أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    كوريا الجنوبية تهزم الكويت بثلاثية    تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    حسابات منتخب السعودية للوصول إلى كأس العالم 2026    القبض على 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم 29,1 كجم "حشيش"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    الحقيل يلتقي في معرض سيتي سكيب العالمي 2024 وزيرة الإسكان والتخطيط الحضري البحرينية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    وزير الإعلام يلتقي في بكين مديرَ مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 43736 شهيدًا    مركز الاتصال لشركة نجم الأفضل في تجربة العميل السعودية يستقبل أكثر من 3 مليون اتصال سنوياً    «محمد الحبيب العقارية» تدخل موسوعة غينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    المروعي.. رئيسة للاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغا    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في «stc»    «هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أفراح النوب والجش    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أجواء شتوية    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    الذاكرة.. وحاسة الشم    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في فيينا    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام في منازل "المجاهدين" الزرقاويين في مدنهم وقصباتهم . الزرقاء أنبتت الخلايلة والمقدسي فالتف حولهما العائدون من الكويت 2 من 3
نشر في الحياة يوم 15 - 12 - 2004

لم يكن ابو مصعب الزرقاوي السلفي الجهادي الأول في مدينة الزرقاء، فهذه المدينة التي تشكلت من خليط فلسطيني - اردني، تعتبر، ومنذ الستينات، عاصمة التيارات الاسلامية في الأردن. ابو مصعب علامة من علاماتها، ولكن ايضاً منها خرج استاذه الشيخ ابو محمد المقدسي نزيل سجن السويقة اليوم، ومنها خرج عدد من شيوخ السلفية الجهادية. وهنا محاولة لتفسير وملاحظة خصوصية هذه المدينة في علاقتها بهذا التيار وبالتيارات الاسلامية الأخرى، وشرح لواقعها الاجتماعي والسياسي بصفته مسؤولاً عن انتاج هذا النوع من التيارات العنفية.
في حلقة اليوم من سلسلة تحقيقات "السلفيون المجاهدون في الأردن" نستعرض البنية الاجتماعية والسياسية لهذا التيار، وسبب نموه وصعوده ومحطات اساسية في مسيرته التي بدأت منذ نهاية السبعينات.
يجمع متابعو التيار السلفي الجهادي في الأردن على ان معسكر هيرات في افغانستان هو عقدة اساسية في بنيان تنظيم ابي مصعب الزرقاوي في العراق اليوم. فقد انشأ الزرقاوي هذا المعسكر عندما ذهب الى افغانستان عام 1999، اما نواة المعسكر فكان معظمها من مدينة الزرقاء، ومنهم عبد الهادي دغلس وهو فلسطيني زرقاوي قتل أخيراً في العراق، وخالد العاروري وهو زرقاوي ايضاً ومعتقل اليوم في ايران، وياسين جراد والد الزوجة الثانية لأبي مصعب ويؤكد "مجاهدو" مجاهدو الزرقاء انه هو الذي نفذ العملية الانتحارية التي ادت الى مقتل السيد محمد باقر الحكيم وعشرات العراقيين في مدينة النجف.
وفكرة معسكر هيرات كانت تقوم على ان ثمة مئات قليلة من المقاتلين العرب من الأردنيين والفلسطينيين والسوريين وبعض اللبنانيين الذين فضلوا الاستقلال بقيادتهم عن تنظيم القاعدة نتيجة خلافات عقائدية طفيفة حالت دون بيعتهم لأسامة بن لادن. ووافق في حينها "امير المؤمنين" الملا عمر على ذلك وخصص لهم منطقة قريبة من مدينة هيرات على ان يكون محمد الخلايلة قائداً للمعسكر. ويروي علي ل"الحياة" كيف انه يعتبر ان حياته قبل "خروجه" مع زوجته واولاده الى هيرات في العام 1999 كانت حياة "جاهلية"، وانه التقى في هذا المعسكر بالعشرات من الشباب والرجال العرب من منطقة الشام الأردن وسورية وفلسطين ولبنان وكانوا يعيشون حياة "المهاجرين" بكل نقائها بقيادة ابو مصعب.
