جوزيف باي. مفارقة القوة الأميركية. مكتبة العبيكان، الرياض. 2003 . 300 صفحة. هل يمثل الصعود نحو امتلاك أدوات القوة مأزقا حادا لدى الدول والامبراطوريات؟ وهل تمثل تلك القوة كمَّاً من المخاطر والمشكلات للدولة التي استحوذت على مقاليدها أكثر من انعكاس هذه المخاطر على الدول الأخرى؟ إنها بعض من تساؤلات لا نهائية يثيرها ويحركها ذلك الوجود الفاعل لآلية القوة الأميركية على مستوى العديد من المرجعيات الفكرية التي تحاول أن تنظّر لحركة الواقع في تداخلاتها مع الكيانات الدولية الأخرى، طارحةً منظورات نقدية مختلفة للانطلاقات التي حققتها هذه القوى المتفردة للولايات المتحدة الأميركية، متناولةً مفهوم القوة والفارق النسبي بينها وبين القوى الأخرى، وكيف يمكن استخدامها في إعاقة الاتجاه الطردي لميكانزمات القوى لدى الدول الأخرى؟ ومتى يمكن استخدام فلسفة تطويق القوة والاعتماد على بدائل أخرى؟ وهل تحقق هذه القوة أهداف الهيمنة؟ وما هو مستقبل هذه القوى؟ وما هي سبل ووسائل دعمها؟ ويتجلى ذلك على مستوى قائمة مطولة منها ما كتبه زتشارلز جونسون في "مآسي الامبراطورية" وإيمانويل تود عن "ما بعد الامبراطورية" وبنجامين باربر في "امبراطورية الخوف" ونيل فيرغسون في "ثمن الامبراطورية" و"ماذا يريد العم سام" و"أوهام الشرق الأوسط" لتشومسكي و"أين وطني" لمايكل مور و"من نحن" لهنتنغتون و،"التمزق العظيم" لفوكوياما، الخ. وفوق كل ذلك تتألق أطروحة جديدة هي "مفارقة القوة الأميركية" لجوزيف باي الابن، عميد معهد كينيدي لأنظمة الحكم في جامعة هارفارد ومساعد وزير الدفاع في إدارة كلينتون والتي خصصها كلية للإجابة عن تساؤل واحد هو: لماذا لا تستطيع القوة العظمى الوحيدة في العالم أن تمضي وحدها؟ وتدور الفكرة المحورية لهذه الاطروحة حول مستقبل الامبراطورية الأميركية لكنْ في اطار مجموعة من التساؤلات الموضوعية التي تأخذ مساراً موحداً نحو استكشاف طبيعة هذا الدور الذي يجب أن تلعبه الولاياتالمتحدة في العالم الآن، وما تلك التحديات الأساسية التي تواجهها في القرن الحادي والعشرين، وكيف ينبغي أن تحدد مصالحها الوطنية، وكيفية صياغة سياسة خاصة تسمح لها بالقيادة المتوازنة لهذه القوة. ويتجسد مفهوم مفارقة القوة الأميركية لدى المؤلف في أنه لم يحدث منذ روما القديمة أن امتلكت أمة مثل هذا القدر من القوة الاقتصادية والثقافية والعسكرية، لكن المفارقة تأتي من كون هذه القوة ذاتها لا تتيح حل مشكلات عالمية كالإرهاب والتدهور البيئي وانتشار أسلحة الدمار الشامل من دون إشراك، أو حتى الاعتماد، على أمم أخرى. من ثم يطرح جوزيف باي حقيقة مؤداها أن القوة العسكرية وحدها لا تستطيع أن تعطي النتائج المتوخاة في كثير من القضايا التي تهم الأميركيين أنفسهم. ويتمثل أيضاً جزء من هذه المفارقة في صعود مؤشرات هذه التحديات الجديدة وغيرها بحيث يتعين على أميركا أن تقيم ارتباطاً قوياً مع دول ودويلات العالم المعاصر استدلالا بأن تهديد الإرهاب، وهو أكثر الأمثلة إثارة للفزع، يدفع الى البحث عن علاقات مع الأمم الأخرى على اختلاف وضعيتها بالنسبة لمستويات القوى. فبعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 يجب أن يزال المفهوم السائد لدى البعض من أن أميركا تستطيع أن تمضي وحدها في مسيرتها ضد الإرهاب أو أي شيء آخر على الإطلاق! بل أصبح لزاماً على القيادة الأميركية أن تعيد توجيه نفسها نحو المجتمع العالمي، معتمدةً بصورة أقل على إجراءات القوى التقليدية وبصورة أكبر على تلك القوة المستمدة من جاذبية الثقافة والقيم والمؤسسات، وهو ما يطلق عليه جوزيف باي مصطلح القوة الناعمة الطرية ويعطيها نوعاً من الأهمية المتزايدة في تحقيق مزيج مثمر مع القوة القاسية الصلدة. وعندئذ سيكون الاختيار التاريخي متمثلاً في القدرة على تطوير وتوافق الآراء حول المبادئ والمعايير التي ستتيح للأميركيين العمل مع الآخرين لتكوين استقرار سياسي ونمو اقتصادي وقيم ديموقراطية. فالقوة الأميركية ليست أبدية بالتالي. ويخوض جوزيف باي في توصيف العملاق الأميركي الضخم خلال ما قدمه من تعدد مصادر القوة الأميركية وتأكيد الريادة المطلقة لهذه القوة على اختلاف أبعادها، متناولاً في تقييم دقيق توازنات القوى والائتلافات المحتملة أو