تعكس رواية سحر خليفة الأخيرة "ربيع حار" الوقائع الصعبة والمرة لحياة الفلسطينيين في العقد الأخير من القرن الفائت وصولاً الى السنوات الأولى من القرن الحالي. وهو أمر ليس بالجديد على الكاتبة التي حرصت منذ مطالع تجربتها على الالتزام بمعاناة شعبها وكفاحه الشاق من أجل الحرية. إلا أن هذه الميزة بالذات ليست حكراً على صاحبة "الصبار" وحدها بل تنسحب على معظم الكتابات الفلسطينية وبخاصة تلك التي تصدر من الداخل الفلسطيني سواء كانت تلك الكتابات شعرية أم نثرية. فالواقع الكابوسي الذي يعيشه فلسطينيو الداخل يلقي، في رأي البعض، بثقله على الأدب والفن وسائر التعبيرات الثقافية ويضيِّق على الأديب هامش المناورة الذي يتمتع به الأدباء في الظروف العادية الأخرى بحيث يصبح الاهتمام بالقضايا الوجودية والماورائية والجمالية البحتة نوعاً من الترف الذي لا مكان له. على أن رؤية متفحصة الى الأمور تقودنا الى التفريق بين منحيين اثنين: الأول يتخذ من الواقعية والالتزام ذريعة لتحويل العمل الأدبي الى تأريخ تفصيلي للأحداث أو الى تقرير سياسي يعمل على تسجيل الوقائع ونقلها الى القارئ نقلاً شبه حرفي، في حين يتخذ الثاني من الواقع منطلقاً لاختراقه والنفاذ الى الأسئلة الوجودية الصعبة التي تطل برأسها من وراء الأحداث. فالواقع المادي والاجتماعي ليس هو نفسه الواقع الأدبي والابداعي، لأن هذا الأخير يتحرك وفق منطقه المغاير والخاص، خالطاً بين المرئي وغير المرئي ومازجاً الحقيقة بالخيال أو الأسطورة، كما في النماذج المتميزة لكتابات ماركيز وزوسكند وكونديرا وايزابيل ألندي وغيرهم. في ضوء هذا المنظور تقع رواية سحر خليفة "ربيع حار" في مكان وسط بين الخيارين بحيث تنجح الكاتبة أحياناً في اجتراح واقع أدبي موازٍ للواقع المادي أو متجاوز له وتقع أحياناً أخرى فريسة الاكتفاء بتسجيل الأحداث وتأريخها بما يجعل الحدث نفسه أهم من الأدب وأكثر غرابة منه. وأزعم من جهتي ان القسم الأول من الرواية بدا أكثر حيوية واتصالاً بالمخيلة والنوازع الإنسانية الملتبسة والمقلقة في حين بدا القسم الثاني رازحاً تحت وطأة الأرشفة والتسجيل ونقل الحدث السياسي والأمني بعقلية من يريد للرواية أن تكون تاريخاً مفصلاً للأحداث والوقائع. فنحن في البداية ازاء عوالم ورؤى يتداخل فيها المألوف بالغريب والحسي بالماورائي ويبدو معها التأليف الأدبي متوارياً خلف جروح المكان وحرارة المشاعر الإنسانية. لكننا فجأة نفقد ذلك الخيط الحميم الذي يشتغل على دواخل الأبطال وسريرتهم لتصبح الرواية مجرد نقل شبه حرفي للأحداث الدموية والوقائع الأمنية بدءاً من حصار نابلس وضربها وصولاً الى حصار ياسر عرفات في رام الله وبناء الجدار العازل. وإذا كان من حق الكاتبة علينا أن تؤكد حقها، وربما واجبها، في نقل تفاصيل المأساة الفلسطينية بكل رعبها ودمويتها، فإن من حقنا كقراء أن نسأل عن المسوغ الأدبي الذي يعطي الرواية مشروعيتها ويمنعها من التحول الى تقرير أمني أو أرشفة عادية للوقائع. تدور رواية "ربيع حار" في الأساس حول عائلة فضل القسام الذي يولد في احدى قرى الضفة الغربية المسماة "عين المرجان" ليعمل بائعاً متجولاً للصحف قبل أن يصبح صاحب مكتبة ويعمل مراسلاً لجريدة "القدس". يُرزق القسام بعد زواجه بولدين اثنين، مجيد الذي يمتلك موهبة الغناء ويشارك في تأسيس احدى الفرق الفنية الفلسطينية وأحمد الذي يصغره سناً ويميل الى التأتأة بسبب خجله