لقد صار واضحاً ان لمدينة الزرقاء الأردنية خصوصية في انتاج هذا النوع من "المجاهدين". فالمسألة تتعدى ابا مصعب الزرقاوي الى بنية وظروف ووقائع اخرى. فمجتمع الزرقاء الذي ارسل مئات من ابنائه الى الجهاد في افغانستان ثم عاد وارسلهم الى العراق، ما كان ليفعل ذلك لمجرد ان ابا مصعب منه، فهذا المجتمع كان سبق فتوته محمد الخلايلة الى "الجهاد"، وفيه ايضاً من الشيوخ المتحولين من حركة الاخوان المسلمين الى السلفية الجهادية من سبقوا الخلايلة الى الجهاد، وعلى رأسهم الشيخ عبدالله عزام، الذي اقام في الزرقاء قبل انتقاله الى عمان ليدرس في جامعتها.
صحيح ان اكثر من 80 في المئة من سكان مدينة الزرقاء الذين يبلغ تعدادهم اليوم نحو 850 الفاً هم من الفلسطينيين، لكن الزرقاء نشأت في نهاية القرن الفائت عندما سكنت جماعة من الشركس والشيشان عند سيل الزرقاء وهو نهر صغير يتوسط المدينة. واعقب وصول الشركس والشيشان الى المدينة قدوم عشائر بني حسن التي يتحدر منها ابو مصعب الزرقاوي وشاركت هذه العشائر شركس الزرقاء وشيشانها السكن بجوار السيل. ولعل غرابة هذه الأقدار هي التي ادت الى ان ينضوي بعض الشباب الشيشان الأردنيين مع جارهم ابن عشيرة بني حسن ويذهبون بمعية مقاتلين من انصاره الى بلادهم التي تركها اجدادهم في القرن التاسع عشر، ويقتلون هناك، واستمر الشبان الأردنيون الشيشان بتغذية الحركة السلفية الجهادية بعدد من المقاتلين الذين ذهبوا الى افغانستان والعراق كابو بكر الشيشاني الذي قتل في هيرات ورائد الشيشاني الذي قتل في العراق.
الزرقاء في ذلك الوقت بداية نشأتها لم تكن مدينة وانما تجمع سكني حول سيل صغير، ولكن المدينة تشكلت بشكل فعلي بعد عمليات النزوح من فلسطين في العام 1948 وتعزز السكن الفلسطيني فيها بعد الهجرة الثانية اثر هزيمة العام 1967 ولكن بين هذين التاريخين وقبلهما بقليل أقام الجيش الأردني بقيادة غلوب باشا معسكرات للجيش الأردني في المدينة، فدخل على هذا التركيب السكاني عنصر جديد هو عائلات الجنود الذين جيء بهم للخدمة في هذه المعسكرات. وفي ستينات القرن الفائت تحولت مدينة الزرقاء الى منطقة صناعية، فأنشأت فيها مصفاة البترول التي يعمل فيها نحو خمسة آلاف عامل احضر الكثير منهم عائلاتهم للسكن في المدينة، والأمر نفسه يصح في معمل الفوسفات في منطقة الرصيفة المجاورة للزرقاء، ويصح ايضاً في معامل اخرى كبيرة مثل معمل الورق ومعمل الخمور، فتحولت الزرقاء الى منطقة جاذبة لنوع من السكن المرتجل، ومعرضة للأتساع على نحو فوضوي وكثيف.
حين يصطحبك مريدو ابو مصعب الزرقاوي الى تلك الجبانة التي امضى طفولته وربما فتوته فيها، وحين يخبرونك ان والده توفي وهو طفل، يصير بأمكانك ان تتخيل صوراً عن نشأة هذا الفتى. فصورعدم الانسجام الاجتماعي والسكني ماثلة في الكثير من احياء المدينة، وتداخل المناطق الصناعية بالأحياء السكنية يضفي على المشهد مزيداً من القسوة والغرابة، اضافة الى اشتراك الجماعات المتنازعة احياناً في حيز السكن والعمل وتصريف الأوقات والحاجات. هذه الأوضاع مضافاً اليها احتقان سياسي مصدراه اولاً القضية الفلسطينية ونتائج موجات النزوح الى الأردن، وثانياً ذلك الأنشطار الأفقي الفلسطيني الشرق اردني في مجتمع الزرقاء الهجين، من غير المنطقي استبعادها في محاولة تفسير وفهم ظاهرة تفشي الدعاوى السلفية الجهادية في البيئة التي تشتغل فيها.