المرشحين الذين يتحدون الولاياتالمتحدة ومساحة الخطأ الذي يمثلونه ومنهم الصين باعتبارها المرشح الأبرز الساعي إلى مكانة الند المنافس في السنوات المئة المقبلة، وكذلك اليابان وقد أوشكت أن تصبح قوة عظمى، لا سيما وقد أصبحت صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم. أما روسيا فهي لا تزال مطروحة باعتبارها نموذجاً ممثلاً للقوة التي تشكل خطراً حقيقياً على الولاياتالمتحدة. أما بالنسبة للهند فليس هناك احتمال أن تصبح متحدياً عالمياً للولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تمثل أحد دعائم تحالف صيني روسي هندي، بينما أوروبا قد تكون احتمالية الندية بينها وبين الولاياتالمتحدة قائمة في بداية القرن الحادي والعشرين، لا سيما بعد تكوين الاتحاد الأوروبي الذي استطاع بالفعل أن يحد من القوة الأميركية في مسائل التجارة والنفوذ داخل منظمة التجارة العالمية. وفي اطار هذا الحشد الهائل لأنماط القوة يطرح جوزيف باي ملامح استراتيجية جديدة لكي تظل الولاياتالمتحدة القوة العظمى المرشحة لأن تحكم العالم لقرون طوال قادمة، خلال طاقة ذاتية خارقة هي: تلك القوة الطرية الناعمة التي تمثلها عالمية الثقافة الأميركية والقدرة على إرساء منظومة القيم أو السياسات المتبعة داخل الامبراطورية، والطريقة التي تدار بها الأمور دولياً. ويربط جوزيف باي في اطار علاقة طردية بين تصاعد المد المعلوماتي وتزايد دور القوة الناعمة الطرية، إضافة إلى أن تلك القوة الناعمة آخذة في الازدياد بالنسبة للقوة الصلبة الاجبارية عما كانت عليه في الماضي، كما أن تكنولوجيا المعلومات - أنتجت ثورة في الشؤون العسكرية وإن كانت هذه الثورة لم تنتقص من قيادة الولاياتالمتحدة الأميركية بل، في بعض الظروف، قد تزيد من التفوق الأميركي على بلدان العالم. كذلك أشار الكاتب إلى أن للولايات المتحدة صفات مميزة تجعلها مؤهلة دائماً وبشكل فريد للعمل كمركز للعولمة التي هي بدورها معززة للقوة الأميركية، بمعنى أن الثورة المعلوماتية تأتي منها كما أن قسما كبيرا من شبكات المعلومات العالمية يتم تكوينه فيها فيعزز أيضاً تلك القوة الناعمة الطرية، ومن ثم تلعب الولاياتالمتحدة دوراً مركزياً في تأثيره على أبعاد العولمة المعاصرة، وقد مكن هذا الدور الأميركيين من الاستفادة منها، لكن بقدر الرغبة في الاستمرار من هذه الاستفادة يتعين عليهم التعامل مع جوانبها المثيرة للسخط والقلق. ولن يكون ذلك باللجوء إلى شعارات السيادة والسياسات الأحادية الجانب أو الانسحاب إلى الداخل كما يقترح المنادون بالتفرد الأحادي والسيادة. أما عن مشكلة الجبهة الداخلية في المجتمع الأميركي فيرى جوزيف باي أن الولاياتالمتحدة تعاني مشكلات اجتماعية حادة ومعقدة على غرار انهيار المبادئ والعادات الأخلاقية وفقدان احترام السلطات والمؤسسات وانهيار الأسرة واختفاء اللطف والكياسة من الطابع المجتمعي العام، فضلاً عن إفساد الثقافة العليا والحط من الثقافة الشعبية ويترتب على كل ذلك حدوث ضعف كبير في المؤسسات الاجتماعية مما يجعل القوة تتآكل بتخفيض القدرة على العمل الجماعي والجاذبية الشاملة للمجتمع الأميركي. ويشخّص جوزيف باي أخطر المشكلات في انعكاسها على الجبهة الداخلية للمجتمع الأميركي بأنها اللامبالاة. والمفارقة الأكثر غرابة هي أن تفوق أميركا كثيراً ما يعامله الشعب الأميركي نفسه من دون أدنى مبالاة وينعكس ذلك على المصالح الخاصة سواء كان اقتصادية أو عرقية أو ايديولوجية عقائدية، وهي الموجودة دائما في كل ديموقراطية ينمو لها صوت أقوى من صوتها الطبيعي المعتاد في تحديد المصلحة الوطنية العامة التي تمثل، في رؤية جوزيف باي، درجة كبرى من الأهمية والأولوية لأن الفشل في حمايتها يعرض البقاء الأميركي للخطر. لذلك فهو يطرح العديد من الافتراضات التي تمكن الولاياتالمتحدة من أن تكون القوة القائدة في السياسة العالمية طيلة هذا القرن وما وراءه، وذلك في اطار الحفاظ على انتاجية الاقتصاد الأميركي والقوى العسكرية والبعد عن الأحادية والغطرسة. وبمعنى آخر يرى أنه يجب على أميركا ألا تقتصر في المحافظة على قوتها الصلبة، بل أن تتفهم أيضا ضرورة سطوة قوتها الناعمة الطرية وكيف تجمع القوتين معاً طلباً لتحقيق المصالح الوطنية العالمية.