حتى قبل ان يتأكد ترشيح الحزب الديموقراطي لجون كيري في مواجهة الرئيس جورج بوش الجمهوري، كان واضحاً ان السياسة الخارجية تهيمن على حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو ما افاد منه كيري. ذلك ان خبرته كعضو في مجلس الشيوخ لأكثر من20 سنة، وكمحارب سابق في فيتنام، لعبت دوراً في اختياره لمواجهة بوش الذي اعلن نفسه "رئيس حرب في عالم ما بعد 11 ايلول سبتمبر". ومع تدهور الوضع في العراق في شكل متزايد، وتعثره في افغانستان، احتدم السباق الى البيت الابيض بين الرجلين، وكذلك الجدل حول السياسة الخارجية لكيري، وهل يمكنه وقف الانزلاق في العراق نحو الفوضى، وربما الحرب الأهلية، كما حذر اخيراً تقرير الاستخبارات الاميركية. وسعى دان فيلدمان المسؤول عن ترتيب فريق السياسة الخارجية في معسكر كيري، الى رسم سياسة تتباين مع الحزب الجمهوري، وهو ما يستغله الجمهوريون لاتهام خصومهم بالميوعة والارتهان الى ارادة دول ليست صديقة للولايات المتحدة، إن لم تكن معادية لها. كيري أقرب الى بوش الأب وشدد فيلدمان على الحاجة الى ادارة ديبلوماسية اكثر مهارة، من دون التخلي عن فكرة استخدام القوة الحذرة. ويبدو، في سياق شرحه لسياسة كيري الخارجية المفترضة، كأنه يتبنى السياسة الخارجية لجورج بوش الاب. فعلى رغم ان بوش الأول بات جزءاً من تاريخ ما قبل 11 ايلول، فإن سياسته الخارجية التقليدية التي رسمها مستشار الامن القومي برنت سكوكروفت، عادت الى السطح عام 2002، بسبب انتقادات الأخير المتواصلة للتصعيد نحو حرب على العراق. ومع ان الديموقراطيين كانوا يعتبرون سكوكروفت بطل سياسة خارجية قصيرة النظر، ضحت بالقيم الأميركية من اجل الحفاظ على علاقات مستقرة مع الدول الكبرى، وتفادي التورط بنزاعات مثل البلقان، فإن انتقاده سياسة بوش الابن "المتهورة" وسط صمت ديموقراطي في حينه، وفر للديموقراطيين عام 2004، غطاء مقبولاً لسياسة خارجية وسطية بديلة، لا تتخلى تماماً عن استخدام القوة في حال استنفاد كل الوسائل السلمية بالتعاون مع القوى الكبرى في العالم. ووافق راند بيرز رئيس مستشاري كيري للشؤون الخارجية، على ان عقيدة سكوكروفت في السياسة الخارجية تنسجم مع تفكير كيري. ومعروف ان سكوكروفت زار بكين سراً قبيل مجزرة ساحة تيانانمين ليطمئن الصينيين الى أن العلاقة بين الحكومتين لن تتأثر بالضرورة بسبب التنديد بالصين في اوساط الرأي العام الاميركي. إلا ان كيري لم يحدد بأي تفصيل سياسته الخارجية إزاء عدد من القضايا الدولية، بما فيها العراق والصراع العربي - الاسرائيلي، على رغم انه اعطى ملامح عنها في خطاباته وتصريحاته الصحافية واختياره المستشارين. وبات معروفاً ان غالبية فريقه للسياسة الخارجية ستتألف من المخضرمين ضمن ادارة الرئيس السابق بيل كلينتون. ويعتبر عضو مجلس الشيوخ جوزف بايدن المرشح الأقوى لمنصب وزير الخارجية في حال فوز كيري، ينافسه ريتشارد هولبروك السفير السابق لدى الأممالمتحدة الذي ترشحه اوساط كلينتون. ويتوقع ان