يتبادل السياسيون الإسرائيليون والفلسطينيون والأميركان التصريحات نصف الإيجابية الخجولة، أو الايجابية بالتلميح، إيذاناً بمرحلة ما بعد عرفات، واعلاناً لإنجازات وهمية حول سماح إسرائيل بمشاركة سكان القدس العرب في الانتخابات لرئاسة السلطة، أولئك الذين تريد إسرائيل ضم بلدهم من دون ان تحصيهم ضمن مواطنيها. في هذا الوقت بالذات تتنافس الصحف العبرية اليومية بشكل غير مسبوق في نشر مسلسلات رعب مأخوذة من عالم آخر عالم العلاقة بين المحتل والواقع تحت الاحتلال في غزة والضفة الغربية. وكأن ساعة جرد الحساب مع غزة وما تركته من أثر على أخلاقيات الجنود الإسرائيليين قد أزفت، فتبارت الصحف في نشر تفاصيل مرعبة تكاد تكون خيالية عن فظائع جنود الاحتلال في مرحلة تاريخية اختلط فيها القمع الاحتلالي مع لذة استهلاكية ما بعد- حداثية. ومن الصور التي صدرها الى العالم سجن ابو غريب، إلى الصور التي التقطت مع أشلاء الفلسطينيين التي تعاملت معها صحيفة"يديعوت احرونوت"24/11/2004 وتعد بنشرها كاملة في ملحق يوم الجمعة 26/ 11، لم استطع تجنب فكرة استحوذت على المشهد تماماً، ولسبب ما لا تثير الانتباه... إنها رغبة الجنود في التقاط صور لهم، وهي في الحالة الإسرائيلية صور مع أشلاء جثث الفلسطينيين. كانت الكاميرا والرغبة الجامحة في توثيق التجربة، وفي تثبيت المغامرة غير العادية، عنصرين أساسيين في جرائم ابو غريب. وفي إسرائيل وضع رأس استشهادي على حربة بندقية ووضعت في فمه سيجارة والتقط جنود الوحدة العسكرية، وهي وحدة متدينين هناحل هحاريدي، صوراً مع الرأس البشري المقطوع. وكانت الصور بالنسبة اليهم، كما قالوا، نوعاً من التعويذة التي يودون حملها معهم، هكذا ادعوا على الأقل. والتقط أفراد وحدة أخرى صوراً مع أشلاء جثة شاب مزقها الرصاص بعدما شكّوا بكونه فدائياً ولكن تبين لهم انه بريء بالعبرية يعبر عن بريء بكلمتي"حاف مبيشع"، وقد اختصروا الكلمتين في سخرية واسموا ضحيتهم اسم دلع:"حافي". كانت براءة ضحيتهم موضوع سخرية لا موضوع ندم، كما يجهدون أنفسهم ليبدو الأمر كذلك في ما بعد، أي في النقاشات البرلمانية والتحقيق العسكري. ربط الجنود جثة الشاب البريء الى سيارة جيب وجالوا بها. ليست الممارسة هنا مجرد عنصرية من نوع فرح بموت العربي ولو كان بريئاً. واجرؤ على الافتراض بأن تقاطع المجتمع الاستهلاكي وفردية النظام الديموقراطي مع قدرة الفرد على ان يكون محتلاً ان يبدع في التنكيل بالآخر وان يبحث هناك عن"التجربة"، عن الشيء الحقيقي، وأن يدفع بها حتى نهايتها كما في أجواء قنوات"ريالتي"و"اكستريم"يتحتم على الشباب الباحث عن معنى في المجتمع الاستهلاكي دفع التجربة الى أقصاها. وبإمكاننا أن نتخيل الفردية الجماهيرية الفارغة من ذلك المحتوى الذي ميّز فردية الحداثة الأولى. تخيل فردية جماهيرية هي في الواقع عملية تذرير يبدو فيها الأفراد متشابهين في زي رسمي واحد! لا شك أنها عكس الفردية، وأضف إليها حالة الاحتلال، أي حالة سيطرة على الأخر بما هو آخر، وشعور بالقوة والجبروت لدى من يبحث عن تجربة! استدعت مشاهد الرأس المقطوع والمقابلات عنه مشاهد من فيلم"بلاتون"لأوليفر ستون العنيف عن فيتنام، والذي يظهر تشوّه الشباب في وحدة مشاة في جهنم الحرب والقتال الى درجة أن يقطع جندي رأس ضحية فيتنامي ويحمله معه في الحقيبة العسكرية كنوع من التعويذة للحظ، حتى يفسد الرأس ويضايق بقية الجنود برائحته. منذ ذلك الوقت اختلط الواقع بالخيال إلى درجة تحول الواقع إلى واقعٍ فعلاً، فقط اذا تم تصويره. ولكن الفرق كل الفرق يكمن في انه في غزة لم تجر حرب من نوع الحرب التي خاضها الشباب الأميركي