ولهذا الارتباط صور مختلفة، منها مثلاً ان مجتمع الزرقاء هو مجتمع طارد للكثير من سكانه خصوصاً في فترتي الستينات والسبعينات حيث توجه من الزرقاء خصوصاً ومن الأردن عموماً مئات الآلاف من الفلسطينيين الى دول الخليج وتحديداً الى الكويت. في العام 1991 وقعت حرب الخليج الثانية واحتل الجيش العراقي الكويت ثم هزم فيها، ما ادى الى نزوح نحو 250 الف فلسطيني من الكويت الى الأردن ف يما بات يعرف في الأردن بظاهرة "العائدون من الكويت"، ومن بين هذا العدد من النازحين من الكويت الى الأردن وصل عدد النازحين منهم الى الزرقاء وحدها ما يقدر بنحو 160 الفاً بحسب مهتمين ودارسين اردنيين.
ولاحظ عدد من المهتمين ان ثمة علاقة بين عودة هؤلاء وبين ازدهار تيار السلفية الجهادية في الزرقاء بشكل خاص والأردن بشكل عام. فاضافة الى الخيبة والأحباط اللذين تولدا عن هذه الحرب، بما تمثله من فشل جديد يضاف الى لائحة طويلة من التجارب الفاشلة، عاد الى الأردن ضمن هذه المجموعة عدد من المنتمين الى التيار الجهادي وعلى رأسهم الشيخ ابو محمد المقدسي عصام محمد طاهر البرقاوي الذي تحول لاحقاً الى مرشد هذا التيار في الأردن والى موجه لأبي مصعب الزرقاوي. وابو محمد فلسطيني كان يقيم في الكويت ومنها سافر عام 1989 الى افغانستان، هو وشيخ فلسطيني آخر هو عمر محمود ابو عمر المعروف ب "ابي قتادة"، وفيما عاد المقدسي الى الكويت وبعدها الى الأردن، اختار ابو قتادة لندن ليلجأ اليها. وتحول الرجلان لاحقاً الى مرجعية اساسية لفكر السلفية الجهادية في الأردن. لكن العودة من الكويت لم تقتصر على ابي محمد المقدسي، فأبو انس الشامي وهو المسؤول الشرعي في تنظيم الزرقاوي وقتل قبل اشهر في بغداد هو من "العائدين من الكويت"، وكذلك ابو قتيبة، وهو مسؤول عسكري في تنظيم الزرقاوي. وكان في الكويت ايضاً غازي التوبة وهو احد الرموز الأساسية في تنظيم الزرقاوي. وشكل هؤلاء اضافة الى آخرين على رأسهم ابو مصعب نواة الحركة السلفية الجهادية، وراحوا يجتمعون في النصف الأول من التسعينات في احد مساجد حي معصوم في مدينة الزرقاء.
ويبدو ان المقدسي ليس السبب الوحيد لإلتئام المجموعات العائدة من الكويت من فلسطينيي الأردن، فكان عدد من هؤلاء، وقبل نزوحه من الكويت الى الأردن، على علاقة او عضواً في "جمعية التراث الاسلامي"، وهي التجمع السلفي الرئيسي في الكويت، وكان يدير هذه الجمعية الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وهو مصري قدم الى الكويت في ستينات القرن الفائت، ما سهل ايصال "الفكر الجهادي" الى شبيبة كانت السلفية قد سبقته اليهم.
وفي الأردن يتحدث كثيرون عن ظاهرة "العائدون من الكويت" بصفتها محطة تبدل اجتماعي لمسته احدى الشابات مثلاً في ملاحظتها تضاعف الضغوط على بنات جيلها لجهة انواع الملابس وشكل الحياة، فتقول "منذ ان عاد هؤلاء من الكويت بدأنا نلاحظ مظاهر عدم الانسجام في خيارات الشباب والشابات في عمان. الشابات العائدات من الكويت مع عائلاتهن لم يكن على النحو الذي كانت عليه شابات الأردن، كن اكثر غنى وترفاً من الشابات الأردنيات، لكنهن اقل انسجاماً. معظمهن محجبات، وهذا ليس غريباً في الأردن، لكن حجابهن كان مختلفاً". اذاً يبدو ان هذا العدد من الوافدين الجدد الى التركيبة الاجتماعية ادخل عناصر جديدة على مشهد العيش الأردني. الأرجح ان هؤلاء كانوا اقوى من حجمهم العددي بسبب قدراتهم المادية، فتمكنوا من احداث تأثير يفوق ما قد يتوقع المرء من قوتهم العددية. في هذه الفترة وبعدها بقليل رصد "مركز الأردن للدراسات" التابع للجامعة الأردنية في استطلاعات رأي اجراها ان الجيل الشاب من 18 الى 24 عاماً اكثر محافظة من الأجيال التي سبقته ففيه نسبة مؤيدين اكبر لتعدد الزوجات ولأولوية تعليم الفتيان على الفتيات. هذه المعدلات بدأت تظهر عام 1993 وما زالت مستمرة من دون صعود ملحوظ، ولكن ايضاً من دون تراجع. وليست مسألة العودة من الكويت سبباً وحيداً لها طبعاً، لكنها عنصر من حزمة اسباب شهدها العقد الأخير من القرن الفائت.
