"لا نملك شيئاً نخسره" ... هكذا كان لسان حال اقطاب المؤتمر السنوي الثاني للحزب الوطني الحاكم في مصر بعد ثلاثة أيام من الجدل اختتمت بجملة من التوصيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتأكيد أمين السياسات السيد جمال مبارك أن "الحزب سيواصل العمل مع الحكومة للتأكد من ترجمة هذه الأفكار إلى تشريعات أو إجراءات تنفيذية". وعلى رغم أن المؤتمر بكل توصياته رسم صورة المشهد السياسي لمصر خلال سنة الاستحقاقات الرئاسية والبرلمانية العام المقبل، إلا أنه لم يحسم الجدل مع المعارضة والنخبة المصرية في شأن الإصلاح السياسي والدستوري، بل زاد من مساحة الخلاف وعمق التباين في هذا الصدد. لكن ذلك لا يمنع القول ان ملامح للمستقبل بدأت في التشكل من خلال إرهاصات حرص قادة الحزب على تأكيد معانيها في تصريحاتهم المتتالية. فوقائع المؤتمر تتجاوز الجدل والخلاف بين الحزب الحاكم وبين المعارضة في شأن الإصلاح السياسي، كما تتجاوز ملامح المشهد السياسي المصري لعام مقبل. وتبدو كواليس المؤتمر أهم بكثير من الحديث عن الواقع الآني إلى المستقبل البعيد الذي سيشهد مصاعب وأزمات مجتمعية عنيفة جراء كلاسيكية الحلول التي تبنتها الحكومات المصرية وساندها الحزب الحاكم على مدار ما يزيد على ربع قرن. فالواقع ان الأوضاع الاقتصادية مأسوية. وبحسب وزير الاستثمار الدكتور محمود محيي الدين، مهندس السياسة الاقتصادية الجديدة، فإن "حجم الاستثمار في مصر أقل من امكاناتها وأدنى بكثير من طموحاتها"، واصفا الرؤى الجديدة بأنها "ثورية أو غير تقليدية"، وهو محق في هذا التوصيف، كونها تطرح أبعاداً فريدة من نوعها للمرة الاولى في تاريخ الدولة المصرية. وبحسب وثيقة "السياسة الاقتصادية"، فإن الحكومة مقبلة على بيع كل الشركات سواء الخاسرة أو ذات الربحية العالية. وتتكامل الرؤى بطرح أفكار جديدة للعملية التعليمية وللتأمين الصحي، والخدمات العامة من جوانبها كافة بالتأكيد على إعادة هيكلة العمليات التمويلية لتلك القطاعات التي تمس حياة عشرات الملايين بصورة مباشرة وتقوم الحكومة بتمويل الجانب الأعظم منها، وهو ما سيؤدي في حال حدوثه إلى تغيير واسع في طبيعة العلاقات بين الدولة والمواطنين على عكس ما استقرت عليه لعقود طويلة كانت خلالها الدولة مسؤولة في صورة مباشرة عن الكفالة الكاملة لاحتياجات المواطنين. وتمتد ملامح "المشروع الجديد" إلى تغيير جذري في مفهوم الدولة للمستثمر ولأساليب الإدارة في التعاطي مع نشاطه ولمعنى ودور الأجهزة الرقابية التي كشفت الكثير من مواطن الخلل والفساد الإداري والمالي في السنوات الأخيرة. "فالمستثمر بريء حتى تثبت إدانته". عكس ما كان سائداً من قواعد لسنوات طويلة، وهو "شريف يسعى إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية حتى يثبت العكس"، وحتى "لو أخطأ مرة وأخرى لن ندينه حتى نتأكد من صحة الاتهامات" بحسب ما أعلن وزير المال الدكتور يوسف بطرس غالي. من هنا يمكن القول إن شعار "الفكر الجديد" الذي تبناه الحزب بقيادة "الجيل