أدى ادخال التكنولوجيا الحديثة الى الدول التي يطلق عليها"النامية"الى احداث عدد من التغييرات المهمة في البنية الاقتصادية لهذه الدول. وقد تكون أهم هذه التغييرات والقول هنا جزافي نشوء قطاعات اقتصادية جديدة كقطاعي المعلومات والخدمات، وزيادة شبه مضطردة في اجمالي الانتاج المحلي. إلا أن مثل هذه التغييرات لم تحدث في البنية الاجتماعية لمعظم هذه الدول، إذ ما زالت هذه البنية كما كانت عليه سابقاً تتصف بالازدواجية، أي انه ما زالت هناك تلك النخبة القليلة العدد التي تعيش في بذخ وترف مقابل فقر مدقع تئن تحت وطأته الغالبية الساحقة من المواطنين. وسنرى في ما يأتي ان هذا النوع من التكنولوجيا الحديثة ساعد على زيادة وترسيخ حدة هذا التناقض الاجتماعي. لقد كانت الدول النامية تعتقد انه لدفع عجلة"التنمية"الى أمام يكفي الأخذ بوسائل وأهداف السياسة الصناعية المعمول بها في الدول الصناعية، دونما الأخذ في الاعتبار جدوى أو عدم جدوى تطبيق هذه السياسة محلياً. وهي لهذا كانت تستورد مصانع بأكملها تسليم مفتاح ذات تكنولوجيا متقدمة،"تغرسها"أي هذه المصانع في الأرض، وكأنه ليس عليها الا الانتظار لبعض الوقت لجني ثمارها. لقد تناسى الكثير من الدول النامية ومنها العربية بالطبع ان التكنولوجيا أيةّ تكنولوجيا تحمل عادة خصائص المجتمع الذي تنشأ وتتطور فيه. وهي حينما تطبق في مجتمع آخر يوفر لها الظروف المناسبة، فانها تؤدي به عادة لأن يصبح نسخة طبق الأصل عن مجتمع منشأها. إن التكنولوجيا الحاضرة في الدول الصناعية ما هي الا نتاج الخمسين الى المئة وخمسين عام الفائت. في هذه الفترة من تاريخ البشرية، كانت الدول الصناعية تتحكم في المقدرات الاقتصادية للكثير من المستعمرات، أي ما يطلق عليه اليوم بالدول النامية. وبفضل مركز القوة هذا، استطاعت الدول الصناعية أن تنهب وبكل معنى الكلمة الكثير من مصادر الثروة لهذه المستعمرات. في ذلك الوقت الذي كانت فيه هذه الدول تعاني عجزاً في اليد العاملة، كانت مستعمراتها تئن تحت وطأة فائض ضخم من اليد العاملة العطالة عن العمل. وعلى أساس هذه المعطيات تميزت التكنولوجيا الغربية بصفات خاصة منها أنها: - كثيفة رأس المال - مهدرة للطاقة - مسيئة الى حد ما في استعمال مصادر طبيعية لا تتجدد - باتجاهها المضطرد نحو الاتوماتيكية، أصبحت اليد العاملة أقل شأناً من السابق في عملية الانتاج. إضافة الى هذا، فإن التزايد المضطرد في اجهاد المصدر البشري، وكذلك المصادر الطبيعية في عملية الانتاج، أدى الى الاساءة الى"نوعية الحياة"وكذلك الى البيئة. ليس هناك من شك بأن الوظيفة المبدئية للتكنولوجيا بمعناها الغربي هي إشباع حاجات الأغنياء بدليل ازدياد الانتاج من"السلع الكمالية". ولا يخفى إذاً ان هذا يؤدي الى زيادة حدة عدم المساواة الاقتصادية بين الطبقات، ناهيك عن أنه طالما ان هناك أيضاً فوارق في مستوى التعليم، فإن هذا النوع من التكنولوجيا يساعد على دعم وترسيخ وسائل القوة لدى الأقلية المتعلمة ويبقي بقية المواطنين محرومين من المشاركة في عملية صنع القرارات. التوازن الاجتماعي إن ادخال هذا النوع من التكنولوجيا الى الدول النامية، يؤدي عادة الى تركيز النشاط الاقتصادي على بعض المناطق فقط، خصوصاً المدن مثل العاصمة والميناء اذا كان البلد يقع على بحر بينما تبقى أوضاع التخلف في الريف والمناطق النائية على حالها. وعن هذا النوع من النشاط الاقتصادي، والذي هو أبعد ما يكون عن التنمية، تحصل عادة نتيجة ذات حدين: الحد الأول: ازدياد في عدم المساواة في توزيع الدخل، ازدياد في البطالة، ازدياد في الفقر في الريف والمناطق النائية، ازدياد في الهجرة الى المدينة والمراكز الصناعية الأخرى حيثما وجدت أملاً بالحصول على العمل ولقمة العيش مع ما يترتب على ذلك من خلق مناطق ذات فقر مدقع أي مناطق العشيش في هذه المدينة، ازدياد في سوء توعية