ما هو دور الإعلام والرسالة المفترض أن يضطلع بها في مجتمعات تكاد تكون معدومة التنمية كمثل حال غالبية مجتمعات بلداننا العربية، حيث لا يزال مواطنوها يرزحون دون عتبة إشباع حاجاتهم الأساسية من مأكل وملبس، وغياب الحدود الدنيا من الأمان الاجتماعي؟ لعل في محاولة الإجابة عن هذا السؤال مدخلاً مناسباً لمناقشة إشكالية الإعلام العربي على مختلف مستوياته وأدواته، وهذا ما سنحاول من دون الادعاء بإمكان الإحاطة بكل جوانب هذا الموضوع الشائك. بنيت نظرية الإعلام في مجتمعات الوفرة المتقدمة لتجعل من الإعلام أحد مكونات السلطة حيث ان احتكار الفكرة على حقيقتها يمثل أحد شروط استمرار الطبقات المهيمنة في محافظتها على سيطرتها، وبالتالي فإن توجيه المعلومة وإعادة صوغها وإخراجها بما يخدم مصالح القوى المسيطرة يعتبر أحد أسس استقرار السلطة السياسية في هذه البلدان، من زاوية إسهامه في صناعة الرأي العام. وبما أن القيمة الأساسية في مجتمعات الوفرة المنتجة هي الاستهلاك وليس التوفير، تقوم المؤسسات الإعلامية بمهمة تعميق القيم الاستهلاكية، بما في ذلك تحويل المنتج الثقافي الى سلعة استهلاكية. لكن يجب أن نلاحظ أن مساحة الحرية المشروطة التي تمنحها الطبقات المهيمنة والسلطة السياسية لوسائل أو رجالات الإعلام تبقي على هامش من الاستقلالية النسبية والمنافسة التي تشكل أحد مقومات اقتصاد السوق. ومن أجل اكتمال الصورة يجب ألا نهمل ما تقوم به الطبقات المهيمنة والسلطات الحاكمة ومنظمات المجتمع المدني من رعاية للمراكز البحثية المتخصصة، لأن هذا يخفف من غلو التسطيح الذي تمارسه وسائل الإعلام بحق الفكر والثقافة بالمفهوم الواسع، ويوجد نوعاً من التوازن. مما سبق يمكننا أن نفهم جذر الإشكالية التي يعانيها الإعلام العربي الذي بني على محاكاة أو تقليد الإعلام الغربي، من دون توافر أدنى مقومات المقارنة بينهما من حيث الإمكانات والأدوات. ويمكن توصيف الطابع العام للإعلام العربي الرسمي وشبه الرسمي وجسمه الرئيس الإعلام المرئي بأنه إعلام فرجة وتسلية تحت مسمى الرفاهية، وبتوجهه نحو إشباع رغبات غير أساسية يصبح سعيه الى تحقيق الرفاهية مجرد رغبة ملتبسة تدور في إطار اجتماعي ثقافي مختلق، يهدف كما يقول هنري لابوريت الى "تسهيل السيطرة بمعناها البيوسوسيولوجي الحياتي - الاجتماعي". ان هدف السيطرة الذي تسعى اليه السلطات الحاكمة بالمعنى الذي أورده لابوريت لا يمكن تحقيقه لأنه لا يسهم في إشباع الحاجات الأساسية، بل يفقد الخطاب الإعلامي قيمته ووظيفته، ويحوله الى مجرد حامل لخطاب سلطوي أبوي شمولي، ومع خضوعه لقواعد تقنين سيطرة السلطة يتحول الى مجرد أداة من أدوات حكمها الشمولي التوتاليتاري. ولهذا لا يتورع عن تقديم نفسه كممتلك للحقيقة المطلقة. ولا تتغير الحقيقة السابقة مع غزو الفضائيات وتربعها على عرش الإعلام، فالانفتاح الظاهر الذي جاءت به الفضائيات العربية يبقى مجرد قشرة تغطي على بنية