في فيتنام، ولم يتعرض الجنود الاسرائيليون الى ما تعرض له الأميركان هناك من جحيم الحرب. لقد تعرضوا الى مقاومة، هذا صحيح، لكن عنصر الشر يكمن في السيطرة والتحكم والنزعة الاستهلاكية. وأقصد استهلاك عملية إذلال الآخر، استهلاك تجربة القسوة، لكن لا توجد هنا حرب ضروس يتشوّه فيه طرفا الحرب. لا توجد هنا علاقة متكافئة اطلاقاً. لقد تعرض الفلسطينيون الى قدر اكبر بما لا يقاس من العنف. وظهرت لدى بعضهم مظاهر تبلد الإحساس الإنساني العادي أمام مشاعر الحقد والرغبة بالانتقام إلى درجة حمل اشلاء من جثث الاسرائيليين أمام الكاميرات بعد تفجير دبابة ومقتل أربع جنود وضابط يوم 12 أيار مايو 2004... وقد زعزعتنا هذه المشاهد التي أطلقت صفارة إنذار في ما يتعلق بما يجري للسكان الفلسطينيين هناك. وأطلق الإسرائيليون في حينه صرخة استهجان واستغراب من التمثيل بجثث جنود في دبابة معتدية على أحياء سكنية كانت كل قذيفة منها كفيلة بتقطيع فلسطينيين اشلاء. ولفت الشباب الذين حملوا أجزاء من جثث الجنود الإسرائيليين أمام الكاميرا النظر إليهم أكثر مما إلى الدبابة الإسرائيلية التي تفجرت في عملية عدوان على قطاع غزة. فزادوا بذلك سبباً لاستفظاعنا المزدوج لما قاموا به. لكن الضباط الاسرائيليين يؤكدون في مناقشتهم لأفعال وحداتهم، وليس آخرها تفريغ مخزن البندقية في جسد الطفلة ايمان الهمص ل"تأكيد قتلها"هكذا تسمى عملية إطلاق النار على الجريح الملقى أرضاً في تشرين الأول أكتوبر 2004 بعد مقتلها الإجرامي، في مسعى لمضاعفة الجريمة والتأكيد عليها، وتفاخر الفاعل بما قام به. ويؤكد حتى من يستنكر من الضباط الإسرائيليين أن ما يفعله الجنود هو جزء من التجربة القتالية... وأنهم إذ يستنكرون يرفضون العقاب كوسيلة، فالصورة مع الجثث وان كانت عملاً خاطئاً إلا أنها تبقى مجرد صورة وليس قتلاً عمداً كما يدعي احد ضباطهم. ويدعون الى التثقيف على"طهارة السلاح"وعلى"الحفاظ على الصورة الإنسانية حتى في خضم الحرب ضد الإرهاب"، ويكمن في هذه المصطلحات الأخيرة تبرير لكل شيء. ولا يرى عدد كبير من الجنود اي خطأ بما يقومون به ويستخدمون مصطلحات مثل"مجنيف"بالعبرية على وزن COOL الانكليزية لوصف ما يتمتعون به. جندي واحد في الوحدة رأى ان ما يقومون به من تمثيل وتلهي بالجثث هو عمل مشين. جندي واحد. ويبدو أنه عند ارتكاب الفعل يكون الفعل هو القاعدة، اما الاستثناء فهو ذلك الذي أثار العمل اشمئزازه الى درجة التوجه الى الصحافة. ولكن بعد النشر ستؤكد اللجان البرلمانية على ان الفعل هو الاستثناء، وسيخلقون قاعدة غير موجودة إلا في الدعاية السياسية وفي اختلاق لصورة الجيش التي بامكانهم التعايش معها في، من خلال مصطلحات"أخلاقيات القتال"و"طهارة السلاح"، التي لا ينفكون يؤكدونها منذ العام 1948 ولا تنفك الوقائع تدحضها، منذ ان أسست الوحدة 101 بقيادة شارون المفتاح ل"أخلاقيات القتال"في الجيش عمليات كوماندوس ضد قرى فلسطينية حدودية آمنة على طول الخط الأخضر. في الأسبوع الذي تلا نشر هذه الانباء عن التمثيل بالجثث نشرت صحيفة معاريف 19/11/2004 تحقيقاً طويلاً عن وحدة قناصة من الجنود الروس الذين خدموا في الجيش السوفياتي في افغانستان والشيشان وتطوعوا للجيش الاسرائيلي مع خبراتهم في"رؤية بياض اعين الشيشان"عند القتل، كما يقال بالعبرية في إشارة للقسوة الصريحة عند القتل عن قرب. خدم هؤلاء الجنود البالغين نسبياً مدة سنة في قطاع غزة من ايلول سبتمبر 2003 وحتى تموز يوليو 2004. وتحولوا الى نوع من الأسطورة في أوساط الجنود الشباب حال ولوجهم ارض القطاع. ويبدو أنهم قتلوا الكثيرين بما فيهم شباب عاديين مارة