الشاب" منذ عامين بدأ في التبلور والنضج بطرح رؤى ومفاهيم متكاملة في جوانب شتى تطال نواحي الحياة المختلفة للمصريين، وتهدف إلى التحول بمفهوم الدولة لجهة "المنظم والمدير" لكل أشكال العلاقات المجتمعية. وهي بذلك لا بد أن تتخلى عن مفهوم "الخصم والحكم"، و"المحتكر الأكبر"، و"المسؤول الأول" الذي مارسته في ظل عقود اتسمت إما بالشمولية السياسية التامة أو ببروز "ملامح الليبرالية" بدرجة أو بأخرى. وتكمن أزمة "الفكر الجديد" في الإصرار على أحادية التحليل والتمسك بمبدأ إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومنحه الأولوية المطلقة على ما عداه من جوانب الاصلاح الأخرى وفي مقدمها الجوانب السياسية وتلك المتعلقة بدمقرطة المجتمع واطلاق حريات الرأي والفكر والتعبير. والفصل بين الدولة والحزب الحاكم، وتغيير المفاهيم الحزبية من الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة إلى حزب الغالبية وأحزاب الأقلية. لكن متابعة ما حدث في المؤتمر وخلفيات التوصيات الصادرة عنه تشير إلى امتلاك رؤية تقوم في جوهرها على الربط بين تواصل عملية اصلاح الحزب الحاكم وبين جرعات الاصلاح في المجتمع خصوصاً في الجوانب السياسية. ويبدو أن ما يحكم هذه الفكرة يرتبط بدرجة أو بأخرى بالثقة في ضعف وجود الحزب على المستوى الشعبي بعد سنوات طويلة من اعتماده على الدولة بإمكانياتها وقدراتها الجبارة، خصوصاً بعدما كشفت النتائج المريرة للانتخابات البرلمانية الأخيرة العام 2000 عن التدني الرهيب في شعبية الحزب اثر خسارة 60 في المئة من مرشحيه الرسميين لمقاعدهم في البرلمان. فالرهان القائم من جانب الإصلاحيين في الحزب يعتمد على تبني تدابير وسياسات تتيح لهم تحقيق انقلاب في معادلة توازنات القوى أمام الرأي العام. وإذا كان من الصعب القول بوجود خطة ستنتهي إلى الفصل بين الدولة والحزب. وتذهب إلى دمقرطة المجتمع، فإن من السهل القول بوجود رغبة حقيقية لدى قادة الجيل الجديد في إصلاح الأوضاع الداخلية بتحويل الحزب من أداة تستخدمها الحكومة لتمرير سياساتها وقوانينها في البرلمان إلى هيئة تملك مقومات طرح الأفكار والرؤى وتستطيع مجادلة أحزاب المعارضة ومنافستها أمام الناخبين، واستنهاض الروح الحزبية في صفوف انصارها للدفاع عن تلك السياسات. فالمؤتمر السنوي الثاني للحزب الحاكم يمثل بداية حقيقية في هذا الاتجاه. فمنذ أن أطلق شعار "الفكر الجديد" في المؤتمر العام الثامن العام 2002 وبعد عامين من هزيمته البرلمانية الساحقة، انجز الحزب في مؤتمره السنوي الأول أوراقاً حملت ملامح وإرهاصات نحو امتلاكه للمرة الاولى وثائق سياسية، بعدما كانت المؤتمرات الحزبية مجرد احتفالات مظهرية. وانتقل المؤتمر الثاني إلى محصلة صوغ تلك الوثائق في رؤى متكاملة الجواب بغض النظر عن تقويمها تجري مناقشتها وإقرارها في الحزب تمهيداً لعرضها على الحكومة وإحالتها على البرلمان. لذا كان طبيعياً توجيه قادة "الجيل الجديد" جل اهتمامهم للحديث عن صدقية الحزب أمام الرأي العام بطرح