وفرت الأوضاع في الأردن وعلى نحو متواصل ظروفاً يمكن على اساسها ان نؤرخ لبداية نشوء التيار السلفي الجهادي الذي يتصدر ناشطوه احداث العراق اليوم، وكانت مدينة الزرقاء دائماً عامل تأسيس يبنى عليه في هذه النشآت المتتالية. فالمحطة الأساسية الثانية التي سبقت حرب الخليج الثانية كانت احداث ايلول سبتمبر عام 1970 عندما اقدم الجيش الأردني على طرد المنظمات الفلسطينية من المخيمات في عمان وغيرها من المدن الأردنية، اذ من المعروف ان حركة الأخوان المسلمين بشقها التقليدي وقفت الى جانب الملك حسين في هذه الحرب، لكن "قطبيي" نسبة الى سيد قطب الاخوان وعلى رأسهم الشيخ عبدالله عزام، "شيخ الأفغان العرب" لاحقاً واستاذ اسامة بن لادن،اضافة الى احمد نوفل وديب انيس، كانوا التحقوا ومنذ عام 1982 بما يسمى "معسكرات الشيوخ" التي انشأتها حركة "فتح" في منطقة الأغوار في الأردن، ومنذ ذلك التاريخ بدأ التيار "القطبي" في الاخوان بالابتعاد عن حركة الاخوان المسلمين، وكانت السلفية تطل برأسها في هذه الأوساط. مع الاشارة الى ان هذا الابتعاد عن حركة الاخوان قد تكون له ملامح فلسطينية.
ويشير الباحث في شؤون الحركات الأسلامية في الأردن حسن ابو هنية الى ان بداية تأثر هؤلاء الشيوخ بالسلفية بدأ في الستينات على يد الشيخ السوري ناصر الدين الألباني الذي كانوا يدعونه دائماً لألقاء محاضرات في مساجد مدينة الزرقاء التي كانوا يقيمون فيها. ويبدو ان الألباني، وبحسب ابو هنية، كان وصل الى الزرقاء قبل دعوة عبدالله عزام له عن طريق الشيخ محمد ابراهيم شقرا وهو من اوائل السلفيين الناشطين في الأردن وكان يعمل موجهاً تربوياً في مدينة الزرقاء، ومن تلامذته الشيخ يوسف البرقاوي قريب ابي محمد المقدسي.
وبين هذين التاريخين اي 1970 و1991 شهدت المنطقة عموماً والأردن خصوصاً تبدلات كبيرة، ولم تكن الحركة الأسلامية في منأى عنها. كوفىء الاخوان المسلمون على موقفهم المؤيد للملك في الحرب على المنظمات الفلسطينية بأن تسلموا وزارة التربية في الأردن، ومن المعروف دور هذه الوزارة في انتاج اجيال نشأت على مناهج تعليمية اشرف على وضعها الاخوان المسلمون. وهذه الفترة ايضاً شهدت الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وما اعقبه من ظاهرة الأفغان العرب، الذين يعتبرون محطة الانتقال الرئيسة من السلفية التقليدية الى السلفية الجهادية، وتوسطتهما مرحلة السلفية الأصلاحية.
لطالما شكلت مدينة الزرقاء بيئة لانتاج ونمو الحركات الاسلامية في الأردن. فللاخوان المسلمين فيها وجود تاريخي وراهن، كما ان الكثير من قيادات جبهة العمل الاسلامي هم من الزرقاء، ورئيس بلديتها اليوم ياسر العمري عضو في الاخوان، ومن بين 12 مستوصفاً للخدمات الصحية تشرف عليها جبهة العمل الأسلامي في الأردن هناك ستة منها في الزرقاء. ومن المدينة ايضاً قياديو تيارات اسلامية اخرى مثل "حزب التحرير الاسلامي" الذي سبق ان تزعمه ابن المدينة عبد القديم زلوم، و"جماعة التبليغ والدعوة" الشيخ محمد الرفاتي.
