ستظل نسبية. * كاتب لبناني.