يشغل بيرز نفسه وجوناثان واينر، وهما من البيروقراطيين الذين عملوا في الكونغرس، مواقع اساسية في صوغ السياسة الخارجية في ادارة ديموقراطية، علماً ان بيرز، المرشح لمنصب مستشار الامن القومي، كان يعمل حتى قبل اقل من سنتين، في مجلس الأمن القومي ضمن ادارة بوش. وكان كيري ألقى خطاباً لافتاً امام مجلس الشؤون الخارجية في كانون الاول ديسمبر الماضي، تحت عنوان "اميركا آمنة مجدداً"، اعلن فيه ان الساعين الى ترشيح الحزب الديموقراطي "يجب ان يقدموا للشعب الأميركي اكثر من مجرد الغضب وأكثر من الانتقادات لسياسة بوش، بل اكثر من الحلول المجتزأة. يجب ان نقنع اميركا بأننا كديموقراطيين مسؤولون عن الأمن القومي ودور اميركا في العالم". ويواجه كيري اليوم تحدياً كبيراً في اقناع انصار الحزب الديموقراطي، المنقسم على نفسه، بأنه يملك سياسة خارجية بديلة قابلة للتطبيق في عالم متغير. ودفع هذا الانقسام في القاعدة الانتخابية للحزب، المرشحين الديموقراطيين، وبينهم كيري، الى تبني سياسات هي خليط من معارضة الحرب وتأييدها، بهدف كسب اكبر عدد ممكن من الأصوات، وضمان ترشحهم عن الحزب. وشكل المرشح هوارد دين الذي عارض الحرب من دون هوادة، عامل ضغط بسبب شعبيته لدى معسكر السلام الاميركي. وتسبب الوضع في تسميم الأجواء داخل الحزب، ودفع كيري الى مواقف تكتيكية، يواجه اليوم مشكلات في اعادة تشكيلها لتصبح استراتيجية متماسكة. وكان المرشح الديموقراطي يأمل بأن يتحول الرأي العام عن مسائل الامن القومي مع مرور الوقت، ليعيد التركيز على المسائل الداخلية الأكثر اماناً. إلا ان الوضع في العراق لم يسمح بذلك، واضطر المرشح الديموقراطي، تحت ضغط اتهامات بأنه ليس جدياً في موضوع الامن القومي، الى اتخاذ مواقف تزايد احياناً على مواقف ادارة بوش في شدتها، على رغم تخليه عن البعد الايديولوجي الذي ميز هذه الإدارة. وبسبب موقفه هذا، بقي كيري يعاني اتهامه بالتقلب والتذبذب. فمن تأييده ضرورة التخلص من صدام حسين ونظامه وتصويته في مجلس الشيوخ بتفويض بوش شن الحرب، الى تمسكه بأن الأخير "شن الحرب الخطأ في المكان الخطأ والزمان الخطأ"، وعرض ذلك كيري لحملة سياسية واعلامية مدمرة. فهو في حال تمسك تماماً بمعارضة الحرب، اتهم بالضعف امام التحديات الخارجية، وعند تبنيه عقيدة الضربة الاستباقية واستخدام القوة في احتواء التهديدات الامنية، اتهم بأنه نسخة ممسوخة عن بوش، ما يهدد بخسارته قاعدة انتخابية مهمة تبلورت بعد حرب فيتنام، وأيدت هوارد دين. هكذا وجد كيري نفسه عالقاً بين موقفين، من دون القدرة على بلورة سياسة خارجية متماسكة تجاه العراق تصمد امام امتحان الرأي العام. وبدا في مراحل سابقة ان بوش ضمن الفوز بولاية ثانية. لكن تفاقم الأوضاع في العراق، واتساع رقعة الارهاب المعادي لأميركا وحلفائها، اعادا ترتيب الخريطة السياسية. وبدلاً من النظر الى سياسة بوش على انها صورة للحزم في مواجهة المصاعب، بدأت تبدو اقرب الى العناد منها الى التمسك بسياسة حكيمة. وزاد