كتبت ماري كولفن في"الصنداي تايمز"الأحد تحقيقاً طويلاً في عنوان"عرفات الذي عرفت"، ويوم الاثنين قرأت في"كريستيان ساينس مونيتور"مقابلة مع لاندروم بولنغ، وهو مسؤول أميركي سابق كان الوسيط السري مع ياسر عرفات لإدارتي كارتر وريغان، عن ذكرياته مع أبو عمار، وفي كل يوم هذا الاسبوع ذكريات لسياسيين وصحافيين مع الرئيس الفلسطيني الراحل. كولفن صحافية كبيرة تحترم نفسها والقارئ، وذكرياتها صحيحة ومؤثرة، مع انني والقارئ قد نختلف مع بعض آرائها. وقد وجدتها تقول ان الرئيس الراحل حافظ الأسد سجن أبو عمار وحكم عليه بالموت، غير ان الواقع هو أن الكاتبة تشير الى موضوع من الستينات، عندما مثل عرفات أمام محكمة عسكرية برئاسة مصطفى طلاس وزير الدفاع في ما بعد. أما الرئيس الأسد فتسلم الحكم بعد 0791 وقد أصبح أبو عمار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وهو بالتالي يعامل كرئيس دولة عربية وعنده حصانة. كذلك تقول كولفن ان ياسر عرفات ولد في القاهرة، لا القدس، وهناك جدل حول الموضوع إلا أن ما أعرف هو أن والده كان يملك دكاناً قرب الأزهر في القاهرة وزوجته معه، غير انها بعد أن حملت رجعت الى القدس لتضع ابنها تحت رعاية أسرتها، وهذا تقليد عربي معروف، ثم عادت مع رضيعها الى القاهرة، والأرجح انها لم تسجل ولادته في حينها. ومعلوماتي من جيران أسرة عرفات في القدس، وبعضهم شخصيات فلسطينية معروفة، وهناك اثنان في مثل عمره، وقد وصفا لي بدقة ذكرياتهما من تلك الأيام. وعند السياسي اللبناني كريم بقرادوني رسالة بخط عرفات تقول انه ولد في القدس سنة 9291، واسمه محمد عبدالرؤوف عرفات القدوة الحسيني. هذا تفصيل وماري كولفن صحافية معتدلة وعادلة. أما لاندروم بولنغ فقدم وصفاً متوازناً لعلاقته مع قائد الثورة ورأيه فيه، وهو نفى عن أبو عمار تهمة الإرهاب، ولكن لامه لأنه لم يبذل جهداً أكبر في منع العمليات الانتحارية. وهذا رأيي أيضاً. ولم أستغرب انصاف بولنغ في حديثه عن عرفات، فهو صاحب الكتاب"البحث عن السلام في الشرق الأوسط"الذي حكى فيه تجربته في الوساطة السرية مع عرفات بدقة متناهية. كنت في أواخر السبعينات قمت بالوساطة نفسها، من طريق قناة سرية اخرى، مع ياسر عرفات، وكان الاقتراح من ادارة كارتر مدعوماً بديبلوماسية دولتين عربيتين، ان يقبل أبو عمار القرار 242 مع كل التحفظات التي يريد، ليبدأ الرئيس جيمي كارتر جهداً لإقامة دولة فلسطينية. وقد كتبت عن هذه التجربة بما استطعت من تفصيل. أتوقف هنا لأقول ان عندنا مثلاً هو"اللي بيكذب بيكذب على الميتين..."والمعنى واضح، وأبو عمار رحل عنا، فأتوقع ان أقرأ ذكريات كثيرة، وربما مذكرات، من ناس صادقين مثل كولفن وبولنغ، ومن محترفي كذب وتلفيق، ممن اعتادوا اصدار الكتب بعد وفاة الرجل أو المرأة موضوعها. لذلك فأنا أعد القارئ بألا أكتب أي ذكرى أو ذكريات عن الرئيس الراحل، إلا اذا كان الموضوع مسجلاً في السابق، وقد نشر في حياته مرة أو أكثر. وإذا وجدت شيئاً غير منشور من نوع بعض مكالماتي الهاتفية معه بعد الحصار في المقاطعة، فسأحاول أن أجد عليه شهوداً عدولاً، وأهم من ذلك أن يكونوا أحياء يمكن سؤالهم. والواقع انني كتبت عن الوساطة حول القرار 242، وعن ذكرياتي مع أبو عمار من الأردن الى لبنان وسورية، والى تونس، وحتى نهاية المطاف في المقاطعة، وبعض المكالمات الهاتفية بعد ذلك، فمن شهودي على هذه الأخ محمد دحلان والأخ محمد رشيد وآخرون. أكتب هذا لأن عندي تجربة شخصية سابقة مع"الكذب على الميتين"، فقد اغتيل كامل مروة، مؤسس"الحياة"في مكتبه في"دار الحياة"القديمة في بيروت في 61 أيار مايو 6691. وكنت في تلك الأيام في"الديلي ستار"، ومن الاخوان والزملاء الذين كانوا في الدار ذلك اليوم أخي عرفان نظام الدين، وأخي محمد الملاح أبو مصطفى المسؤول عن الانتاج في"الديلي ستار"في حينه، وفي"الشرق الأوسط"في لندن، ثم"الحياة"بعد ذلك. وأبو مصطفى هو الذي حمل كامل مروة، رحمه الله بين ذراعيه وأنزله الى سيارة الاسعاف في الطريق، واصطبغ قميصه بدم الناشر الذي أصابته رصاصة قاتلة في القلب. هذا كله مسجل في السابق والشهود عليه أحياء، غير انني أستعيد الشريط لأنني فوجئت بعد وفاة كامل مروة بأن صحافيين صغاراً وكباراً أخذوا يحدثون، أو يكتبون، عن علاقتهم"الوثيقة"به. وسمعت، أو قرأت، عجباً فهناك من زعم انه بنى علاقة كامل مروة مع هذا البلد أو ذاك، وهناك من زعم انه كان يساعد الناشر الراحل في كتابة مقالاته، بل يمنعه من نشر بعض الآراء، وينصحه بتعديلها. عرفت كامل مروة على مدى أربع سنوات، وحتى يوم وفاته، ولا أذكر ان أحداً ما كان يملي عليه شىئاً أو ينصحه. ولا أذكر ان"أصدقاء"كامل مروة المفاجئين دخلوا على مكتبه أو رأيتهم يأتون معه أو يخرجون. اقتصرت علاقتي مع رئيس تحرير"الحياة"الراحل على حالات نادرة كان يعطينا فيها خبراً خاصاً للترجمة والنشر في"الديلي ستار"، وعلى حالات أندر عندما يكون عندنا خبر خاص نعرضه على الأستاذ كامل ليقرر ان كان يريد نشره في"الحياة". أما ما عدا ذلك فأعترف بأنني لم أقترح عليه ما يكتب، ولم أمنعه من كتابة شيء، خصوصاً أنه لم يستشرني يوماً. أقول انه اذا كان هذا الكذب والتلفيق تبع اغتيال كامل مروة، فإن القارئ قد يتصور كمية الكذب الآتية علينا، وقد رأينا مقدمها في الحديث الممجوج عن أموال أبو عمار وحصة السيدة سهى عرفات. عندي للقارئ آخر ثلاثة اتصالات لي مع الرئيس الراحل تحت الحصار في المقاطعة، وعليها شهود، فما كنت أنشرها على رغم بساطتها لولا الشهود. - قلت للأخ أبو عمار مرة على الهاتف انني أريد أن أطمئن على معنوياته، وكان في حال طيبة، فرد:"أنا عاوز أطّمن على معنوياتكم". - في الاتصال التالي، وكان قبل الأخير، كان متضايقاً جداً، وسألته: كيف الحصار معك يا أبو عمار؟ ورد بصوت غاضب عالٍ:"ده مش حصار ده سجن، سجن. إزاي القادة العرب يقبلوا كده. أنا مش رئيس عربي؟"، ثم أكمل يسألني:"سامع صوت التجريف؟"، ولم أفهم المقصود وهو يكرر: التجريف... التجريف... باللهجة المصرية. ثم فهمت ان جرافات اسرائيلية تثير ضجة حول مقرّه لإزعاجه. - الاتصال الأخير كان قبيل عيد الميلاد الماضي وسألت أبو عمار ممازحاً: هل ستصلي في عيد الميلاد مع الكاثوليك؟ ورد بحماسة:"طبعاً، ومع اخوانّا الارثوذكس كمان وراح اصلي مع الأرمن. دول ناس طيبين. وكمان مع البروتستانت... دول كلهم اخوانّا". إلا أنه لم يصلِّ مع أحد فحكومة الجريمة في اسرائيل منعته من ترك المقاطعة، ولم يخرج الا مريضاً ليموت بعيداً من الوطن الذي طلبه العمر كله. رحمه الله ورحمنا معه.