طرح "انقلاب البرغوثي" الأبيض على "فتح"، عبر إعلانه الترشح لرئاسة السلطة الفلسطينية في مواجهة مرشح الحركة الوحيد محمود عباس أبو مازن، جملة من التساؤلات المتعلقة بحقيقة التغيير المفاجئ الذي طرأ علي موقفه، وكيفية جمع التواقيع التي ينص عليها القانون خمسة الاف توقيع خلال نحو أسبوع، والمتصلة كذلك براهن ومستقبل علاقته بتنظيمه الذي يعج بالخلافات والتناقضات الشخصية والتنظيمية والسياسية، وتداعيات هذه الخطوة على وحدة "فتح" التي توصف بأنها العمود الفقري للثورة، وعلى الساحة الفلسطينية عموماً. إلا أن هذه التساؤلات التي تستبطن خشية مشروعة على وحدة الحركة الوطنية الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني بعيداً عن النوايا الطيبة، بدأت تنحرف، على أيدي المستوى القيادي في "فتح"، باتجاه المسّ والتشكيك بشخص ونوايا وأهداف الرجل المشهود له بالنزاهة والوطنية والصلابة والتضحية، الى حد الزعم بأن ترشحه لرئاسة السلطة ربما هدف الى تحقيق مقايضة تقضي بإطلاق سراحه، وأن ذلك "يخدم أعداء "فتح" الذين يضمرون لها الشر، وفي طليعتهم شارون"، فيما هو يعاني ما يعانيه من بطش وجور الاحتلال في زنزانته. غير انه ما ليس مفهوماً بعد هو كيف أن عودة مروان البرغوثي المعتقل في السجون الاسرائيلية عن تأييد أبو مازن، وترشحه كمستقل لخوض سباق الانتخابات المقرر اجراؤها في التاسع من كانون الثاني يناير المقبل، ستضيّق نافذة الفرصة السياسية التي يشاع انها فتحت عقب رحيل الرئيس ياسر عرفات، وتمنع استعادة المبادرة واستثمار الحركة الدولية النشطة لإزالة التشويه الذي لحق بصورة النضال الفلسطيني، ووضع القوى الدولية والاقليمية أمام مسؤولياتها في الضغط على شارون وحشره في الزاوية، وإلزامه، تالياً، بتنفيذ استحقاقات "خريطة الطريق"، إلا اذا كان المقصود هو أن هذه "الديموقراطية" المرتجاة التي يتغنى بها الجميع في الساحة الفلسطينية، لن تبصر النور إلا إذا فصّلت على مقاس برنامج سياسي محدد ولون سياسي واحد ونمط سلوكي يستجيب لمطالب اسرائيل والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وبعض القوى الاقليمية في إنهاء ما يسمى "عسكرة الانتفاضة" عبر اتخاذ موقف مغاير لموقف الرئيس الفلسطيني الراحل الذي كان يدرك مخاطر الإقدام على هكذا خطوة. هذا الموقف المغاير الذي يدور حول لغط كثير، وبخاصة بعد اجراءات وقف التحريض ضد اسرائيل، يقود بداهة الى الاصطدام ببعض الأسئلة الملحة التي تصر على الحضور وسط ضجيج التفاؤل المعزز بالحجيج الديبلوماسي الأوروبي الى رام الله وجولات القيادة الفلسطينية العربية، والتي تقول: هل كان عرفات فعلاً هو العقبة الكأداء أمام مساعي "السلام" وطريق "خريطة الطريق" التي تراهن القيادة الفلسطينية الجديدة - القديمة على إمكانية بعث الروح فيها؟ وهل تنازلت حكومة شارون، التي تقف على حافة الانهيار بعد أن فقدت أكثريتها البرلمانية، عن تحفظاتها الأربعة عشر عليها، وقبلت، قولاً على الأقل، باعتبار خطة فك الارتباط والانسحاب من قطاع غزة جزءاً من خطة "الخريطة" التي يصر مرشح "فتح" الوحيد محمود عباس على التزامه تنفيذ بندها الأول المتعلق ب"محاربة الإرهاب" ووقف كل العمليات العسكرية، سواء في الأراضي المحتلة عام 1967 أو في داخل أراضي 1948، وأي سبيل سيسلك لتنفيذ هذا التعهد بعد فشله في إقناع حركة "حماس" بقبول هدنة غير محددة الزمن لتمكين البيت الفلسطيني من مواجهة استحقاقات المرحلة الانتقالية والإبحار الى شاطئ الاصلاح والمأسسة والدمقرطة والتعددية السياسية والأمن عبر سفينة الانتخابات؟ ثم، أليس ملفتاً ذلك "التلميع" الأميركي والأوروبي لشخص محمود عباس غير المعتَرَض عليه اسرائيلياً في الوقت الذي يجري فيه التلميح الى ربط "الخطوة التالية" على الصعيد السياسي بنتيجة الانتخابات الفلسطينية، من دون أن تقدم تل أبيب أية ضمانات تذكر، سواء أكانت سياسية أو اجرائية لها علاقة بتسهيل عمليات الاقتراع ومشاركة فلسطينيي القدس فيها؟ ما يمكن تلمسه من الحراك الفلسطيني الذي تتسارع خطواته مع اقتراب موعد انتخابات رئاسة السلطة التي تستقطب حصة الأسد من الاهتمام، هو أن الساحة الفلسطينية مقبلة على انفجارات لا يمكن التكهن بحجمها وتداعياتها ما لم توظف كل الجهود والامكانات لجسر الفجوات السياسية التي تزداد تعمقاً واتساعاً مع تزايد تأثير العاملين الاقليمي والدولي في المعادلة السياسية الفلسطينية، وعنوانها الراهن "الانتخابات الرئاسية"، وإفصاح معظم الأطراف التي قصدت رام الله لتقديم النصح والمساعدة الممكنة عن دعمها لمرشح "فتح" محمود عباس، في مقابل المرشحين الآخرين، وبخاصة مروان البرغوثي الذي اعتبر شخصاً غير مرغوب فيه. إذ لا يمكن تجاهل حقيقة ان الكثير من الفصائل الفلسطينية المعارضة، لا سيما حركة "حماس" التي شككت بنوايا السلطة حيال نزاهة الانتخابات، سيبذل كل ما يستطيع لمواجهة برنامج أبو مازن الواضح وأولوياته المتمثلة في ضرورة العودة الى المفاوضات مع الاسرائيليين "لأن الانتفاضة لم تحقق شيئاً سوى تدمير البنية التحتية للدولة الفلسطينية وإلحاق الأذى بالشعب الفلسطيني"، وتأمين هدنة كافية تسمح باختبار النوايا الأميركية والاستعدادات الاسرائيلية للعودة الى "طريق السلام"، ووقف كافة أعمال المقاومة المسلحة ضد الاسرائيليين، واعتماد مبدأ التفاوض كخيار أساسي ان لم يكن وحيداً. ويبدو أن آليات هذه المواجهة التي ما زالت تحت السيطرة، ستتركز، بشكل رئيسي راهناً، على المعركة الانتخابية وبرامج المرشحين وثغرات قانون الانتخابات، ما يفضي، واقعياً، الى ما يشبه عملية الفرز السياسي التي لن تستطيع "فتح" الحبلى بالتناقضات والخلافات بفعل تعطل الحياة الديموقراطية فيها ردحاً طويلاً من الزمن، وتوقف الدماء عن الجريان في شرايينها، تجنبها أو النأي بنفسها بعيداً منها، لا سيما أن مؤيدي البرغوثي في الحركة لا ثقة لهم في إمكانية استمرار نهج الرئيس الراحل ياسر عرفات السياسي والنضالي، في حال فوز عباس بمنصب رئاسة السلطة، على رغم اعلانه الالتزام بما تتبناه "فتح"، وبخطاب عرفات الأخير أمام المجلس التشريعي الذي اعتبره "وصية واجبة التنفيذ". ولا ثقة لهم، بالتالي، في إمكانية الوصول الى المؤتمر السادس للحركة المقرر انعقاده في آب أغسطس 2005 الذي كان يؤمل أن يفتح المجال أمام صعود قيادات شابة للوصول الى الهيئات القيادية الأولى التي باتت مواقعها "مختطفة" وفق تعبير البعض، وخاصة بعد مطالبة رئيس الحركة فاروق القدومي بإعلان البرغوثي استقالته من الحركة. في كل الأحوال، وبعيداً من الخوض في بازار التوقعات حول سبب التأييد لكل من محمود عباس والبرغوثي، فإن ما ينبغي رصده هو ذلك التناقض ما بين الدعوة الواسعة الى اعتماد الدمقرطة في كافة مفاصل وشرايين وأعصاب المؤسسات الفلسطينية، وبين التمسك بالعقلية الفصائلية المتزمتة والعصبوية التي تسعى قيادة "فتح" الى تأبيدها عبر الإصرار على "إجماع" الحركة حول مرشحها الى الانتخابات، في الوقت الذي تدرك فيه ان هذه الحالة غير صحية ولا تعبر عن حقيقة الوقائع التي تدب على الأرض، لا سيما في "فتح" التي طالما فاخرت بأنها حركة الشعب برمته، وأن أعضاءها يمثلون مختلف ألوان الطيف الايديولوجي والسياسي الفلسطيني.