في العام 1991 وصل الى الأردن ابو محمد المقدسي نازحاً من الكويت. لم يكن في حينها معروفاً الا في الأوساط السلفية الجهادية، وتحديداً بين بضع مئات من الأردنيين الذين كانوا سمعوا عنه او التقوه في افغانستان عندما قصدوها بهدف "الجهاد". الفلسطينيون والأردنيون الأفغان شكلوا نواة تيار بدأ المقدسي بتنظيمه، كان بينهم ابو مصعب الزرقاوي الذي "هاجر" الى افغانستان في العام 1989 قبل أن يعود الى الأردن. ويتحدث "جهاديو" الأردن اليوم عن تلك الفترة بصفتها "بداية الدعوة"، ويصفون الجولات التي كان يقوم بها المقدسي انطلاقاً من منزله في مخيم الرصيفة المحاذي لمدينة الزرقاء، وزيارته الى منازلهم في المدن الأردنية المختلفة وغالباً ما كان يرافقه ابو مصعب الزرقاوي.
ويقول سلفي جهادي سابق ان الدعوة في ذلك الحين ركزت على تكفير الأنظمة وعلى رفض منهج الاخوان المسلمين. وبعد فترة قصيرة جاءت الواقعة التي توجت مسلسل الاحباطات الأردنية الفلسطينية، والتي تمثلت بتوقيع الأردن اتفاق وادي عربة اتفاق السلام الأردني - الاسرائيلي. فتغذت الحركة السلفية الجهادية مجدداً من معين جديد. ويشير الناشط السلفي الجهادي السابق الى ازدهار عشرات التنظيمات السرية الجهادية في تلك الحقبة في الأردن، الى حد انه وفيما كان هو عضواً في احد هذه التنظيمات حاول اكثر من مرة اصدقاء له اقناعه بالانضمام الى تنظيماتهم من من دون ان يكونوا على علم بأنه عضو في تنظيم آخر. ولفت الى انه بقي عضواً في هذا التنظيم مدة خمس سنوات من دون ان تتمكن الأجهزة الأمنية من كشف تنظيمهم.
ومن بين هذه التنظيمات السرية التي راحت تنشأ في الأردن في تلك الحقبة، ولعل ابرزها، تنظيم "بيعة الامام" الذي اسسه المقدسي والزرقاوي. وبعد فترة من تأسيسه اكتشفت الأجهزة الأمنية الأردنية اسلحة ومتفجرات في حوزة المقدسي والزرقاوي فأدخلتهما الى السجن الذي بقيا فيه الى عام 1999. ويبدو انه خلال فترة سجنهما تمكن الرجلان من تنظيم عدد لا بأس به من الناشطين، خصوصاً من المسجونين بتهم تتعلق بجرائم عادية، واعتمد الرجلان في عملهما في وسط هؤلاء المساجين على فتوة ابي مصعب وعلى خبرته في عالم المجرمين والمنحرفين الذين عايشهم في فترة شبابه. كما ان المناصرين خارج السجن لم ينقطعوا عن زيارتهما وعن ايصال الرسائل وتبليغها. وفي السجن ايضاً وصلت مؤلفات المقدسي وكتبه في مجالات الافتاء وتحقيق التراث الى نحو مئة كتاب يردد اسماءها انصاره الى اليوم بشيء من الفخر. اما ابو مصعب فيبدو انه كان انشأ في السجن شبكة علاقات ستكون معينه عندما يخرج منه ويقضي شهوراً في الاعداد ل"الخروج" مجدداً الى أفغانستان برفقة عشرات ممن كانوا معه في السجن الأردني، وآخرين ممن كانوا ينتظرون خروجه.
