«... تعالي أنت... اقتربي هنا اخلعي ملابس طفلتك... هيا اخلعيها»... صرخ الجندي الإسرائيلي في وجه والدة الطفلة مرح التي وجدت نفسها مرتبكة عاجزة عن فعل اي شيء، فلم تستوعب ما تسمعه وحدقت تراقب ما يجري من حولها حتى تعالى صوت الجندي الإسرائيلي من جديد: «قلت لك اخلعي ملابسها ثم اخلعي أيضاً «حفاضها» حتى نتأكد من عدم وجود خطر علينا». ولم يكن أمام تلك الأم إلا ان تثبت للجنود الذين اقتحموا بيتها في غزة ان طفلتها التي لا تتجاوز الأشهر الأربعة، ليست إرهابية ولا تشكل خطراً عليهم ولا على دولتهم، فنفذت الأوامر وخلعت ملابس الطفلة على رغم البرد القارس. مرح وأشقاؤها علاء ابن ال 16 وعماد ابن ال 10 وعبد ابن ال 9 وفاطمة ابنة ال 14 عاشوا ساعات رعب في ذلك اليوم الذي قرر الجيش ان يستخدمهم دروعاً بشرية في حرب غزة. هذه التفاصيل وأخطر منها اطلع عليها وزير الدفاع الإسرائيلي، ايهود باراك، في الوقت الذي كان وقيادته يطلقون التهديدات في ذكرى ما يسمونه ب «الكارثة» لكل من يفكر في تهديد أمنهم. استخدام الفلسطينيين دروعاً بشرية ظاهرة تعرضت لها نسبة كبيرة من العائلات الغزية خلال الحرب عليها وتشكل لوائح اتهام ضد متخذي قرار الحرب ومخططي العملية ومصدري الأوامر. في هذه المرحلة ما زال التحقيق ضمن مسؤولية باراك والمستشار القضائي للحكومة ميني مزوز حيث توجه مركز «عدالة» لحقوق الإنسان بطلب فتح تحقيق في تصرفات الجنود ومخالفتهم القوانين الدولية باستخدام الفلسطينيين من أطفال ونساء ومسنين وعائلات بأكملها دروعاً بشرية. وفي الرسالة إفادات لخمس ضحايا بينها عائلة الطفلة مرح. وفي حال قرر باراك ومزوز فتح التحقيق في الموضوع والتجاوب مع الرسالة فسيبقى التحقيق داخلياً في إسرائيل، أما في حال رفضت الرسالة وخرج الإسرائيليون كعادتهم بحملة نفي لهذه الحقيقة والرد عليها بالدفاع عن أخلاقيات الجيش الإسرائيلي فسينقل المركز الملف الى المحاكم الدولية بتقديم شكوى ضد هؤلاء الجنود. وتقول المحامية رنا عسلي من مركز «عدالة» والتي تقدمت بالشكوى بالتعاون مع مركز «ميزان» الفلسطيني انها ستنفذ كل الإجراءات المطلوبة في إسرائيل قبل التوجه الى المحافل الدولية حتى يتم طرح القضية بقوة، ما يضمن تحقيق الهدف منها. الإفادات الخمس التي سيطلع عليها باراك تعكس صورة سلبية لأخلاقيات جيشه. فمسألة وقوع الجيش خلال حرب غزة في كمائن تفخيخ البيوت كانت واحدة من اكثر الصعوبات التي واجهها خلال العملية، وأكد ذلك ضباط كبار ومسؤولون في الجيش. وفي الإفادات التي كان أطلقها جنود إسرائيليون لم ينكروا الخوف الذي انتابهم في هذه العمليات بالإشارة الى الاستعانة بالسكان في بعض الأحيان، لحمايتهم. والاستعانة بالسكان هي المعنى المخفف لمصطلح «الدروع البشرية» وفي القانون الدولي تعني ارتكاب جريمة بحق من وقع ضحية لها. والجيش الإسرائيلي الذي أدرك خطورة استخدامه للفلسطينيين دروعاً بشرية، استبق الكشف عن هذا الموضوع بترويجه خلال حملته العالمية، للدفاع عن نفسه بعد الانتقادات التي وجهت اليه، ان حركة حماس استخدمت السكان دروعاً بشرية عندما ركزت عملياتها في الأحياء المأهولة بالسكان ومن داخل البيوت والمباني العامة. وقد روج لذلك عبر اكثر من تقرير نشرته دوائر تابعة للاستخبارات الإسرائيلية. الإفادات الخمس، المرفقة بالرسالة التي وجهت الى باراك تشكل لائحة اتهام ضد الجيش وقيادته وكل من اصدر التعليمات