يمثل صلاح ستيتية مكانة متقدمة ومميزة لا في اطار الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية فحسب بل داخل الأدب الفرنسي بالذات الذي بات شاعر "الماء البارد المحروس" أخذ أفضل رموزه المعاصرين. والحقيقة أن مكانة ستيتية لا تدين بالفضل الى عوامل خارجة عن الإبداع نفسه، كالترويج الاعلامي الدعائي أو العصبية الفرنكوفونية المتنامية في وجه الانكلوسكسونية المهيمنة، بل الى الحضور القوي والآسر لموهبة ما تزال منذ عقود تدق أبواب العالمية والنزوع الشمولي دون أن تفقد اتصالها بلهب الشرق وطزاجة الينبوع الأول. والكتابان الصادران حديثاً عن صلاح ستيتية "شعر المنهلين" و"الجهة الأخرى المحترقة للبالغ النقاء"، والمتضمنين نماذج من شعره ونثره، يعكسان اضافة الى ما سبقهما من مؤلفات وترجمات بعضاً من نتاج الشاعر وأفكاره وآرائه التي لا تقل قيمة عن شعره. فالنصوص النثرية التي نقرأها في الكتاب الأول تضاهي في جماليتها وصورها ولمعانها المائي النصوص الشعرية المثبتة في الكتاب الثاني، وهو ما يؤكد مقولة إليوت أن "ما من شاعر يستطيع أن يكتب قصيدة تأخذ مداها ما لم يكن أستاذاً في النثر". والحقيقة ان صلاح ستيتية هو أستاذ في النثر والشعر على حد سواء. وهو ما سنحاول تلمسه خلال قراءة موجزة ومكثفة لكلا الكتابين المترجمين. يعتبر مصباح الصمد في مقدمة لكتاب "شاعر المنهلين" ان المسألتين الرئيسيتين اللتين يطرحهما أدب صلاح ستيتية هما مسألتا الهوية والمعرفة. فعلى المستوى الأول تبدو اشكالية الهوية واضحة كل الوضوح بين اللغة والقلب أو بين العبارة ومحمولها، وبين الانتماء الى الجذور ومسقط الرأس والروح والتعبير الأدبي المتصل بقيم أخرى وثقافة مختلفة. لكن هذا التضاد الظاهري يتحول عند ستيتية الى حافز لطرح الأسئلة العميقة حول الأنا والآخر والى مناسبة لاختراق الهوية الأحادية المبسطة باتجاه هوية بديلة ومركبة تجعل من صاحبها لبنانياً، عربياً، مسلماً، متوسطياً، مشرقياً وفرنسياً في آن واحد. وقد يكون الأمر أقل حرجاً وصعوبة لو كان متعلقاً بالكتابة العلمية أو الفكرية والنقدية. ففي هذا المستوى تكاد العلوم على أنواعها أن تكون ذات هوية كوزموبوليتية شمولية يتضافر في صنعها مواطنون عالميو النظرة والأدوات والأهداف. أما في الشعر فتبدو الأمور مختلفة الى حد بعيد لأن هذا الكائن اللغوي الساحر يتصل اتصالاً عميقاً بالخصوصيات المحلية والفردية ويعبر عن ذات الجماعة وخلجاتها ونبض قلبها كما لا يتيسر لنوع آخر أن يعبر. ومن هنا لا بد من العودة مرة ثانية الى قول ث.س.إليوت اللافت "انه لأسهل أن تفكر من خلال لغة أجنبية من أن تشعر من خلالها. فما من فن يتسم بالقومية اتساماً عنيداً أكثر من الشعر". هذه الحقيقة التي أدركها صلاح ستيتية بشكل عميق لم تحل بينه وبين البحث عن هوية تتجاوز البعد الظاهري الناجز للانتماء لتشكل عبر مستوياتها المختلفة عنوان المثقف الشمولي الذي لا يرى في الآخر الا بعداً من أبعاد الأنا نفسها. لا بل ان الحوار مع الآخر لا يتم في الخارج بل داخل الذات التي هي دائماً ساحة صراع وملتقى رياح وتيارات. جاءت تسمية "شاعر المنهلين" بهذا المعنى ثمرة طبيعية للدور الذي لعبه الشاعر في أن يعبر عن معنى الوطن وجوهر رسالته بلغة عرف كيف يمتلكها ويستحوذ على جمالها رغم أنها لغة الآخر الغربي. "انني افتخر أن أكون قد نجحت الى حد ما في التعبير بلغة راسين وفكتور هيجو عن معان وأبعاد مرتبطة بالفكر العربي القديم والحديث، وصولاً الى أسمى ما ينجبه الوعي والإبدع الفرنسيان". هذا ما يقوله الشاعر بالنص الحرفي، وهو قول يجد مصداقيته في كافة أعمال ستيتية الشعرية والنثرية. أما مسألة المعرفة فهي لا تعني تحويل الشعر الى وعاء للمعلومات والمعارف ولا تسخيره من أجل غايات ايديولوجية ووظائف أخلاقية واجتماعية ليست من شأنه بل تعني رحلة الكشف عن "الإنسان