تتفاوت تقديرات الذين ذهبوا الى افغانستان من الأردن كثيراً، ففي حين اكد حسن ابو هنية ان عددهم لا يتجاوز الخمسمئة رجل، يؤكد آخرون ان هذا العدد هو من الزرقاء لوحدها. لكن رقم الخمسمئة افغاني - اردني الذي يؤكده ابو هنية ليس قليلاً طبعاً، خصوصاً ان ادوار هؤلاء بعد عودتهم مختلفة تماماً عن ادوارهم قبل ذهابهم. اذ يمكن لزائر منازل "المجاهدين" في الأردن ان يميز بين "مجاهد" عاد من أفغانستان وآخر لم يذهب اليها اصلاً. التميز يبدأ من البنية الجسمانية المتينة ويمتد الى رسوخ اللحية وتجذرها في الوجه والى تحول القناعة والأفكار الى ممارسات جسمانية. الرحلة الى افغانستان بالنسبة لهؤلاء هي نوع من الغُسل، ولكنها في الحقيقة هي نقل الواحد منهم من دنيانا الى مقلب آخر وخبرة اخرى، يصير معها واحدهم غريباً غربة مخيفة وموحشة. هذا ما يمكن ان تلتقطه من وجه علي الذي يتنافس فيه شيطان وطفل، وهذا ما يسعى محمد الذي لم يذهب الى افغانستان الى رسمه على ملامح وجهه من دون ان ينجح.
في عام 1999 خرج الزرقاوي من السجن وقضى شهوراً في الأردن و"هاجر" بعدها مجدداً الى افغانستان. ويقول احد المقربين السابقين منه ان خروجه الأخير تم بعدما غضت الأجهزة الأمنية الأردنية الطرف عنه. ففي ذلك الوقت لم تكن احداث 11 ايلول سبتمبر قد وقعت بعد، وخروج الزرقاوي من الأردن مع مجموعته سيريح الأجهزة الأمنية، خصوصاً ان هذه الأخيرة مقيدة في تعاطيها مع هذا الملف بعدد من الاعتبارات الداخلية التي لطالما كانت عاملاً في اداء الأجهزة الأمنية في هذا البلد، وهي من نوع الثقل العشائري الذي يمثله الرجل الملاحق، وكذلك اعتبارات القضية الفلسطينية وما تتطلبه من مراعاة لمشاعر الغاضبين من السياسات الأسرائيلية والأميركية، واعتبارات اخرى كثيرة ومتنوعة في الأردن.
وثمة ما يدأب مناصرو الزرقاوي على تكراره في احاديثهم عن شيخهم الغائب، فهم يشيرون دائماً الى نياته الحاضرة دائماً لمحاربة الاسرائيليين وتنفيذ عمليات ضدهم. وأكدوا ذلك في معرض حديثهم عن الأسلحة التي عثرت عليها قوات الأمن في حوزته في عام 1994، وأشاروا اليه في سياقات اخرى. هذه التأكيدات لم تسعفهم وقائع كثيرة لاثباتها هي اجوبة على اسئلة تطرح عليهم في الأردن كثيراً، فالحجج التي يُواجهون بها من قبل الأطراف الأسلامية الأخرى للتشكيك في مشاريعهم يشكل عدم الاقبال على قتال الأسرائيليين عمادها، والرسالة الأخيرة التي وجهها ابو محمد المقدسي من سجنه الى ابي مصعب والتي اثارت حفيظة مناصري الأخير تتضمن عبارة وملاحظة حول ان مشاريع الزرقاوي وعملياته حولت الأنظار عن غرب الضفة غرب ضفة نهر الأردن.
يؤكد انصار الزرقاوي في مدينته انه عاد اليها اكثر من مرة بين العامين 2002 و2003 وانه حضر دفن والدته فيها، وهذا ايضاً ما اشارت اليه اجهزة امنية تلاحقه، لكن الأكيد ان الرجل مبثوث في انحاء مدينته هذه. ربما كانت مجرد مشاعر تلك التي تنتاب زائر المدينة هذه الأيام، فهو الزائر يتحول الى باحث عن هذا الرجل في كل ركن فيها. في تلك المساحات المعدنية الهائلة شرق المدينة التي خصصت لهياكل السيارات المهترئة، او في مساجد حي معصوم التي ترك فيها الرجل ظلالاً وكلاماً ومناصرين. تشعر أنه بأفعاله وافكاره موجود هنا بين هؤلاء الرجال الذين كانوا معه في السجن وفي هيرات، وهم الآن معه في العراق، تُثلج صدورهم اخبار عملياته التي تقشعر لها ابدان سكان المعمورة، فيما يطلب بعضهم المزيد منها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.