باستخدام السكان دروعاً لحماية الجنود... حيث الحديث عن أطفال ونساء تحولوا الى أسرى داخل بيوتهم أو تنقلوا بين بيت وآخر خلف الجنود كدروع لحمايتهم من المقاومة. بعض هذه الصور نقلت بداية الحرب عبر القنوات الإسرائيلية المتلفزة، لكن سرعان ما اختفت عن الشاشة بعد فرض رقابة عسكرية مشددة على الإعلام. الإفادات الخمس التي سيطلع عليها باراك وقادة جيشه تعكس صورة حقيقية للأوامر التي صدرت للجنود وفيها «حياة الجندي أهم من حياة أي فلسطيني وإن كان طفلاً»، بحسب ما كشف أحد الجنود في افاداته السابقة، ويروي أصحاب الإفادات كيف أُجبر الفلسطينيون على السير في شوارع غزة للانتقال من بيت الى آخر واستباق الجنود الى البيوت التي يشكك الجيش بأنها مفخخة أو في داخلها مقاتلون فلسطينيون ثم إلزام الناس التقاط الصور لهم. وكما تقول المحامية رنا عسلي، فإن استخدام المواطنين دروعاً بشرية للجيش مناف لقرار المحكمة العليا في التماس سابق قدمته «عدالة» والذي يحرم استخدام المواطنين المدنيين وإجبارهم على مساعدة الجيش في النشاطات العسكرية. كما أن هذا الأمر محرم بموجب وثيقة جنيف الرابعة ويعتبر جريمة حرب بحسب القانون الدولي. ويعتبر دستور المحاكم الدولية الجنائية أن خرق وثيقة جنيف الرابعة هو جريمة حرب، يحق للمحكمة النظر بها ومحاكمة المسؤولين عنها. كما يعتبر دستور الهيئة القضائية، التي عينت للتحقيق في جرائم الحرب التي حصلت في جمهوريات يوغسلافيا سابقاً، أن إجبار المدنيين على مساعدة الجيش هو جريمة حرب. مجدي عبد ربه، والد الطفلة مرح، يكشف في إفادته كيف تحولت عائلته وآخرون دروعاً بشرية... ويتحدث عن ساعات الخوف التي عاشها وأطفاله وزوجته، واللحظات التي شعر فيها انه يودع الحياة، عندما تحول الى مفاوض بين الجيش وثلاثة من المقاتلين وانتهت مهمته بعد يومين عندما تمت تصفية المقاتلين الثلاثة. في افادته يعبر مجدي عن شعوره وهو يسير أمام الجنود المحتمين به كمن يمشي الى الموت. ويقول: «عندما وصل الجنود الى ساحة بيتنا كان في مقدمهم شاب فلسطيني مكبل وقد صوب الجندي الأول سلاحه نحو رأسه. اقتربت منهم تنفيذاً لأوامرهم فدفعوا الشاب جانباً وصوبوا بنادقهم نحوي وصرخ أحدهم يأمرني بخلع ملابسي والتعري تماماً وعندما تأكدوا من أنني لا احمل سلاحاً أمروني بارتداء ملابسي وطلبوا استدعاء من في الداخل فرداً فرداً. قلت لهم لا يوجد سوى أطفالي وزوجتي فأمروني بمناداتهم وفعلت، وكان أولهم ابني علاء فأمروه أيضاً بالتعري ثم ارتدى ملابسه عند اطمئنانهم انه لا يشكل خطراً عليهم فأمسكوه ورموه الى جانب الشاب الذي جاء معهم. وتابعت أنادي أبنائي عماد ثم عبد وكان مصيرهما كشقيقهما التعري والتفتيش ثم رميهما جانباً فناديت ابنتي فاطمة وكانت ترتدي «ترنق» فأمروها بشده على بطنها ويديها وساقيها ثم الدوران حول نفسها مرتين حتى جاء دور زوجتي، وكانت تحمل ابنتي مرح في حضنها، فلم يرحموا الطفلة ولا أمها وبعد الاطمئنان الى ان مرح لا تشكل خطراً عليهم اصدروا لزوجتي أوامر شبيهة لتلك التي نفذتها فاطمة حتى تحولنا جميعاً الى أسرى لدى الجنود. ويتابع مجدي إفادته قائلاً: «عندما قرروا الدخول الى البيت امسكني أحدهم من عنقي ووضع سلاحه في مؤخرة رأسي بينما احتمى بجسدي جنديان آخران واحد عن اليسار والثاني عن اليمين، فدفعوني الى الأمام وبدأوا بتفتيش البيت فيما اقتاد آخرون زوجتي وهي تحمل طفلتي مرح ومعها