البيئة، وأخيراً وليس آخراً ازدياد في هدر الحقوق الاجتماعية لهذه الطبقات الفقيرة. الحد الثاني: ازدياد في استهلاك الطاقة والمواد الخام، وازدياد في الواردات، وأزمات متلاحقة في ميزان المدفوعات، اضافة الى ازدياد في"التبعية التقنية"وبالتالي السياسية، وهو ما ينجم عنه ضعضعة صنع القرار السياسي الوطني ومن ثم فقدان الاستقلال السياسي. على أي حال، فإن ما أصبح الآن أكثر مدعاة للانزعاج تأثير هذا النوع من التكنولوجيا على العمالة المحلية. فكلفة انشاء أو ايجاد"محل"عمل صناعي واحد للفرد الواحد هي من الضخامة 60 الى 90 ألف دولار حسب نوع العمل بموجب تقديرات أخيرة لمنظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية بحيث لا يعتقد ان الغالبية الساحقة من الدول النامية ومنها الدول العربية غير النفطية في ظل ظروفها الاقتصادية والمالية الحالية الصعبة تستطيع ان تستمر في سياساتها الصناعية الحالية بهذا النوع من التكنولوجيا المتقدمة، اذا ما أرادت توفير العمل لتلك الأعداد الهائلة من اليد العاملة العاطلة عن العمل وكذا للأجيال الناشئة. وحيث أن مثل هذه التكنولوجيا كثيفة رأس المال أي قليلة الاستخدام لليد العاملة فانها ستؤدي لا محالة الى زيادة في البطالة وبالتالي الى زيادة في الفجوة ما بين الغني والفقير، أي الى زيادة في حدة التناقض في البنية الاجتماعية لهذه الدول. التنمية بدل النمو هذه المراجعة تقدم دونما شك الدليل على أن تطبيق التكنولوجيا المتقدمة بمفهومها الغربي في الدول النامية يؤدي الى ثلاث نتائج، كلها بعيدة كل البعد عن المساعدة في عملية التنمية وليس النمو. وهذه النتائج هي: أولاً، تفاقم حدة عدم المساواة الاجتماعية. ثانياً، زيادة وتكريس وسائل القوة والتسلط للطبقات القوية أصلاً. ثالثاً، تردي البيئة المعيشية ونوعية الحياة للغالبية الساحقة من المواطنين. إضافة لهذا، فإن هذه النتائج قل: العواقب لا تتفق مع عملية تنمية قصد بها أصلاً تغيير البنية الاجتماعية والاقتصادية لصالح الغالبية، أو على الأقل لعدد كبير من المواطنين، وذلك على أساس الأهداف التالية: - انهاء أو تقليل ما أمكن عدم المساواة الاجتماعية بتحقيق الحاجات الأساسية للغالبية كالطعام والمسكن والملبس والصحة والتعليم والعمل والمواصلات، وذلك بدءاً بالطبقات المعدمة التي تشكل عادة الأكثرية. - دعم استقلالية الفرد بإزالة التحكم في السلطة ومصادر الثروة الوطنية من طرف الأقلية، وذلك عن طريق التأثير في ضبط عملية صنع القرار الاجتماعي. - تحسين أوضاع البيئة عن طريق سياسات عمليات اقتصادية تأخذ ذلك في الاعتبار. إن هذا النوع من السياسة التنموية وليس الانمائية يهتم في الدرجة الأولى بالانسان وبحاجاته الأساسية، وهو يختلف كل الاختلاف عن تلك السياسة التي تركز فقط على زيادة مجمل الانتاج المحلي، وذلك عن طريق زيادة الانتاج من السلع والخدمات التي لا يستفيد منها أصلاً وبشكل كبير سوى الطبقات الغنية. وفي الوقت الذي تركز فيه هذه السياسة التنموية مباشرة على الحاجات الأساسية للغالبية المعدمة، فإن سياسة النمو الاقتصادية تركز فقط على الأمل بأن فوائد هذا النمو ودونما الحاجة الى التوجيه ستعم الجميع في يوم ما. اضافة الى هذا فإن جوهر السياسة التنموية يسأل منذ البداية عن ماهية السلع والخدمات الواجب انتاجها، هذا في الوقت الذي لا ترى سياسة النمو التقليدية أي داع لطرح مثل هذا السؤال. في ضوء هذه الخلفيات لكل من السياستين، تبرز أحقية المطالبة بتكنولوجيا بديلة عن التكنولوجيا المتقدمة، وذلك للمساعدة على تحقيق التنمية، أي تحقيق الايفاء بالحاجات الأساسية للغالبية من المواطنين. وهذا يعني أن على هذه التكنولوجيا البديلة أي الملائمة: - ان تستطيع أولا وقبل كل شيء تحقيق المطالب الحيوية لأفقر الفقراء. - ان تستطيع تحقيق الاندماج الاجتماعي داخل المجتمع الواحد، بمعنى