عدد المشككين بقدرة الرئيس وفريقه على الاعتراف بالخطأ وعلى تحقيق الاستقرار في العراق وإقامة نظام ديموقراطي على انقاض النظام المخلوع. صقور ديموقراطيون وخطة للعراق يتميز فريق كيري عن الفريق الذي عمل مع بوش في حملته الانتخابية الأولى، بأنه يتألف من محترفين في شؤون الامن القومي مثل بيرز، مقارنة بريتشارد بيرل وبول ولفوفيتز وهما من اصحاب الايديولوجيات الذين عملوا لتقويض العمل المؤسساتي المحترف. إلا ان الاسماء المرشحة لمناصب مهمة في ادارة كيري، خصوصاً في مجال السياسة الخارجية والامن القومي، تشمل ايضاً صقور الديموقراطيين مثل كينيث بولاك، مؤلف كتاب نشر عام 2002 ودعا الى اطاحة نظام صدام حسين، اضافة الى اعضاء في ادارة كلينتون سابقاً يؤمنون باستخدام القوة، على رغم انهم يختلفون مع ادارة بوش حول كيفية استخدامها لتحقيق اهداف السياسة الخارجية. وفيما ازداد الوضع في العراق سوءاً، رفع كيري وتيرة انتقاداته لإدارة بوش، وأعلن خطة من ثلاثة اجزاء لمعالجة الوضع تتركز حول تدويل القوة العسكرية بمساعدة بريطانياوفرنسا وروسيا والصين والحلف الأطلسي. واقترح ان يتسلم الحلف مهمة حماية الحدود وتدريب القوات العراقية. وتدعو الخطة الى تعيين مفوض عام للإشراف على التحضير للانتخابات، وتنظيم عملية اعادة الإعمار في شكل يضع حداً للانطباع بوجود احتلال اميركي للعراق. الا ان اعلان فرنسا وألمانيا رفضهما ارسال قوات الى العراق، بصرف النظر عن الفائز في الانتخابات الاميركية، احبط جزءاً من الخطة وأضعف صدقيتها. غير ان المرشح الديموقراطي تمسك بوجود فروق مهمة في سياسته الخارجية. وأشار الى ان ادارة بوش تركز على التهديد الذي تمثله دول "مارقة" واحتمال تقديمها الدعم لتنظيمات ارهابية، فيما يركز فريقه على مكافحة التنظيمات الارهابية نفسها بوسائل بوليسية. ويعتبر بعض المستشارين في فريق كيري ان اطاحة الانظمة "المارقة" اشبه بمحاولة اطفاء النار بالبنزين، كما حدث في العراق حيث انتشر الارهاب واتسع. وقال جوناثان واينر ان التهديد للولايات المتحدة لا يأتي من دول محددة، بل من احتمال انهيار السلطة في منطقة واسعة تمتد بين غرب افريقيا والشرق الأوسط والدول الاسلامية وجنوب آسيا. واعتبر ان الفقر والمرض والجهل والتطرف والاستبداد هي عناصر تغذي بعضها بعضاً وتتسبب في القلاقل. وأشار الى ان فشل دول المنطقة يعبر عن نفسه بمشكلات مثل مشكلة اللاجئين وانتاج المخدرات وتهريب الاسلحة وانتشار الشبكات الارهابية، ورأى أن الحل يكمن في مقاربة المشكلات مجتمعة وليس التمسك بالحل العسكري وحده، كما فعلت ادارة بوش. وأشار الى ان الادارة تحدثت عن نشر الديموقراطية في المنطقة، الا ان مقاربتها العسكرية عملت بشكل يتناقض مع الظروف الواجب توافرها لانتشار الديموقراطية. ويبدو عشية الانتخابات الرئاسية ان فرص كيري في الفوز وفي تطبيق سياسة خارجية بديلة ستعتمد الى حد كبير على مدى نجاحه في اقناع غالبية الناخبين بأن لديه فعلاً سياسة خارجية بديلة.