شعارات اقتصادية واجتماعية وسياسية قابلة للتنفيذ وتكون أساساً لوضع الحزب وسمعته على المحك في الانتخابات البرلمانية المقرر لها العام المقبل وهي المقولة التي تكررت كثيراً في العديد من تصريحات القادة الجدد الذين انفردوا بشؤون المؤتمر للمرة الاولى منذ بدء تجربتهم قبل عامين، حيث بدا واضحاً الإقصاء غير الرسمي لنفوذ ما تبقى من الحرس القديم. وفي هذا السياق يمكن توقع إقدام الحزب على خطوات أكثر تقدماً في مجال الإصلاح السياسي عقب الانتخابات البرلمانية والتي ستكون مؤشراً على مدى نجاح الجيل الشاب في تثبيت نفوذ الحزب والخروج به من مأزق الانتخابات الأخيرة. فضلاً عن الرغبة في استغلال الاستحقاق الرئاسي والاستفتاء على ولاية جديدة في طرح رؤية تمثل إطاراً لعملية الاصلاح ويكون برنامجاً للولاية الجديدة التي تستمر ست سنوات وفقاً للدستور. على هذا الأساس يمكن فهم الأسباب الحقيقية وراء تحفظ الحزب الحاكم عن تقديم رؤية شاملة للإصلاح السياسي على عكس ما فعله في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي عندما سعى لاستغلال هذين الملفين في تثبيت أقدامه بين الناخبين خصوصاً في الريف حيث الاقبال العالي على التصويت وحيث يعاني الملايين من تداعيات مشكلة البناء على الأراضي الزراعية والتي قدم فيها مؤتمر الحزب حلولاً ستعكس بدرجة ما أثراً إيجابياً لمصلحة مرشحيه. التحدي الحقيقي الذي يواجه إصلاح الحزب وتطويره يتمثل في مدى نجاح قادته في تمرير أفكارهم ورؤاهم إلى المستويات الوسيطة والقيادات المحلية التي اعتادت الأداء التقليدي طوال ما يزيد على ربع قرن اعتمدوا خلالها على نفوذ الدولة في حل مشاكلهم، وهو ما انعكس في مناقشات جرت في إحدى اللجان الفرعية المغلقة في المؤتمر اقترح فيها البعض منع الخدمات عن القرى التي لا تصوت لمصلحة مرشحي الحزب، واقترح البعض الآخر تغيير العُمد في هذه القرى، الأمر الذي لاقى حسماً غاضباً من مسؤولي اللجنة المنتمين للأفكار الجديدة والذين أصابهم ولا شك جانب من الاحباط في مدى نجاحهم في اختراق أسوار الفكر الاستبدادي المسيطر على عقول الكثير من القيادات الوسيطة. وإذا كانت نتائج المؤتمر حددت ضمن تداعياتها تحديات سيواجها الحزب الحاكم في عام الاستحقاقات، فإنها في المقابل دفعت بالمعارضة السياسية إلى موقع التحديات من منظور مختلف. فالتوصيات الصادرة في مجال الاصلاح السياسي تؤشر إلى امتلاك الحزب تصوراً جزئياً يربط بين حلحلة الموقف القائم وبين الطموحات المرتبطة بقدرات الحزب ويفتقد لتصور استراتيجي يحدد مصير تلك الاصلاحات ومستقبلها. وفي المقابل فإن أحزاب المعارضة الشرعية التي طرحت برنامجاً شاملاً للإصلاح السياسي لم تتمكن من صوغ تصورات عملية لكيفية القفز بالمجتمع من حالة جمود وسيطرة مطلقة للحزب الحاكم إلى مجتمع تسوده مفاهيم ليبرالية حديثة تتقارب مع الحاصل في المجتمعات الأوروبية ذات التاريخ العريق في مجالي الديموقراطية والحريات. القصور في رؤية الاصلاحات السياسية التي أحالها المؤتمر إلى تفاصيل