ابني علاء لتفتيش البيت، بعدها قرروا هدم الجدار الذي يفصل بين بيتي وبيت ابن عمي حاتم الذي لا يسكن فيه منذ فترة بعدما سافر الى الخارج. أوكلوني بمهمة الهدم وأحضروا «مهدّة» وأمروني بهدم وسط السور بما يضمن لهم ممراً فنفذت أوامرهم ثم أمروني بالدخول من هذا الممر وساروا خلفي وهم يصوبون سلاحهم نحوي وفجأة تعالت صرخات زوجتي والأولاد فيما نزل بقية الجنود عن سلالم البيت بسرعة ولم افهم ما يحدث حتى سمعت إطلاق رصاص. فدخل الجميع في حال إرباك وسقطت أنا على الأرض ثم عاد الجندي وسحبني وهو يأمرني بمواصلة طريقي عبر فتحة السور ولحقته فرقة ثانية ومعها الشاب الذي وصل الى بيتي وكان ما زال مقيداً. خلال هذه الفترة تواصل إطلاق الرصاص. الجنود الذين امسكوني دفعوني بقوة نحو بيت حاتم، وفوجئت بأن البيت كان مدمراً، لكنهم أمروني بفحص ما إذا كان يوجد أحد في المنزل... ناديت ولم يرد علي أحد، فأمرني الجنود بدخول البيت وتفتيشه ففعلت وبحثت بين الركام فوجدت ثلاثة مقاتلين أبلغوني انهم شاهدوا كل شيء وطلبوا مني ان ابلغ الجنود ما شاهدته في البيت فعدت وأبلغت الجنود عن وجود الثلاثة وبعد أن تكلموا مع بعضهم بالعبرية، قال لي أحدهم: «يقول لك الضابط إنه مجنون... وإذا كذبت علينا وحياة أمه طخك...»، فقلت له: أنا حكيت لكم ما شاهدته فقط. عندها عادوا وقيدوني وأخذوني الى بيت آخر قريب يعود الى عائلة الكتري وطلبوا مني ان انتظرهم فسمعت إطلاق نار كثيفاً ثم عادوا وأبلغوني انهم قتلوا الثلاثة. عندها أمروني بالعودة للتأكد مما حصل بعد قصف البيت... خفت... رفضت وقلت لهم ان الثلاثة هددوني بالقتل إذا عدت إليهم، لكن الجندي صرخ في وجهي وأمرني بالعودة وبسرعة وكان المكان مدمراً كلياً والنار تلتهم خزانات المطبخ. أما الشبان الثلاثة فقد كان أحدهم ينزف بشدة والاثنان بخير فحاولت مساعدة الجريح ثم قال لي أحد الشبان ان أقول للضابط إذا كان رجلاً وعسكرياً بحق فليأت الى هنا، وألا يرسلك مرّة ثانية». غادرت البيت وعدت الى الجنود وعن بعد أمروني بخلع ملابسي وبعد التأكد من عدم حيازتي أسلحة أو متفجرات أبلغتهم ما قال لي الشاب عندها هاجمني الجنود بقوة وبدأوا بضربي وركلي بالأيدي والأرجل وبأعقاب البنادق، ثم تقدم الضابط نفسه وبدأ يركلني ويضربني وكان مستفزاً، ثم قيدوني واقتادوني مرة اخرى إلى منزل عائلة الكتري، فسمعت صوت جندي ينادي عبر مكبر يطلب من الثلاثة تسليم أنفسهم وبعد ربع ساعة سمعت صوت طائرة عمودية تحوم في أجواء المنطقة، ثم صوت انفجار شديد هز المنطقة، وما هي الا دقائق حتى عاد الجنود وفكوا قيودي واقتادوني الى الخارج وكان قد حل الظلام، فذهبوا بي الى الضابط وقال لي: نحن قصفنا المنزل بالطيران والآن هم ماتوا، اذهب وتأكد من أنهم ماتوا، ولا تكلم أحداً فأجبته ان الوضع صعب ولا أستطيع الوصول قال: «دبر حالك يلا»، ودفعني بقوة، فذهبت وأثناء نزولي من سلالم بيت حاتم أضاء الاحتلال المكان بالإنارة من خلال كشافات كان مصدرها المسجد ومنازل الجيران. دخلت الشقة بصعوبة، فشاهدت في داخلها الشبان الثلاثة وكانوا على قيد الحياة، لم أستطع مساعدتهم لأن تحركاتي مراقبة من الجنود، فغادرت المكان مسرعاً، وعن بعد امرني الجنود بخلع ملابسي مرة أخرى، ثم قلت للضابط انهم تحت الركام، فأعادوني الى عائلة الكتري مرة خامسة وبقيت جالساً على كرسي بلاستيكي مقيد اليدين والساقين، لمدة 30 دقيقة، كان الجو