الأرض الملتهبة دفعتني الى ترجمة "الأرض الملتهبة" لدومينيك دو فيلبان دار النهار، بيروت، 2004 ثلاثة أسباب: 1 - يتمثل الأول في الصداقة. عندما أقول: صداقة، أهتدي هنا بعبارة لواحد من الكتّاب العرب الكبار، أبي حيّان التوحيدي، يقول فيها: "الصديق آخر هو أنت". 2 - يتمثل السبب الثاني في رغبتي أن أقدّم للقارئ العربي نموذجاً للتّكامُل بين الشاعر والسياسي، فيما وراء كل إيديولوجية أو انتماء. وهو تكامل تستضيء فيه البصيرة الشعرية بالبصيرة السياسية، في رؤيتها العالم، وتُضيئها في الوقت نفسه. من هذه الزاوية، يسير دومينيك دو فيلبان على الطريق الرحبة العالية، طريق بول كلوديل وسان - جون بيرس. 3 - السبب الثالث شعريّ - فنيّ. ففي الرؤية الشعرية التي يصدر عنها دومينيك دو فيلبان، وحدةٌ أساسية بين الشعر والفكر. وفيها، تِبعاً لذلك، حساسية تراجيدية تصلنا بأغوار عالمنا المعاصر، وتخترقها، في صور ورموز، نحو "أعراس أخرى"، وفقاً لتعبيره. في هذا كله، تغيب "أنا" الشاعر، وتحضر "النّحنُ": كأنّ الشاعر، هنا، ليس هو الذي يفصح عن العالم، بقَدْر ما العالم هو الذي يُفصح عن ذاته بلسان الشاعر. "ابن الكلمة": سليل لغتين يؤكد صلاح ستيتية في كتابه الأخير: "ابن الكلمة" الذي صدر في آن بالفرنسية ألبان ميشيل، باريس، 2004، وبالعربية دار النهار، بيروت، 2004، ترجمة مصباح الصمد. انه سليل لغتين، بالمعنى الثقافي الحضاري: الفرنسية، والعربية. وأستخدم اللغة هنا بالمعنى الذي يتيح لنا القول ان الفرنسية لغة - أب، والعربية لغة - أم، ويتيح لنا أيضاً أن نعكس ونقول: الفرنسية لغة - أم، والعربية لغة - أب. يعني هذا أن صلاح ستيتية يتجاوز، في عمله الإبداعي، "خط التماس" كما يعبّر، بين هاتين اللغتين. فهو، بوصفه مبدعاً، يحيا في قلبيهما معاً، محولاً هذين القلبين، بكيميائه الخاصة، الى قلب واحد ينبضُ في جسد عمله الإبداعي. انه في ذلك يمثّل وحدة الطرفين، وحدة المختلف المؤتلف، أو المنفصل المتصل. يتحول، بدءاً من ذلك، الى رمز لتحطيم الهوية، بوصفها نواة أو ذرّة. الهوية هي هنا "مثنى"، وليست "مفرداً". بدءاً من هذا الرمز - التحطيم، تنبعث في الحياة والفكر إمكانات واحتمالات بلا نهاية، في كل ما يتصل بالذات والآخر، وفي كل ما يتصل بمعنى الإنسان والثقافة. في مطار لاغوارديا مطار لاغوارديا/ نيويورك، 26 أيلول سبتمبر 2004. الى هيوستن، ومنها الى تامبيكو، على خليج المكسيك. كلما ركبت سيارة الى المطار، أمر في حالة من الضياع: مزيج من الخوف والقلق والحزن. * هل في كل سفر كفنٌ طائر؟ * شعرتُ، قبيل وصولي الى المطار كأن نفسي تخرج من نفسي. وطاب لي أن أستسلم لما يقوله المصري: النفس أنثى تتزوج الموت: "لا تأنَفُ النّفْسُ من موتٍ يُلمّ بها فالنفس أُنثى لها بالموتِ إعراسُ". * هذه حالة تستمر الى أن أنهي المرحلة الأخيرة التي تؤدي للدخول الى الطائرة. المرحلة الأولى: البحث عن البطاقة المرسلة بالبريد الالكتروني. امرأة لطيفة جداً. صارت أكثر لطافة عندما قلت، مجيباً عن سؤال طرحته عليّ، باسماً متلعثماً: إنكليزيتي رديئة جداً. المرحلة الثانية: الذهاب الى باب الدخول الى الطائرة: تفتيش الحقائب، والثياب، والقدمين، والكتفين، والخاصرة، وما