لمجرد الاشتباه بهم، فقد اعتمدوا على البديهة والغريزة في ما يتعلق بالقتل. ومرة أخرى لم استطع تجنب فيلم حربي أميركي آخر، هذه المرة عن ستالينغراد. فقد تبرع الأميركان عام 2001 بإنتاج فيلم يمجد معركة الدفاع عن ستالينغراد"العدو على الأبواب"من إخراج جان جاك انو، فالصفات التي ركب منها الجنود والصحافيون هؤلاء القناصة الروس الذين أعملوا القنص في غزة من دون حساب هي كصفات ومواهب القناص الروسي بطل الفيلم. وربما كان هذا برأيي هو السبب الذي لم ينتبه اليه أحد من وراء تحول هؤلاء الشقر الطوال القامة سريعاً إلى أسطورة. ويبدو أن الجنود الذين رأوا الفيلم تخيلوهم هكذا، خصوصاً في ما يتعلق بتتبع الضحية أياماً كاملة وساعات انتظار طويلة بالاستلقاء على البطن من دون حراك بانتظار الفريسة، واختزال الجسد الذي يتحول الى مجرد عيون، كحال العنكبوت الذي ينتظر الانقضاض على الذبابة. حتى الجيش الاسرائيلي لم يتحمل فظاظة هؤلاء الذين يتفاخرون بشرب مئة غرام من الفودكا"في صحة الضحية"التي قتلوها، كما يعلن ذلك قائدهم في التحقيق الصحافي معاريف 19 تشرين الثاني. وتورد الصحيفة الادعاء المضحك بأن هؤلاء لم يتربوا على قيم الجيش الاسرائيلي. وهذا بعد أيام من نشر التحقيق عن هذه القيم العظيمة التي تعتبر التمثيل بالجثث حالة عادية منتشرة، تجربة قتالية، لا تستحق العقاب. في هذه الايام انكشفت ايضاً بشاعة عملية قتل الطفلة ايمان الهمص 13 عاماً. انكشفت تفاصيل القضية فقط لأن هناك من قام بتهريب شريط تسجيل الاتصالات اللاسلكية بين الجنود في الموقع الذي أطلقت منه النار عليها. وقد تبين ان الضابط القاتل قائد الوحدة، وهو عربي يشار اليه بالحرف ر، يقول بصوته Sلقد أكدت القتل، حوِّل!". كما تبين ان الجنود قاموا بقتل الطفلة وهي على بعد 100م من التحصين العسكري. وكان واضحاً للجنود أن الضحية طفلة. فقد سمع الجندي في المراقبة يقول "انها بنت صغيرة"وبعد ذلك عبارة"ماتت من الخوف". ومع ذلك تواصل اطلاق النار. وربما كان مثيراً للقارىء ان يسمع مصطلحات اللاسلكي قبل اطلاق النار على الطفلة. كيف لا يحصل قتل بعد مثل هذه المصطلحات؟: "- استقبل، رأينا عربية على بعد 100م تحت الموقع في بوابة راكام بوابة خاصة بالمركبات المدرعة. - ماذا رأيتم؟ - استقبل يا روت. رأينا ماشية على رجلين مئة متر من الموقع. ملاحظة: على رجلين مصطلح لتعريف الانسان وعلى اربعة لتعريف الحيوان. - عاتف، سفراد هل ترى؟. - ايجابي، انها طفلة صغيرة، وهي تركض الأن الهدف شرقاً. - حدد موقعها. - انها موجودة الآن شمال مورشاة. الحديث هو عن موقع الطفلة. -الموقع غير صحيح. -انها الآن خلف الحفارة. 250م ..... مستمرة بالركض نحو الشرق. الاصابات قريبة منها. المقصود اطلاق النار. - الحديث عن طفلة اقل من عشر سنوات. - نعم 10 سنوات تقريباً. -انها خلف الحفارة، ماتت من الخوف، الاصابات كانت الى جانبها. سنتمتر منها. خمسة تقدم متر واحد، متر واحد، تقدم. - يهاجمونها الآن. قواتنا على بعد 70م منها. - استقبل، اعتقد ان احد المواقع انزلها. أي قتلها. - ماذا؟ هل رأيت الاصابة، هل سقطت؟ - نعم سقطت والان لا تتحرك. - استلمت. اتصال ر قائد الوحدة - لقد نفذنا عليها، نعم يبدو انها اصيبت. لغة عسكرية ركيكة. - انا وجفرور نقترب الى الامام، لتأكيد القتل، غطِّنا.... استقبل صورة الوضع.... نفذنا اطلاق نار وقتلناها. لبست سروال جينس وبلوزة، كذلك لديها كوفية، وانا أكدت القتل، حوِّل!. هذا الرجل عربي لكنه يتعمد تسمية منديل الطفلة كوفية. - استلمت. - كل ما يتحرك في هذا المجال حتى ولو كان ابن ثلاث سنوات، يجب قتله، حول"... * كاتب عربي.