لا جديد تحت الشمس الفلسطينية. هاتفت أبو عمار من القاهرة الى رام الله في الثانية صباحاً، كما فعلت ذات ليلة سنة 1982 من واشنطن الى الفاكهاني. قلت للرئيس الفلسطيني: مضى عليك في الحصار أكثر من سبعة أشهر أليس كذلك؟ وقال: هذا ليس حصاراً. هذا سجن. أنا سجين. هذه مواجهة عمرها 20 سنة وسبعة أشهر. ورفع أبو عمار الهاتف المحمول على ما يبدو وسألني: هل تسمع صوت التجريف؟ ويقصد حركة الجرافات حول مقره. انهم لا يريدون ان أنام. قطعوا الماء والهاتف، وأكثر الوقت يقطعون الكهرباء. قال لي وزير زار أبو عمار قبل يومين ان روائح كريهة منبعثة من حول ما بقي من المقاطعة، والاسرائيليون يرفضون اخراج القمامة، وقد عرضوا ان نخرج القمامة من مقر الرئيس بسيارة الطعام المبردة... وأترك للقارئ ان يقدر مدى الحقد واللؤم والمرض الذي ينهش حكومة السفاح آرييل شارون، وألا ينسى الاهانة التي تصيب كل فلسطيني وعربي ومسلم. قال أبو عمار ان قادة عرباً ومسلمين، ومن حول العالم، اتصلوا به ليطمئنوا عليه، ويشجعوه على الصمود. إلا أنه أضاف انه يدرك ان الحل في أيدي الأميركيين، وهو ينتظر تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي الذي طلب من اسرائيل وقف عملياتها ضد مقر الرئيس الفلسطيني والانسحاب. أبو عمار لا يعرف ماذا سيحدث غداً أو بعد غد، إلا أنه صامد، كان صوته جيداً وكما أعرفه، وهو قال لي غير مرة: الله كبير، الله بيفرجها، وزاد انه واثق من أن القضية الفلسطينية ستنتصر لأنها أكبر قضية عادلة في العالم. حاولت أن أسري عن الصديق القديم قليلاً، وقلت له انني سأرسل اليه فريقاً من الفضائية اللبنانية LBC لمقابلته في مقره. وقال: لن يصلوا، أنا سجين، ممنوع من مقابلة أحد. ووعدته بأن نظل في انتظاره حتى تفتح الأبواب، وتذكرت زجلاً فلسطينياً قديماً كنا نهاذر أبو عمار به في بيروت هو: أبو عمار يا منصور/ وبسيفك هدّينا السور. وأقول الآن: يا أبا زهوة، أي سيف، وأي سور! كنت توقعت أن يعاتبني أبو عمار على بعض ما كتبت، فقبل أسبوع من خطاب جورج بوش في 24 حزيران يونيو الذي دعا فيه الفلسطينيين الى عزل أبو عمار، كتبت في هذه الزاوية خطاب استقالة اقترحت على الرئيس عرفات ان يلقيه ليترك الأميركيين والاسرائيليين يتدبرون أمورهم مع حركة المقاومة الإسلامية المصرة على مواصلة العمليات الاستشهادية/ الانتحارية. الا ان أبو عمار لم يعاتبني، وانما قال لي: الله يبارك اللي تكتبه. وقلت له متشجعاً انني كتبت قبل أيام انه لم يضيع الفرصة، وان الذي يلومه اليوم، يستطيع ان يتقدم ويوقع اتفاقاً من دون أكثر القدس العربية والحرم الشريف، كما عرض على ياسر عرفات. وهو قال انه قرأ هذا المقال، واعتقدت مرة أخرى أنه يجاملني، الا انني فوجئت بمناقشته معي شيئاً كتبته عن الولاياتالمتحدة قبل أيام. ويبدو أن أبو عمار يقرأ كثيراً هذه الأيام، كما يفعل أي سجين. كنت انتقدت الولاياتالمتحدة بحدة، الا ان أبو عمار لم ينتقد، فهو نادراً ما يهاجم أحداً. ولعل القارئ يستغرب ان يسمع انه لم يهاجم شارون بكلام من نوع ما أقول، أي أنه مجرم حرب، وسفاح يجب أن يحاكم أمام محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي بتهمة ابادة الجنس، قبل سلوبودان ميلوشيفيتش، أو أي مجرم آخر. مرة أخرى، آرييل شارون سفاح ومجرم حرب ارتكب جرائم ابادة جنس، وقد كررت العبارة لأنني أعرف أن رأي القارئ من رأيي. وكلانا يحب أن يسمعها أو يقولها مرتين، وربما ثلاثاً وأربعاً. ولكن أبو عمار لا يقول أكثر من أن شارون لا يريد السلام، وانه يحاول جهده تخريب أي فترة هدوء، حتى لا تتبعها خطوات على طريق السلام. شخصياً لا أكاد أصدق ان أبو عمار عاد الى مثل حصار بيروت، فآخر مرة رأيته كانت في نهاية كانون الثاني يناير من السنة الماضية فقط، وكان الفلسطينيون والاسرائيليون انجزوا 99 في المئة من التسوية بينهم، في اجتماع طابا، وأعلنوا انهم لم يكونوا اقرب الى السلام منهم الآن أي في ذلك الوقت. قال لي وزير فلسطيني حدثته بعد مهاتفتي أبو عمار مباشرة: قل لأصدقائك في "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ان عملياتهما العسكرية لن تحرر الأرض، بل تعرض حياة ياسر عرفات للخطر، وتعطي آرييل شارون عذراً لاجتياح قطاع غزة. وأضاف الوزير: قل لهم انه إذا ذهب أبو عمار، وأقام الأميركيون والاسرائيليون بديلاً عميلاً في مكانه، فسيصبح الهدف اسقاط البديل العميل هذا، وليس تحرير الأرض. أبو عمار لم يطلب شيئاً، وسألته ماذا أستطيع أن أفعل له، واكتفى بالقول: خليكو معانا. الله كبير. الله بيفرجها.