العام هادئاً لم أسمع خلال ذلك إطلاق نار، ثم شاهدتهم يخرجون الرجال والنساء من الغرف إلى الطابق الثاني من منزل الكتري نفسه، وبعد مرور 30 دقيقة شاهدت جنوداً يدخلون المنزل ويخرج منه جنود آخرون، وكأنهم يبدلون الحراسة ثم تقدموا وفكوا قيود ساقيّ، واقتادوني الى اعلى، ووضعوني في غرفة صغيرة داخلها حمام حُشر فيها جميع الرجال والنساء المحتجزين في المنزل، حيث كان الرجال مقيدي اليدين، كنت أرتجف من شدة البرد، فوضعت إحدى السيدات حراماً على جسدي. تركني الجنود في الداخل وتوقف أحدهم على باب الغرفة، كنت أشعر بصداع عنيف، وأحسست ببرد شديد وأخذت بالصراخ والأنين، فنادى أحد الرجال الجنود وطلب منهم علاجاً، فقال له بالعبرية بعض كلمات، ترجمها الرجل لي قائلاً: يقول لك إذا لم تسكت فسيطلق النار عليك، ثم شاهدت الجندي يكسر عدداً من الكؤوس والصحون الزجاجية على باب الغرفة، وبدا وكأنه مستفز، بعد ذلك سألت عن الوقت فقال لي المحتجزون انها الواحدة والنصف ليلاً... ربطت إحدى النساء عصبة على رأسي للتخفيف من الصداع، حاولت النوم ولم أستطع، وفي ساعات صباح اليوم التالي اقتادني الجنود الى الشارع وكان البرد قارساً، أجلسوني تحت شجرة فسمعت الجندي يطلب عبر مكبر الصوت من المقاتلين الثلاثة ان يسلموا أنفسهم خلال ربع ساعة. فلم يرد أحد فدخل جنود الى بيت الكتري واصطحبوا اثنين من الشبان. أوقفوهما على الحائط المقابل لمكان وجودي، ثم تكلم معهما الضابط وأعطاهما كاميرا لتصوير المنزل، فرفضا، عندها انهالوا عليهما بالضرب بقوة، بالأيدي والأرجل وأعقاب البنادق، ثم أجبروهما على الذهاب ومعهما الكاميرا، فدخلا من باب منزل حاتم حيث المكان المدمر بالكامل. بعد دقائق عاد الشابان وسلما الكاميرا للجيش، فجاءني الجندي وقال: هؤلاء هم من شاهدتهم، فنظرت الى الصور وأجبته بنعم. عندها صرخ وقال: أنت كنت تكذب علينا وانهالوا علي بالضرب ثم قيدوني مرة ثانية، كما قيدوا الشابين، وأجلسونا بجوار بعضنا بعضاً تحت الشجرة ذاتها، وبعد مرور 20 دقيقة شاهدت جنديين يصطحبان كلباً بوليسياً ضخماً أسود اللون، ثم اتجها نحو الضابط، وشاهدت سماعات في أذني الكلب، وما يشبه الكاميرات الصغيرة أعلى رأسه، كذلك شاهدت أسلاكاً قد ربطت في أرجله وبطنه ثم رفعوا كمامة عن فمه، وضربوه على ظهره، فشاهدته يسرع نحو المنزل، وبعد وقت قصير سمعت صوت إطلاق نار في منزل حاتم نفسه فنبح الكلب وخرج وكان ينزف، فأخذه الجنود بسرعة إلى داخل منزل الكتري، ثم سمعت الجنود يصرخون، ونادى أحدهم عبر مكبرات الصوت قائلاً: معكم ربع ساعة سلموا أنفسكم، وما هي إلا دقائق حتى أطلق الجنود النار باتجاه منزل حاتم، ثم بدأت الجرافة بهدم الحائط الخارجي لمنزلي وتقدمت نحو منزل حاتم وبدأت بهدمه، فدمرته بالكامل. وقبل الانتهاء من جرفه اقتادني الجنود أمامهم في جولة على عدد من البيوت المحاذية لبيت حاتم وأمروني بالمشي أمامهم، ووضعوا سلاحهم في ظهري وقبل الدخول الى البيت كانوا يأمرونني بفتح ممر لهم وفعلت ذلك قبل دخولنا الى بيت جمعة عبد ربه، ثم دخلوه وفتشوه. وانتقلوا الى بيت آخر وأمروني بكسر بابه الرئيس قبل هدم الجدار الذي يحميه... وهكذا تنقلت بين خمسة بيوت. كانوا يعبثون بالمنازل التي دخلوها، منزلاً منزلاً وهم يحتمون بي، ولما عدنا الى بيت حاتم كان بيته مهدوماً كلياً وجثث المقاومين الثلاثة في الخارج... عندها غادروا المكان وأطلقوا سراحي.