الكلي أو انسان الروح" عبر اختراق المظاهر والسطوح وهشاشة المرئيات. وهو ما لا يتم الا عبر سبر أغوار الباطن الإنساني والتنقيب باللغة عما وراء المعنى أو عن "ليل المعنى" كما يعبر ستيتية في كتابه الحواري الشيق مع جواد صيداوي. نأخذ المعرفة إذن شكل ومضات خاطفة تلمع على طرق الموت ودروب النار والظلمة وتتحول الإجابات الى أسئلة جديدة في عملية البحث التي تجدد نفسها باستمرار. وهذا المفهوم للعلاقة بين الكتابة والمعرفة يقترب من مفهوم الكتابة لدى مرغريت دوراس التي تعتبر "ان الشخص الذي يكتب لا يملك الكتاب، ان يديه خاويتان، رأسه فارغ، وإنه لا يملك من مغامرة الكتاب الا الكتابة الجافة العارية، بلا مستقبل ولا صدى" كما تعتبر في مكان آخر أن الكتابة ليست سوى "صرخات الحيوانات الليلية". ليس ثمة من فارق كبير بين نثر صلاح ستيتية وبين شعره، فثمة ما يشع هنا وهناك كاشفاً عن الماء أو الحريق، عن الثورية أو المجاز عبر زواجات مدهشة تخرج المفردات من وجودها القاموسي الآسن لتكسبها حضوراً زفافياً شبيهاً بالخواتم أو صيحات الفر أو احتكاك الرغبات. والنصوص النثرية التي يحفل بها كتاب "شاعر المنهلين" تكشف عن قدرة النثر الهائلة على التوليد والابتكار دون أن يتخلى عن بعده المعرفي ورسالته الفكرية ووضوح غاياته. كأننا نكتشف من خلال هذه النصوص المادة الفكرية الأولية التي يستند اليها شعر ستيتية قبل أن يتصفى من حطبه ورماده ويتحول الى لهب خالص. ففي هذه البحيرة الخام من الثقافات والمعارف الواسعة تسبح القطرات الهلامية للشعر وتبحث عن تشكلها النهائي عبر مصفاة المكابدة والتمرس. يبدو صلاح ستيتية من هذه الزاوية أحد المثقفين الشموليين الذين يلمون بالأسرار والمدارك ويتلمسون حركة التنازح الروحي بين الثقافات تماماً كما هو الحال مع مثقفي العصر الكبار أمثال خورخي بورخيس وأوكتافيو باث. كما ان العنصر السلبي المتأتي عن ثنائية اللغة والانتماء الفكري والوجداني يحوله الشاعر الى عنصر ايجابي من بعض وجوهه إذ انه يحول منفييْ الوطن واللغة الى رأسي جسر للقاء بين حضارتي الشرق والغرب في إطار متوسطي جامع. وربما يجيء تركيز ستيتية على تجربتيْ جبران خليل جبران وجورج شحادة كنتيجة طبيعية لإحساسه بتشابه الظروف والتجارب والمصائر بينه وبين الكاتبين اللبنانيين الكبيرين، حيث فرض على الأول أن يكتب معظم مؤلفاته وبخاص "النبي" باللغة الإنكليزية كما شكلت اللغة الفرنسية فضاء الثاني وأداة تألقه. كأن ستيتية يشعر ببعض العزاء وهو يجد لنفسه أسلافاً مشابهين له في التجربة والموقف والتمزق الداخلي سواء على مستوى الأسطورة التي جعلت قدموس يادر شواطىء بلاده بحثاً عن أخته أوروبا، أو على مستوى الحقيقة المعاصرة التي يجسدها ستيتية وجبران وشحادة وأمين معلوف وناديا تويني وفينوس خوري وغيرهم من القدموسيين الجدد. النصوص في "شاعر المنهلين" نضرة، متوترة، عميقة وقادرة على الجمع بين حرارة الوجدان وكثافة المادة العرفية. ثمة نصوص تكتنز بالشغف والانتماء الوطني المأهول بالحنين والحب والإيمان برسالة لبنان ودوره كمختبر للمغامرة والتجدد وتفاعل الثقافات. وهو ما يبدو جلياً في "بلد تحت شجة" و"صخور لبنان" و"فكرة مختصرة عن أوروبا وقدموس". كما نلمح بعد النظرة وشمولها ورحابتها من خلال التوفيق بين الشمولية والخصوصية وبين العالمية والمحلية في نصوص أخرى تتناول الحرية والشعر والثقافة المتوسطية. اضافة الى المام دقيق وتذوق مدهش لفنون الرسم والتصوير والنحت والخط والعمارة وسائر الوجوه المشرقة للحضارة الإنسانية. في "الجهة الأخرى المحترقة للبالغ النقاء" نلمح كافة العناصر التي تتألف منها شاعرية صلاح ستيتية المتميزة والمرهفة. هذه الشاعرية حاول مروان فارس ببراعة أن يتفحص وجوه تفردها في مقدمة الكتاب بدءاً من الجدليات المثلثة الأطراف التي حاول فارس البرهنة عليها من خلال المقاطع الشعرية