فضحت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 مساوئ أميركا بما هي قوة قصيفة، تستقوي بنزوات، بل بنزعات القوة والهيمنة. حرب أفغانستان، ثم غزوها العراق وفرا البرهان الدامغ على منطق الاستقواء الذي يسم السياسة الأميركية، على الأقل في منحاها المحافظ. وتسببت سياسة المحافظين في شيوع البؤس بل الانتكاص الثقافي في شريحة عريضة من المجتمع الأميركي، الأمر الذي حدا بالكاتب فيليب روث الى دق ناقوس الخطر مذكراً بأن "تربية الجمهور الأميركي تستند الى التجهيل". فالمناخ العام السائد ينحو الى غياب الفكر النقدي. وقد تولدت عن الصدمة مشاعر الهوس pathos، بدل العقل logos. واشتغلت آلة النبذ والإقصاء، وبمعية أو بتحالف مع بعض وسائل الإعلام تمت مناهضة أي نبرة نقدية لتفسح المجال لهيمنة النزعة الوطنية الشعبوية. والكتاب الذين تجرأوا في البداية، في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول، مثل سوزان سونتاغ، غور فيدال، نورمان مايلر، بول أوستير، ناعوم سشومسكي، على نقد سياسة بوش، تعرضوا لحملة ماكارثية عشواء وفرت الدليل على سيادة الفكر الأوحد. انتهت الشجاعة الفكرية لهؤلاء الأدباء والمثقفين بكسر بعض من الجليد مما حدا بكوكبة أخرى الى طرح أسئلة جديدة حول ماهية الأميركيين، ومستقبل أميركا ما بعد الحرب، وطبيعة الثقافة السياسية الأميركية، والوضع الداخلي والدولي في حال إعادة انتخاب الرئيس بوش لولاية جديدة! أسئلة مستقبلية لجيل قد يستيقظ غداً على هول الكارثة. وكان لشريط مايكل مور، رمزية دق الإسفين في نعش نظام جورج بوش. خارج أميركا ارتفعت أصوات كثيرة عالمية في ميدان الفن، والسينما والرواية، منددة بتسيير الرئيس بوش للشأن السياسي داخل أميركا وخارجها. الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس، الذي يدرّس في انكلترا، ويتردد باستمرار على أميركا والمكسيك، أصدر مذكرات قادحة في حق الرئيس بوش وحاشيته المحافظة. كارلوس فوينتيس الذي تميزه مواقفه المناهضة للديكتاتوريات ودفاعه عن الديموقراطيات وحقوق الانسان متضلع في الشأن الأميركي في أبعاده الثقافية - السياسية - الاجتماعية، بحكم الجوار الجغرافي والعلاقات التاريخية المعقدة بين المكسيك وأميركا بما يكتنفها من حيطة ورغبة في الانصهار في النموذج الأميركي. ليست المرة الأولى يتدخل فيها كارلوس فوينتيس في المشهد السياسي الأميركي من باب المقالة أو من باب الرواية التي ينطبع في شخوصها وأحداثها حرص التنديد بحضارة "اليانكي" و"الغرينغوس" بما هي تحقير للسكان الأصليين، وتبخيس لتاريخهم ورغبة في تحقير، بل طمس معالم حضارتهم. "ضد بوش" كتاب فوينتيس الصادر حديثاً عن منشورات غاليمار 211 صفة، يدمغه حرص تمرير خطاب مباشر، برسالة بيداغوجية واضحة. الكتاب عبارة عن مذكرات شرع فوينتيس في تدوينها ما بين أول آب أغسطس 2000 و6 حزيران يونيو 2004، لحظات التقطها ك"جواب فوري على أحداث ساخنة في أمل أن يقام نظام دولي تعددي، يشعر الأفراد في أحضانه بالأمان مع فك النزاعات السياسية من خلال الحوار الديبلوماسي". منذ البداية يمسك فوينتيس بعقدة النظام الجمهوري التي تلخصها المعادلة الآتية: البترول يبرر السياسة والعكس بالعكس. الوزن الذي كسبه ريتشارد شيني يقدم البرهان على أن مصالح أميركا تصب في مصالح الشركات الأميركية. غادر ريتشارد شيني الإدارة العمومية الى رئاسة شركة هاليبورتون المتعددة الجنسية والتي يقارب رأسمالها 15 بليون دولار في السنة والتي تحوي مئة ألف موظف، ليصبح أحد المدافعين النشطين عن التوأمة بين البترول والسياسة. وللإشارة فإن شركة هاليبورتون هي أكبر شركة أميركية في مجال التكنولوجيا والمعدات البترولية. وسبعون في المئة من أنشطتها خارج الولاياتالمتحدة. وبما أن بوش الإبن دشن رحلته المهنية في الصناعة البترولية مثله مثل والده، فإن الوسط الذي يتحرك فيه وحاشيته تفوح منه رائحة البترول. مصالح شركة هاليبورتون تمتد من الجزائر إلى أنغولا مروراً ببحر الشمال، الشرق الأوسط، برمانيا، البانغلادش. لكن هذه السياسة تضرب في أعماق تقاليد تميزها العجرفة بل والوقاحة. سبق لكاتب الدولة الأميركي في عهد إيزنهاور، جون فوستير دولز، أن صرح: "ليس لأميركا أصدقاء بل لها مصالح فقط". يقول كارلوس فوينتيس ان أميركا تتوافر على مؤسسات قوية، لكن المزاج الشعبي