الفطري ونعومته الفائقة. وإذا كان مجيد يمتلك موهبة الغناء، فإن أحمد الصغير يمتلك موهبة التصوير ويقع في غرام ميرا الفتاة اليهودية الصغيرة التي تسكن مستوطنة كريات شيبع الملاصقة لقرية عين المرجان والمقتطعة قسراً من أراضي الفلسطينيين وأملاكهم. تتعقد أحداث الرواية شيئاً فشيئاً حيث تسرق ميرا قطة أحمد الواقع في غرامها، وحين يعبر أحمد الأسلاك الشائكة لاستعادة قطته يفاجأ بعواء كلاب العدو وتنطلق بعدها صفارات الانذار ويقبض على أحمد الذي يدفع غالياً ثمن حبه الرومانسي الممنوع. أما مجيد فيلتحق بصفوف المقاومة بعد وجوده صدفة في منزل بدر الوشمي الذي كان وعده بإرساله الى ايطاليا للتخصص في الموسيقى والغناء والذي تمت تصفيته من المقاومة بعد اتهامه بالعمل لحساب الاسرائيليين. غير ان الرواية تنعطف فجأة نحو الأرشفة والتأريخ وتسجيل الوقائع بحيث تفقد الشخصيات ملامحها الفارقة وعوالمها الداخلية لتسقط في التأليف والنمذجة والتصميم المدروس. كأن الكاتبة تفقد زمام شخصياتها على حين غرة بتأثير من سطوة الأحداث وهولها ومن التحولات السريعة التي طرأت على الحياة الفلسطينية في سنواتها الأخيرة. أو كأن هناك رغبة من المؤلفة بالإحاطة بكل ما يحدث بدءاً من حصار نابلس واقتحامها وما رافق ذلك الحصار من تدمير للتاريخ ورموزه العمرانية التراثية ومروراً بحصار مقر ياسر عرفات في رام الله وصولاً الى بناء الجدار العازل الذي حول مدن الضفة وقراها الى مربعات نائية ومعزولة ومطوقة من كل صوب. في ظل هذا الوضع المأسوي والمفجع تتعرض شخصيات الرواية لتحولات مفاجئة وغير منطقية أحياناً. فالتغير الذي طرأ على شخصية مجيد لم يكن مفهوماً بما فيه الكفاية ولم تعرض المؤلفة لمقدماته المنطقية التي جعلت مناضلاً كمجيد مطارداً من الاحتلال وناجياً بأعجوبة من الموت المحتم يتحول في مقر ياسر عرفات الى رجل بيروقراطي مهووس بالكاميرات والشهرة والإعلام. قد تكون شخصية أحمد الذي يتحدث في معظم فصول الرواية بصيغة المتكلم هي من أكثر شخصيات الرواية اقناعاً بما يحمله في داخله من تناقضات وعقد ومركبات نقص ناجمة عن الهوة الفاصلة بين واقعه المكسور وأحلامه الرومانسية الوردية. هذا الفتى الغض والحالم ذو البنية الجسدية الضعيفة يرى نفسه هو الآخر مسوقاً الى قدره الحتمي حيث لم تترك أمامه قوى الاحتلال المتغطرسة سوى الانخراط في العمل الشعبي التطوعي لاسعاف الجرحى والمصابين. ومع ذلك فإن أحمد الذي رأى بأم عينيه مقتل الفتاة البريطانية راشيل من دون ذنب اقترفته سوى انخراطها في تظاهرة سلمية ضد جدار الفصل وجد نفسه، ومن دون قرار مسبق، يتحول الى قنبلة موقوتة تنفجر في وجوه المحتلين. كأن سحر خليفة أرادت أن توصل روايتها الى ذروتها الأخيرة بالتزامن مع المأزق التراجيدي الذي لم يترك أمام الفلسطينيين ما يفعلونه سوى تفجير أنفسهم في وجه العدو الغاصب. غير ان السياسي والتبشيري ينتصر مرة أخرى على الروائي والأدبي. وإلا فما معنى أن تنهي سحر خليفة المقطع التراجيدي المتعلق بموت أحمد بهذه الطريقة: "في اليوم التالي سمعنا الخبر. قالوا: إرهاب". وهل على الروائي أن يدخل في شكل مباشر في مطالعة قانونية تهدف الى التفريق بين المقاومة والارهاب؟ هل عليه أن يشرح ويعلق ويطلق التهم شأن السياسيين والمحللين وكتّاب الزوايا أم يتوارى وراء الحياة التي تهدر عبر أبطاله ونسيج لغته تاركاً لقرائه الكثيرين فسحة من التخيل والاستنتاج والتأويل؟