المختلفة مروراً بالغنائية الحديثة البعيدة عن الرخاوة الإنشائية وانتهاء بهندسة الموضوعات وحركة الايقاع التي تتوزع بين العناصر السمعية والبصرية وبين طرب الأذن ومتعة العين. والحقيقة أن الإحاطة بعالم صلاح ستيتية الشعري تتطلب مجالاً غير هذا المجال لما يحفل به هذا العالم من غرابة وفرادة وقدرة على الإدهاش. انه عالم مؤلف من قصاصات أحلام ونتف حيوات وأخيلة. عالم لشدة غرابته يبدو وكأنه قادم من المناطق والرؤى والأطياف التي نراها في الأحلام، دون أن يفقد مع ذلك محسوسيته وقدرته على التجسد. لا يأبه الشاعر كثيراً بالقضايا السياسية والايديولوجية المباشرة ولا يجعل للشعر وظيفة اجتماعية أو أخلاقية محددة ومفروضة من خارجه ومع ذلك فإن شعره يسهم الى حد بعيد في ترهيف النفس البشرية وتشفيفها وفي دفع الجسد الى المرتبة نفسها من الرهافة والسمو. ثمة شيء في هذا الشعر يتواصل مع ما سمي بالمدرسة اللبنانية في الأدب التي تجمع بين نبوية جبران وعصبه الموزع بين الماء والنار، بقدر ما يتواصل مع الهندسة الجمالية لسعيد عقل وأمين نخلة ومع الطفولة التي تعدو على تلج الموت في أعمال الرحابنة وصوت فيروز. في هذا الشعر رغبات مطهرة وشبق مصفى وجمع بين الشيطان والقديس دون احتراب الثنائيات وتقاتلها الدامي. كأن شعر ستيتة يبدأ من نهاية العراك بين الثنائيات ويبني منازله على أرض المصالحة المعبدة برماد النهايات وزهر البدايات الغض. لذلك فنحن حين نقرأ عبارات مثل "ملاك الدم" و"وردة الحريق" و"أفعى معجونة بالسماء" و"وجه محروق بأعشاش" و"جواهر محروقة بالظلال" لا نشر بغرابة المفارقة بل تبدو هذه التناقضات مندغمة في الجوهر الواحد للحقيقة الكلية التي تذوب داخلها الدلالات والكائنات والأشياء. يحقق شعر صلاح ستيتية بهذا المعنى الحلم نفسه الذي يتوخاه المناضلون والراؤون والعشاق دون أن يدخل في حمأة الشعارات واللافتات والإنذارات المجموعة بل هو بدلاً من ذلك يرد العالم الى براءته، الى حضوره الفردوسي في "اللحن الأعمى وقد صنع من دموع/ مثل وشاح من الندى فوق التلال" أو في زرقة الفكر "حيث العذاب عار في الأظافر/ في صبح حقيقي للندى المجنون/ في البلد الأحمر الصافي/ موزع تحت يمامات الغيوم". لا يعني ذلك استقالة صلاح ستيتية من الصراع على الأرض أو الهوية أو الحرية بل يعني على العكس من ذلك وضع تصور لغوي وتخييلي لما تمكن أن تكون عليه الحياة في شروط تحققها الأمثل. ثمة احساس لدى ستيتية بغربة الشاعر في العالم سواء كان دخل وطنه أو خارجه لذلك فقد آمن بأن وطن الشاعر الحقيقي هو اللغة وبأنه لن يقطن في النهاية الا فوق أرض من الكلمات. أرض سرابية حنون توميء من اللحظات التي تسبق الولادة أو التي تعقب الموت، حيث تتصالح الوردة مع الزلزال واليمامة مع الفهد والضوء مع الظلمة السحيقة والمرئي مع غير المرئي. انها أرض من لغة خالصة، من استبرق العبارة وغيومها حيث لا يظل من الشهوة سوى ارتعاشها ومن الصاعقة سوى أعقاب انفضاضها ومن الخطيئة سوى خيط براءتها الواهن. في هذا العالم لا تعود هناك من مسافة بين الحسي والمجرد، بين الحقيقة والمجاز أو بين الأشياء وما وراءها. وبالشفافية نفسها يتم الحديث عن الثلج واليمامة والطفل والمصباح والشجرة والقمر والمرأة والجواهر كما يتم الحديث عن الدم والحرائق والذئاب والأسنان والإبرة والأنين. فهذه الأشياء مجتمعة تتخفف من دلالاتها القاموسية الأولى لتدخل في ملكوت الشعر بحلة جديدة هي من اقتراح الشاعر ونسيج مخيلته. المرأة في هذا العالم تغادر أغضاءها لتبدو محلومة عن بعد، والشهوة تبرق حييَّة في التخوم الأثيرية للجسد، والطفولة ترقص مع وردتها على ثلج الحقيقة العاري. "إنها حقاً لطبيعة ساحرة، حيث يفتقد الإنسان الموتى" صرخ روبرت بروك ذات يوم من فرط النشوة بجمال العالم، وهي صرخة تنطبق الى حد بعيد على أدب صلاح ستيتية وبريق لغته الساحر.