بين الفخذين، وما تحت الإبطين، والحذاء - وكل ورقة مطوية، وكل محفظة في جيبك، وكل كتاب، وكل دفتر، وكل قلم، والساعة التي تحملها. ولا يُكتفى، في هذا كلّه، بالعين المجردة، واللمس، وإنما يستعان كذلك بالأشعة السينية. إضافة الى هذا كله: مُدّ يديك. باعِد بين فخذيك. انزع حزامك الجلدي. أدِرْهُ على القفا... الخ، الخ. كلّ ذلك ببرودة آلية. بهدوء. بلطف غالباً. أنتظر. أنتظر تلك اللحظة: الدخول الى الطائرة. الى العرس المحتمل: زواج النفس والموت. أراقب وجوه الركاب الذين سأكون واحداً منهم. لا وجه يفتح ولو ثقباً صغيراً لرؤية العالم بشكلٍ أقل بشاعة. المطار نظيف ومنظّم. والعاملون فيه، موظفين ورجال أمن، لطفاء - كأنهم القانون ماشياً على قدميه. ليس لشركة كونتيننتال قاعة خاصة بركاب الدرجة الأولى، في هذا المطار. استغربت، تساءلت. لا بأس. إذاً، سأشتري قَرْنَ موز، وقنينة صغيرة من الماء، وقهوة إكسبريسو، وقطعة صغيرة من الخبز المخلوط بالسكّر والزبيب. لم أكمل القهوة. امرأة قبالتي تكتب. تفكّر. أو هكذا بدت لي. لكن ليس في وجهها، أو في جسمها ما يقرأ أو يكتب أو يفكّر. قاعة الانتظار. جدار زجاجي طويل تبدو منه قطعة من البحر. تبدو طائرات تهبط وتُقلع. تبدو غيوم وأعمدة حديدية. تثاءبت فيما كانت المرأة إياها تتثاءب. أكثر ما يلفت النظر في المرأة الأميركية، كما بدت لي في هذا المطار، أنها تُهمل عين الآخر، بل تُلغيها - في سلوكها، في لباسها، في أكلها. تقعد، تقوم، تتحرك، كما لو أنها لا ترى أحداً حولها، كما لو أنها تقيم وحدها على الأرض. حرية مدهشة: كحرية الشجرة والهواء. وتلك هي امرأة آتية الى المطار، للسفر، في لباس لا يصلح إلا للنوم، وربما للركض في الغابة. * الفضاء من نافذة الطائرة، طائر بملايين الأجنحة تضاداً مع غرفة محمد الماغوط، التي هي غرفة بملايين الجدران!. * في السفر، يرافقني دائماً شخص يراقبني، جانبياً: الموت. * الزمن في السفر هو نفسه شكل آخر من الموت. * الغيوم من نافذة الطائرة: بعضها يرقص، بعضها يبكي، بعضها يتفكك. وبعضها أسرّةُ لأجسام غير مرئية. وثمة غيوم أمهات. وغيوم بنات. وغيوم جيوش. وما هذه الغيمة التي يجثو على قدميها هذا الضوء؟ ويُخيَّل إلي أن المُنحدر الذي يبدأ من قدمي السماء يكاد أن يلتطم بجسد الأرض. تامبيكو: غيوم تلبس أجمل ثيابها في سُرادق الشمس. شمس تتصبب عرقاً. * تامبيكو. أوتيل مانسيون ريال. رقم غرفتي 302. حاولت أن أتصل هاتفياً بباريس، ببيروت، لكن عبثاً. قيل لي أخيراً أن أنتظر خمس دقائق. لا أزال أنتظر. كان عليّ أن أخرج الى الشارع. لكنني تكاسلت. الغرفة واسعة جداً، بسقف عالٍ جداً. تكاد أن تتسع لفندق بكامله، في بعض أحياء باريس أو لندن! * اعتزل في غرفة، وفكّر في الشعوب ومصائرها: تلك هي حكمة الذين لا حكمة لهم. * هنا، تستيقظ على نحو فريد، شهوة العين. * قديم المدينة، تامبيكو، هو أجمل ما فيها. حديثها - نوع من القمامة الهندسية. * يمكن أن تمطر في طرف من المدينة، ويكون طرفها الآخر صاحياً. يمكن أن تفيض الشوارع في بعض الأحياء، كمثل الأنهار، وتكون أحياء أخرى في شوق الى قطرة من المطر. الشُّطآن في خليج المكسيك نظيفة، مفتوحة للجميع. الملك هنا للناس جميعاً، بالتساوي - تماماً كما هي الحال في لبنان! رَملٌ كأنه الأبد. هواءٌ آزتيكيّ. مايا، مايا. * في المكسيك، للمرة الأولى. يحضر في ذهني شخصان: تروتسكي، وأوكتافيو باث. الأول - رمزاً لضحايا الطغيان. الثاني - رمزاً للنضال ضد الطغيان. * مرة ثانية - الشمس في تامبيكو تتصبَّب عرقاً. سيطرة... هل المعرفة كمثل الحرية: لا تُعطى، بل تُؤخذ؟ أسأل لأوضح الفرق الكبير بين أن تعرف - بالسماع، أو بالقراءة، وبين أن تعرف بالخبرة والرؤية المباشرة. وأسأل لكي أشير الى أن الأساسي في كل ما يتعلق بالمعرفة، هو التحرر من الآراء والأحكام المسبقة، ومن الانحياز والتعصب. المعرفة هي كذلك تحرّر، الى جانب كونها تحريراً. * قلت لصديق أميركي شاعر، في حديث طويل بيننا: نعم "أنتم" تسيطرون "علينا"، نعم، الغرب، اليوم، يسيطر على الشرق العربي. هذه، بالنسبة إليَّ، بداهة. مع ذلك، أحبّ أن أسألك: هل يسيطر عليه بالفن؟ بالشعر؟ بالفلسفة؟ هل يسيطر عليه ب"الروح"؟ بالخصوصية التي تجعل من الإنسان إنساناً؟ والجواب هو: كلا. الغرب يسيطر على الشرق العربي بالتقنية، بالقوة والعنف، وبالسياسة. هكذا أسألك، ثانياً: أهذه علامة على "ضعف" الغرب، أم على "ضعف" الشرق العربي، أم على ضعفهما معاً؟ في كل حال ليست علامة على "قوة" الغرب - روحياً، أو انسانياً. النجاح / الفشل غالباً، تكون أمسياتي الشعرية ناجحة - في البلدان الأجنبية، بفضل عوامل كثيرة، خصوصاً بفضل الأبعاد الموسيقية العالية في اللغة العربية أقرأ دائماً، في هذه الأمسيات، باللغة العربية، الى جانب الترجمة. يُحب الأجانب الإصغاء الى اللغة العربية، مع أنهم لا يفهمونها. توقظ فيهم مشاعر دفينة، وتحرك مخيلتهم، وتمدّ جسوراً بينهم وبين عوالم يفتقدونها - ترتبط بالجسد، والطبيعة، وترتبط بالصوت والغناء، وترتبط بغرابة الآخر، المختلف. لكن، كلما نجحت في أمسية شعرية، في الخارج، يعتمل في نفسي سؤالان: الأول يخصّ اللغة العربية في الداخل، بين أبنائها. وهو، إذاً، عام. والثاني يتعلق بي، شخصياً، وهو، إذاً، خاص. من الناحية الأولى، يداخلني قلق كبير حول وضع اللغة العربية. فاستناداً الى ما أختبره، في كل ما يتعلق بتعليم هذه اللغة في البلدان العربية، يتولّد لدي انطباع بأن اللغة العربية الفصحى تُعلم اليوم كما تعلَّم اللغات الأجنبية. وقد تكون هذه الأخيرة أكثر سهولة على المتعلمين، وبخاصة الأطفال، في اللغة الأم نفسها. ما سيكون، إذاً، وضع هذه اللغة، في نهايات هذا القرن؟ سؤال يجعل القلق الذي أشرت اليه، كأنه صوت عالقٌ في حنجرتي. أما من الناحية الثانية، فإنني أتساءل: هل ذلك "الناجح" هو أنا، حقاً؟ أم انه شخص آخر، داخل جسدي، وفيما أتساءل، أنفصل، داخل نفسي، عن ذلك "الناجح" مؤكداً لنفسي أن "نجاحي" ليس إلا نوعاً من "الهبوط، لكن الهبوط الذي يدفعني الى مزيد من الصعود، بمزيد من الحركة والقوة. ويدفعني كذلك الى مزيد من العمل. دون ذلك، دون هذا الانفصال، كيف سأبقى أنا أنا، وكيف سأتقدم؟ أسئلة - "لماذا تحبّ السفر؟ لماذا لا تتوقف عن الترحل؟". سؤال يطرحه عليّ دائماً كثيرٌ من أصدقائي. وأجيبهم دائماً بما يقوله أبو تمام: "وطولُ مُقام المرء في الحيّ مُخلِقٌ لديباجَتَيْهِ، فاغتربْ تتجدَّد".