فنية تعكس الرغبة في تحريك الأوضاع وتحسين مستوى المشاركة الشعبية فقط، منح المعارضين الحق في التشكيك في جدوى هذه الخطوات وجدية الحزب الحاكم في بلوغ أهداف محددة وواضحة وفقاً لبرنامج زمني متدرج يحسم إذا ما كان هناك رغبة حقيقية في الاصلاح أم مجرد خطوات جزئية هنا أو هناك لاستيعاب الضغوط. لكن بعض قادة الحزب من الجيل الجديد يعتقدون أن تلك الخطوات تمثل مستوى لائقا لمجمل معطيات المشهد المصري من مقاطعة للحياة السياسية والحزبية ونفور من المشاركة في الانتخابات العامة. وهو ما يجعل الحديث عن اصلاح سياسي شامل وفوري "عبثاً" ستجني ثماره أطراف معادية للديموقراطية، والأجدى للمعارضة أن تقبل بالتدرج لاستعادة دورها. غير أن تساؤلات مشروعة فرضت نفسها على نتائج المؤتمر. ففي ظل غياب وثيقة استراتيجية للاصلاح السياسي ما هو الضمان لاستمرار الحزب الحاكم في نهج التدرج الذي يقول به؟ وهل ستسهم التعديلات الجزئية على قانون هنا أو إجراء هناك في إضفاء أجواء الديموقراطية على الممارسة السياسية في مصر؟ وهل النص المقترح في ميثاق الشرف بتجريد المسؤول التنفيذي من نفوذه في الانتخابات البرلمانية كفيل بمنع ذلك في غياب تشريع يجرم هذا الاستغلال لجني الأصوات؟ وما هي الوسائل التي ستمنح المعارضة نفوذاً متساوياً مع الحزب الحاكم في وسائل الإعلام الرسمية المهيمنة على الغالبية الكاسحة في الرأي العام؟ وإذا كانت توصيات المؤتمر اتجهت إلى الإلحاح على الحوار مع المعارضة، إلا أنها لم تحدد أجندة واضحة لبنوده واكتفت بالاشارة إلى التمسك بالمبدأ وتنفيذه بعد المؤتمر من دون توضيح إذا ما كانت المقترحات الصادرة عن المؤتمر ستكون جزءاً من الحوار أم أنها ستجد طريقها للتشريع، وأن يمتد الحوار إلى قضايا أخرى أبعد ليصبح الحوار في حد ذاته هدفاً وليس وسيلة لبلوغ الهدف. التحدي لا يقتصر على الحزب الحاكم بل يمتد أيضاً إلى المعارضة التي باتت مطالبة بتقديم أفكار أكثر تفصيلاً من الشعارات العامة التي اعتادت إعلانها دوماً والانتقال إلى مرحلة الرؤى المرحلية المؤدية للهدف. وعلى وجه أكثر تحديدا بات عليها التحول من الدعوة لإلغاء القوانين إلى الدعوة لكيفية تعديل بنودها بما يتيح إمكان إشاعة الديموقراطية في مرحلة تلو الأخرى. لذا فإن تداعيات المؤتمر السنوي الثاني للحزب الوطني الحاكم ستكون علامة فارقة في مسيرة الإصلاح السياسي التي طالت فصولها كل الاتجاهات حاكما ومحكوما، شرعيا قانونيا وشرعيا مجتمعيا، وباتت كل الأطراف على المحك وفقاً لقدرتها على طرح أفكار وآراء تسهم في حلحلة الأزمة المستحكمة للمجتمع المصري وتنجح في اجتذاب الناخبين بعد أن القى الحزب الحاكم بالقفاز في وجه الجميع وأعلن التحدي في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وإن كانت المعارضة ما زالت ترى أنها ستتم وفقاً لشروطه وما حدده من قواعد عامة تتحكم في إطاراتها الرئيسية بما لا يضمن إجراء انتخابات نزيهة تقف فيها كل الأطراف متساوية على خط الانطلاق. * من اسرة "الحياة" في القاهرة.