ميال بطبعه إلى الحقد والانتقام. إنه الامتحان الذي ستمر به هذه المؤسسات. تعيين ريتشارد شيني يندرج ضمن منطق تماس الأطراف المحافظة وتعاضدها، وفي هذا الأفق يأتي تعيين جون أشكروفت في الإدارة الأميركية وزيراً للعدل. كان هذا الأخير ألد أعداء الإجهاض والمثليين والحركة النسائية. درس أشكروفت في جامعة بوبي جونز التي ناهضت باسم قيم محافظة بالية الزواج المختلط بين البيض والسود. وإحدى الأفكار التي ناضل من أجلها أشكروفت هي رفض تعيين قضاة سود، وساند حكم الإعدام. ويتساءل فوينتيس كيف يمكن شخصاً تضرب أفكاره ومشاعره في تربة التقليد الرجعي أن يتقلد مهمة وزير للعدل؟ في ولايته الأولى يقول كارلوس فوينتيس، ان بمجرد ما انتخب بوش رئيساً، تخلص من الأشخاص الذين عملوا إلى جانبه في الحملة الانتخابية لتعيين رجال الظل الذين كانوا يحركونه كدمية، أولئك الذين ألهموه أفكاره لأنه غير قادر على تكوين جملة مفيدة. واقتصر بوش على إلإدلاء بمزحات سخيفة، اتخذ كل من دونالد رامسفيلد، ديك شيني، كوندوليزا رايس التي أطلق اسمها على دبابة من صنع جديد، القرارات الكبرى. في اللغة الإسبانية يعني اسم "بوش" القاتل. ترى عندما كان الرئيس بوش حاكماً لولاية تكساس، ألم تسجل ولايته أكبر عدد من الإعدامات؟ يرى فوينتيس أن ثمة أسباباً مباشرة تفسر وقوع أحداث 11 أيلول: باستثناء تسلل بانشو فيلا إلى النيو - مكسيك عام 1917، لم تتعرض أميركا في تاريخها لهجمات مباشرة داخل ترابها الوطني. هناك من يفسر هذه الهجمات بالحقد التاريخي النامي تجاه أمريكا من لدن دول استعمرت أو أهينت من طرف أميركا. اللائحة طويلة، لكنها لا تكفي لتفسير ظاهرة الحقد. في ما يخص الدول العربية الإسلامية، فإن الفتنة التي لا تقدر الأنظمة المحلية على قمعها هي تلك التي تتم باسم الدين. لا يمكن وضع حد للتطرف في هذه الدول لأنه يشكل صمام أمان لغضب ينصب على أميركا في غياب إفراغه على الأنظمة العربية الحاكمة. لكن السبب العميق للتطرف يكمن في الفقر والتخلف والجور وإهانة الأفراد... وحدها التنمية قادرة على لعب دور الدرع بين الإرهاب والفقر. تبعات أحداث 11 أيلول على حرية التعبير داخل أميركا كانت سيئة للغاية. في هذا الباب قام فوينتيس بجردة لبعض التحرشات التي تعرض لها الصحافيون والمبدعون: بيل ماهلر مقدم البرنامج التلفزيوني "بوليتكلي إنكوريكت" الذي فقد سند الإعلاميين لما صرح في برنامجه بأن الإرهابيين ليسوا جبناء. توم غوتينج طرد من صحيفة "تيكساس سيتي سون" بعد انتقاده لتصرف الرئيس بوش غداة الهجمات الانتحارية. باربارا لي التي انتقدت الحقوق المطلقة التي منحت للرئيس بوش، تلقت تهديدات اضطرتها إلى تجنيد حرس شخصي لحمايتها. دان راثر بكى على شاشة التلفزيون مصرحاً "سأعمل ما يأمر به بوش". سوزان سونتاغ أعلنت أنها خجولة من الديموقراطية النامية على النمط الجمهوري. أما ستيف فاسيرمان، الناشر لأهم ملحق أدبي أميركي "بوك ريفيو" لصحيفة لوس أنجليس تايمز، فأشار إلى أن "الأميركيين يعانون أمنيزيا فقدان الذاكرة جماعية متواترة". إلى هذه المواقف الشجاعة على المستوى الداخلي ثمة مواقف اتخذها مثقفون غربيون من بينهم: الكاتب الألماني غونتر غراس، الاسباني خوان غويتيسولو الذي تخوف من أن ينتج من العمليات الانتحارية ضد مركز التجارة عسكرة للمجتمع الدولي. توقع كارلوس فوينتيس وقوع الكارثة في العراق، لأن نشوة انتصار أميركا في أفغانستان "أثملت" إدارة بوش ودفعتها إلى الهجوم على صدام حسين. وكما كان متوقعاً انتصر بوش في حربه على العراق. ولكن يوماً بعد يوم يخسر بوش السلام في العراق، تغلب الجنون الأعمى لرئيس ذي يقينيات تنقسم قسمين: أصحاب الخير وأصحاب الشر. سقط صدام حسين الذي كان الابن المدلع للرئيس ريغان ودونالد رامسفيلد في الثمانينات، وتبين أن أسلحة الدمار الشامل لم تكن سوى أكذوبة. نفذت اختيارات بوش في العراق، لأنها خطيرة التوجه والغائية. لم يخف كارلوس فوينتيس قناعاته السياسة ولا تردد في اختيار المرشح الديموقراطي جون كيري الذي له قدرة ترميم الوضع الدولي: اليوم، يقول فوينتوس، وأميركا على وشك انتخابات رئاسية حاسمة، يبدو جون كيري قادراً على إعادة الثقة لعالم مثخن بالخوف وفقدان الثقة. إن بقي بوش فإنه سيخسر وإن فشل في الاقتراع الرئاسي فإنه سيخسر أيضاً. لأنه حول أميركا بلداً عدواً لنفسه.