مغلقة، ومنغلقة على ذاتها، لا تستطيع أن تسلط الضوء على معالجات ناجعة للقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تضرب عصب المجتمعات العربية، وحتى على صعيد البرامج الترفيهية والثقافية تجرى المنافسة الشكلية وفقاً لقواعد اللعبة التي تحددها الجماعات المسيطرة ثقافياً وإعلامياً والمتزاوجة مع الطبقات المهيمنة وتعبيراتها السلطوية. إن الأسباب السابقة أصابت الإعلام العربي بمعضلة غياب التفاعل والمشاركة الشعبية، وإذا كنا نقر بأن الإعلام الرسمي العربي خسر المنافسة مع الإعلام شبه الرسمي، إلا أن المعضلة بقيت وإن بتعبيرات مختلفة، لأن الطبقة المستحدثة والمالكة لوسائل الإعلام شبه الرسمية لا تمتلك تلك المزايا الأرستقراطية التي تمكنها من حمل رسالة واضحة تسهم في ايجاد التوازن الاجتماعي من خلال التصدي للمشكلات والحاجات المجتمعية الحقيقية. ولهذا فهي تشترك مع المؤسسات الإعلامية الرسمية في افتقادهما المقدرة على إثراء الذات، الذي يشترط لتملكه وجود علاقة تبادلية وتفاعلية بينهما وبين المتلقي، يتم فيها تبادل الأدوار تعلماً وتعليماً إذا جاز التعبير، أي التخلي عن أسلوب الإملاء الأبوي الذي يقتل القدرة على الخيال والإبداع لدى المتلقي. ويزيد من سواد المشهد الإعلامي والثقافي العربي ان الكتاب فقد دوره كلياً كإحدى أدوات التأثير والفعل الإعلامي والثقافي، علماً أن دوره بقي منذ عشرات السنين محدوداً، بحكم قوانين الرقابة والمنع التي مارستها السلطات الحاكمة وتمارسها، لكنه على رغم ذلك بقي وبحدود معينة متنفساً للإبداع الحقيقي، وبالنتيجة فإن تغييب الكتاب أوجد ثقافة شعبية سماعية قاصرة، محشوة بالمغالطات وأنصاف الحقائق، ثقافة لا تمتلك بعداً معرفياً أو ابداعياً. ان أساس اية معالجة لوضع الإعلام العربي المتردي أساسه اقرار القائمين عليه بنسبية الحقيقة، وبأن دور الإعلام ليس تكوين رأي المتلقي قسراً، بل تزويده عناصر اعلامية عدة ومتنوعة تسمح له بحرية تكوين رأيه على أساس من الاختيار الطوعي. لكن يبدو حتى الآن أن هذا بعيد المنال، لأن الانفتاح الإعلامي على هذا النحو سيبقي أفراد المجتمع في حال بحث دائم عن الحقيقة بروح انتقادية، أول من ستطاول بنقدها الطبقات المهيمنة وتعبيراتها السلطوية. وفي زمن الثورة المعلوماتية وعصر الانترنت كم يبدو ساذجاً إصرار القائمين على المؤسسات الإعلامية العربية على الاعتقاد بأن ادعاءهم امتلاك كامل الحقيقة سيمكنهم من استمرار الاحتفاظ بدورهم الأبوي تعليماً وإملاء، بما يعزز من سطوتهم في عملية الترويض المستمرة التي تمارس بحق المجتمع لحساب الطبقات المهيمنة وتعبيراتها السلطوية. وفي النهاية نخلص الى القول إن الخطاب الإعلامي العربي تعوزه المصالحة مع الذات كمدخل للتصالح مع المجتمع الذي يتوجه اليه، حيث يستطيع الفعل والتأثير، ومن دون ذلك سيبقى خطاباً ملتبساً وأحادي الجانب، لا ينير السلطة ولا يؤثر في المجتمع. * كاتب فلسطيني.