ان يتمكن كل أفراد المجتمع من المشاركة في صنع القرار الاجتماعي، لا أن يبقى هذا حكراً على طبقة وضعت نفسها في موضع الوصي على الغير بأساليب ملتوية ودونما خيار ديموقراطي لهؤلاء الغير. - ان لا تسبب اضراراً للبيئة، أي ان تساعد على ايجاد جو أفضل للعيش والحياة. وإذا كانت هذه الصفات الثلاث للتكنولوجيا الملائمة قابلة للتحديد بشكل أدق، إلا ان ما يجمعها كلها هو ان تكوّن سمة أو صفة مشتركة لمجتمع جديد، حيث أنها: - تساعد على أو تخفيف الفوارق بين الطبقات. - تركز فقط على انتاج السلع والخدمات التي تعتبر حاجات أساسية للغالبية. - هي الأفضل لخلق العمالة لامتصاص البطالة. - تركز على استعمال المصادر المحلية المتجددة. - تدعم الاستقلال الاقتصادي وبالتالي الوطني للبلد. - تساعد على التقليل من تلوث البيئة. التكنولوجيا واستراتيجية التنمية إن من أهم ما يجب اعتباره عند الأخذ بالتكنولوجيا الملائمة هو عملية الاختيار بحد ذاتها، بحيث تتضمن هذه العملية مدى امكان تطوير هذه التكنولوجيا للتناسب مع التغيير المستمر في أنماط وكيفية الاستفادة منها في الظروف والأماكن المختلفة في أرجاء البلد. انه من المهم أيضاً في عملية الاختيار مراعاة كل المصادر الداخلية والخارجية الممكنة للحصول على التكنولوجيا، أي انه يجب تقويم ايجابيات وكذلك سلبيات الأنواع التكنولوجية كافة في المساهمة بعملية التنمية، وذلك بغض النظر عن منشأ هذه الأنواع حيث أن التكنولوجيا الملائمة هي عادة خليط من هذه الأنواع. وحيث ان أهداف التنمية تتغير مع مرور الوقت، فإن عملية الاختيار يجب أيضاً ان تتلاءم مع هذا التغير. إن مبدأ التكنولوجيا الملائمة يحاول فقط توضيح نقاط أثارت الكثير من الجدل. فالمبدأ ليس ضد التصنيع أبداً، بل هو عملية التصنيع بحد ذاته. وكل فحواه هو تشجيع الانتاج وتحقيق الوسائل والأهداف الصناعية التي تفي بحاجة التنمية للجميع، لا حاجة تكديس الثروة والسلطة لدى الأقلية. إن هذا المبدأ ليس أيضاً ضد استخدام التقنية الحديثة، لكنه يطالب بخلق نوع من التوازن بين النتائج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية في عملية التنمية. فهو لا ينادي بالرجوع الى الوراء - بغض النظر عن مكان هذا"الوراء"- والاقتصار على استخدام التقنية التقليدية أي المحلية، بل يود ان تفهم هذه التقنية التقليدية بالمقدار نفسه الذي تفهم به التقنية الحديثة، وذلك لايجاد نوع من"الانسجام التقني"بين الاثنين. التكنولوجيا الملائمة لا تقتصر على الانتاج وعوامل الانتاج في القطاع الصناعي فقط، وانما تمتد الى القطاعات الاقتصادية الأخرى، وهي بالتأكيد ليست أقل تطوراً والمعنى هنا نسبي من التقنية الحديثة، بل يمكن اعتبارها بقليل من التفكير والتمعن متطورة جداً، طالما أنها الأكثر ملاءمة لعملية التنمية وتخدم الغالبية من المواطنين. وهي وان كانت لا تشكل بديلاً للتغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إلا أنها إحدى الضرورات المهمة لهذا التغيير من خلال عملية التنمية. انها على الأقل وسيلة مهمة لمخاطبة"ضمائر"أولئك المهتمين بعملية التنمية كالسياسيين والعلماء والتقنيين، حيث تمكنهم من التعرف على الاهتمام بقضايا المحرومين. والأهم من كل هذا، ان التكنولوجيا الملائمة تعتبر أداة مهمة في الصراع من أجل مجتمع جديد أكثر مساواة وعدلاً. التكنولوجيا الملائمة ليست وسيلة لخدمة أغراض خاصة معينة كتكديس الثروة والسلطة بيد أقلية حاكمة أو مستبدة، ولا هي اجراء موقت أو مسألة تكتيكية لمواجهة آلام الفقراء، ولا هي ايضاً وسيلة للتمويه والدعاية وذر الرماد في العيون لاشاعة خبر اهتمام الأقلية بمصلحة الغالبية، وانما هي جزء مهم من نظرة جديدة الى استراتيجية جديدة شاملة للتنمية. * اقتصادي مصرفي مدير سابق لبرنامج النقد والمال للجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا.