كأن الحياة تقلد الفن، وتعيد تمثيل بعض ما صوره واختلقه من شخوص وأحداث. ففي حادثة مصرع ال58 مهاجراً صينياً مخنوقين على متن شاحنة في ميناء دوفر البريطاني ثمة تذكير تراجيدي بأحداث "رجال في الشمس" لغسان كنفاني. اثنان فقط من المهاجرين الصينيين غير الشرعيين على متن الشاحنة نجوا من الموت ورويا عن الموتى الآخرين الذين خنقهم عصير البندورة والحرارة اللاهبة داخل الشاحنة. حدث هذا قبل أقل من اسبوعين من ذكرى استشهاد غسان كنفاني بعبوة ناسفة وضعها الموساد الاسرائيلي في سيارة غسان الصغيرة. كأن الحياة ومصائر البشر، الهاربين من أرض الى أرض ومن عذاب الى موت، تثبت لنا راهنية الكاتب الفلسطيني الكبير الذي جعل التراجيديا السياسية والوجودية للفلسطينيين مثالاً كونياً، أسطورة من بين أساطير أخرى قادرة على تمثيل عذابات البشر وبحثهم عن مستقر وملاذ آمن على هذه الأرض المجرحة بالظلم والعذاب. المهاجرون الصينيون الذين ماتوا مختنقين بعصير البندورة على متن الشاحنة البريطانية، التي لم يقدها أبو الخيزران، كانوا يبحثون عن ملاذ، عن وطن جديد ظنوا أنه يعدهم بالمنّ والعسل. تماماً كما فعل أبطال "رجال في الشمس" الذين اختنقوا بالهواء الفاسد في بطن الخزان الملتهب بالحرارة والنهايات التراجيدية، وهم مثلهم مثل الصينيين الذين ماتوا في نهاية الشهر الفائت لم يدقوا جدران الخزان! تترافق هذه الحادثة المروعة في أرض أخرى ولبشر آخرين مع الذكرى الثامنة والعشرين لاستشهاد غسان كنفاني الكاتب الذي كانت إقامته على الأرض قصيرة للغاية 1936 - 1972 ولكنه وضع الرواية والقصة القصيرة الفلسطينيتين على خارطة الإبداع العربية في القرن العشرين. في عمله الروائي والقصصي، وكذلك في أبحاثه ونقده ودراساته السياسية ومقالاته الصحافية، كان كنفاني يصنع من الفلسطيني مثالاً للمعذبين في الأرض، المستلبين الباحثين عن حل لمعضلتهم التراجيدية المعقدة. وقد سعى من خلال رواياته وقصصه الى ابتداع شخصيات تجمع الى فلسطينيتها بعداً تمثيلياً إنسانياً عميقاً، وذلك ما أعطى ما كتبه راهنيته الدائمة وقدرته على الإمتاع والاحتفاظ بحيويته وجذبه القراء الكثيرين. استطاع غسان كنفاني، الكاتب الشاب الذي كان يفيض حيوية وحماسة ورغبة في تفريغ ما في داخله من شحنات إبداع قبل أن ينطفئ القنديل، أن يعبر عن مأساة شعبه الفلسطيني في أدب رفيع المستوى عالمي النزعة إن على صعيد تصوير الشخصيات أو على صعيد الأسلوب. فمن ينسى "رجال في الشمس" والحوار الذي دار بين شخوصها قبل أن تصهر الحرارة رؤوسهم وتصعد أرواحهم الى الآخرة، ومن ينسى شخصيات "ما تبقى لكم" وساعة الحائط التي تدق في انتظار المصير التراجيدي لشخصيات الرواية؟ إن عالم غسان كنفاني المحتشد بالشخصيات والأحداث والحوار الوجودي، الذي يصعد بالسياسي والظرفي والراهن الى مستوى الكوني والضروري، هو الذي يجعلنا نتذكره على الدوام، فهو كاتب من الطراز الرفيع الذي يظل الحديث عنه ضرورياً، كما تثري إعادة النظر في أعماله القصصية والروائية، والمسرحية ودراساته، واقع الثقافة العربية. لم يصبح كنفاني مع مرور الأيام، وتغير وقائع السياسة وسقوط الايديولوجيات وخفوت نار الحرب الباردة وحلول زمان السلام!، من محفوظات الماضي، وما طرحته كتاباته، التخييلية وغير التخييلية، ما زال يحتفظ براهنيته وقدرته على إثارة الأسئلة حول مصير الفلسطينيين وغيرهم من البشر المحرومين والمطاردين بغض النظر عن اللون والجنسية والانتماء السياسي. لقد أدرك ببصيرته النافذة، وحدسه الداخلي العميق، أن العالم لا يمكن أن يتنبه الى عمق المأساة الفلسطينية إلا إذا صور الأدب الفلسطيني المأساة بريشة إنسانية تنبه الى التطابق بين عذابات البشر جميعاً، وتفضح الظلم الذي يسببه العدوان. ومن ثمّ فإن عمل غسان الأدبي كان مسرحاً لتمثيل هذه التراجيديا البشرية العميقة من خلال شخوص تحمل أسماء فلسطينية وتتحرك على أرض فلسطينية أحياناً، أو عبر شخوص مغفلي الأسماء وعلى أرض مغفلة الاسم. لهذا السبب قلدت الحياة روايته "رجال في الشمس"، وذكرتنا بعظمته كروائي وكاتب قصة قصيرة رحل عن عالمنا قبل 28 عاماً لكن أعماله ما زالت ملهمة تذكر بمعنى العيش على هذه الأرض.